تصل الى فصلي حيث ادرس طلابي و طالباتي الشباب اللغة الانجليزية، طالبة شابة تتأخر يوميا. مرة تتأخر عشر دقائق ، مرة عشرين دقيقة ونادرا نصف ساعة. تصل الى الفصل و التوهان باد على عينيها. بمرور الوقت لاحظت عليها تشنج عصبي في تصرفاتها. تدخل احيانا الفصل دون ان تطرق الباب وهي تعلم انه غير مسموح لأي طالب دخول فصل بدون استئذان. احيانا تفتح الباب وتدخل لوسط الفصل في اندفاع كأنها كانت تجري اوبمعنى اصدق تهرب، خائفة من شيئا ما. لا تضع كتبها على طاولتها بل تقذفهن قذف !بحاسة الأم المزهرة في كياني خميلة رحمة شعرت ان وراء طالبتي هذه قصة. لكن لا اسمح لنفسي ان أسأل عن خصوصيات الطلاب. لكنني خمنت حين فكرت في حالتها انها ربما تحضر مشاجرات مستمرة بين والديها ، او ربما تتعرض لمضايقات الشباب في الشارع ، خاصة انها جميلة المحيا بما يظهر من عيناها و يديها. او لعلها ممن هزت الحرب اعصابهم . كلما دخلت متأخرة سجلت عدد دقائق التأخير .كنت اتغاضى عن الخمس دقائق لكن عشر دقائق و اكثر كنت اسجلهن لأن هكذا نظام المعهد الذي اعمل فيه. اذا ناديتها اثناء الدرس لتجيب على سؤال اوتقرأ كانت تفزع، و تشهق كأنما سمعت دوي صاروخ لا اسمها الجميل. جاءت الى يوما اثناء الخمسة عشر دقيقة راحة. جذبت مقعدا قريب و جلست على جانب مكتبي فيما كنت انا أكل سندوتشي. ابتسمت لي عيناها فابتسمت لها. بادرتني قائلة :-" كوني يا استاذة عون لي و ليس علي. لماذا تسجلين دقائق تأخيري كأنما انت من المتوهمين ان البلاد تمشي وفق نظم و لوائح و قانون." توقفت اللقمة في حلقي لهذه البدايةّ اجبتها :- " نظام المعهد ، ليس ذلك قسوة مني . انت تعرفينني." اضافت :-" انا يا استاذة اجي كل يوم في دباب. هل تعرفين يا استاذة الدباب؟ انت من اليمن حق زمااان. انا من جيل جمهورية الدباب العربية." لماحتاج لماء لإنزال اللقمة التي توقفت في حلقي لأنني شعرت دموعي تنهمر في حلقي حتى ابتلعت اللقمة . كنت قد خمنت شكواها. لا اعتقد ان في اليمن من يشفق على الشباب مثلما اشفق عليهم انا.انهم غصتي وحزني . علقت على كلامها قائلة:- " انا عون لك اكيد. مستحيل اكون عليك. ما مطلبك؟" تنهدت قائلة:- " توقفي عن تسجيل عدد دقائق تأخيري لأنها ستنزل درجتي النهائية." قاطعتها قائلة:- "هذا نظام الادارة ،و ليس مني صلف." علقت و عينيها تضحك:- " على رأي ام كلثوم نزام ايه اللي انت جاي تئول عليه؟ انا اصل المعهد يا استاذة في دباب. أتعرفين ما معنى كلمة دباب؟ ادخله فلا اجد لي مكان و رغم صغر سني وحجمي الا ان السيدات في الباص يتوسعن في جلستهن و يُجلسن حقائبهن ، يتشبثن بمكانهن فيجعلنني اتمنى لو كنت عنكبوتة لأتدلى من سقف الدباب. مثلهنمثل حكامنا. كل منهم يعض على كرسيه بأسنانه و يغرز مخلبه في ارجل الكرسي. الى الجحيم الناس جميعا. مثل حكامنا يا استاذة ضيعوا الدباب ، و الركاب من اجل مكانهم. لا ابالغ اذا قلت انني من جمهورية الدباب العربية. اما سائق الباص، فينقلنا