هي إذن فوضى عارمة من الحكايات والأمكنة والأزمنة المفقودة، حالة من المراوغة الأبدية والافتقاد المرير لمن تشتهيهم الذاكرة، قلتكن مساحة او غابة تسكنها العتمة والصمت، أو لتكن مدينة يفضحها المطر المباغت وتعربد بها الزوايا المظلمة. ولتكن أيها التائه في مناكبها خطا مستقيما بين بدايات ونهايات مشبوهة، ولتكن كائناً فيه ما فيه من الفتنة المكسوة بالملل والغبار، وعليه ما عليه من الاخطاء الملساء المدهشة، تماماً مثل طفل يحلق لحيته قبل الصعود الى حافلة المدرسة بدقائق.. سأهبك الخيبة .. عبارة سمعها "صاحبكم" من شبح يلاحقه في الصحو والمنام، ويعلو صوته آمراً ومبشراً: "سأخلصك من أغلال الدهشة، فلا شيء سوف يستوقفك او يعنيك بعد اليوم، ستظل مأخوذا ابدا الدهر بما يشبه الوهم، مسكونا بفراغ المعاني والجمل غير المفيدة ، متدليا على المعاني العتيقة المسترخية باطمئنان، ومؤمناً بأن عصفورا على الشجرة أجمل من كل العصافير المقيدة في اليد" . سأهبك الصمت .. حتى يبدو فمك مثل ثقب هجرته الكلمات، وحدها الاحرف الساكنة هي التي ستكون لك، لكنك ستمتلك الابجدية الحرف تلو الآخر، وستبقى معزولا عن الجمل، وتلك المعاني الطويلة المترهلة، فالحكمة تعيش في الصمت، والموت يولد في الصمت، والحب ينمو بصمت، والبلاد المنهوبة من أولها الى آخرها تسقط رويدا رويدا وبصمت. سيكون لك حصان .. لا يعرف التوقف، وطرق ممتدة لا نهائية، وبدايات مبهمة مؤلمة، وعطايا من آلاف الاشياء التي لا تريدها او مملكة مستعصية على سيفك الخشبي، ومئات من النساء اللاتي يرفضنك رغم انك الرجل الوحيد الباقي على قيد الرجاء. سيكون لك المعنى .. تأخذه او تلقيه في سلة المهملات، لتدرك في النهاية أي نهاية تكون أنك مجرد من القدرة على الحياة كما هي، او كما اعتاد الناس على العيش فيها. سأهبك الماء .. ومعه ستتبخر صوب الامكنة الغافلة، حيث لا شيء يرضيك، وحده الماء تاريخ متكامل من الرأفة بالكائنات، الماء قاتل رحيم .. متواضع كالموت حين يتسلل من النافذة آخر الليل أو مطلع الفجر. اتخذ "صاحبكم" سمت الحكماء وهو يردد بثقة لا يدري كيف ومن أين انتابته : "في الحياة ثمة ما يدعو للبقاء على قيدها .. أو أسفلها أو حتى بين أصابها، إن لم يكن من ذلك بدُّ" . ..... وبعد نوبة سعال مزعجة شرخت صدره كما يحدث كل صباح، قال "صاحبكم" بنبرة اعتراف لا تخلو من ادعاء : "التدخين عادة سيئة"، ولأنه ادمن على العادات السيئة، فقد راح يدخن .. ويدخن .. تاركاً خلفه غمامة كثيفة، ظلت تعلو حتى ارتقت إلى ما قبل أفق الكون بقليل، حيث كانت كل الأمم تنتظر المطر والعدل والحرية والأمل وراحة الضمير .. وبقية الأمنيات المستحيلة .