بباص من العصر الحجري. اشعر انني اركب دابة عجوز تتمايل يمين و شمال. مقاعد رثة و اصوات معدنية عجيبة! مثل حكامنا الذين يطعموننا المر ، ثم بكل وقاحة يعددون لنا مزاياهم و منجزاتهم ، هذا وكلنا نعرف اننا في نهاية قائمة الدول المتخلفة. السائق مثلهم حين يغضب من راكب فيلعنه، او يرفع صوته داعيا الله ان يخلصه من هذه "المهره " النكد على حد تعبيره. "صمتت و صمت انا كذلك. اشفقت عليها و علينا جميعا. انها شابة حتى و لو كانت من جمهورية الدباب العربية لكنها تظل برغم كل شيء و أي شيء شابة . انا اذكر معنى كلمة "شابة". هي تتمنى حتما ان تتوظف في وظيفة " رائعة". هي تتمنى ان تكون العافية تاج رائع على جبينها. هي حتما تتمنى ان تتزوج بشاب رائع. تسكن شقة رائعة بأثاث رائع. تتمنى ان ترتدي فساتين رائعة. عطور رائعة ، سيارة رائعة. تتمنى كل شيء رائع ، كيف لا وهي شابة و الشباب نفسه مرحلة رائعة من اعمارنا. ها هي امامي تكافح لتتعلم اللغة الانجليزية لعلها تحسن من فرصتها في ايجاد وظيفة ُمجزية. واصلت طالبتي شكواها:-" انا يا أستاذة لا اتذكر انسانيتي حين اركب الدباب. تصبح رحلتي رحلة دفاع عن النفس. مثل ذهابنا و ايابنا في اليمن. نخرج قد نعود و قد لا نعود. اذا قرينا في بيوتنا قد نسلم و قد ُنقصف! اقطع المسافات من منزلنا البعيد و الطرقات مكسرة، اشجارنا عارية ثمارها اكياس علاقيات. القمامات تحتفل اعلاها ذباب الكوليرا. تقصفنا السعودية الظالمة ، يعلم الله مع كل صاروخ ينفجر أي اضرار ستصيبنا. في حارتنا فقط ثلاث حالات سرطان مؤخرا ، اخاف على نفسي و اريد فقط ان يتركونا نعيش! في اليمن ناس تركب لكزس اخر موديل و ناس مثلي دباب. منا من ينزل من الدباب و يهاجر خارج البلاد فنلوح له ، نصيح له من نافذة الدباب " سلامنا لجميع من لديكم" لأن من هم في الخارج بات عددهم اكثر.... بات من ينزل اكثر ممن فوق الدباب. مثل حال اليمن ، يفر من جورها اولادها. انا رأيت بعيني يا استاذة مشاجرة في الفرزة. بين سائقي الدباب و ثلة بلاطجة يأتون لأخذ اتاوات منهم بدون وجه حق. رأيت هراوات ، جنابي ،ُصمل، عصي، دسميس ، مسدس. بهذه الاشياء يتعاركون. لا اهرب و لا انزل لأنني اكون قد تسمرت بلا مسمار. بالأمس سائق باصنا اوقف الدباب و قال وهو يجذب فأس من تحت مقعده ، قال لنا انزلوا لكم ، صاحبي يضربونه هناك ، سأذهب لمساعدته. فأس يا استاذة؟ و في الأخير رأيت سائق دبابنا و صديقه يفرون تاركين الدباب و الركاب. يا روح ما بعدك روح. " دق الجرس. قامت لتعود الى مقعدها فناديتها :-" خلاص، لن اسجل تأخيرك." استأذنتها في كتابة القصة فأذنت لي ثم قالت يا استاذة اكتبي لكل من يقرأ يدعو الله ان يذهب عن اليمن هذا البأس و يفرجها على الدباب ، السائق ، الركاب و يأمن كل الناس. كل الناس يا استاذة. امين اللهم امين. مدونة الكاتبة في جوجل http://www.salwa-aleryani.com/ .... لمتابعة قناة التغيير نت على تيلجيرام https://telegram.me/altagheernet