كتب/ علي محسن حميد بعد أيام تتوقف الأنظار عن التوجه المكثف إلى جنوب افريقيا حيث تجري مباريات المونديال في هذه الجمهورية الفتية التي نجحت في جعله متميزا وجاذباوناجحا ومشرفا لها ولأفريقيا كأول مونديال في هذه القارة. هذه الجمهورية تبلغ من العمر ستة عشر عاما فقط ولو لم تكن جمهورية نلسون منديلا وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي لكانت جمهورية في عمر المراهقة وضبابية الرؤية والخوف من النكسات والانقلابات وصراعات السلطة المغوية والمفسدة كما هو الشأن في الغالبية العظمى من دول العالم الثالث. منديلاالقائدالأسطوري جعلها منذ أيامها الأولى جمهورية ناضجة متوثبة إلى الأمام وديمقراطية مستقرة يتم فيها التداول السلمي للسلطة كأمر طبيعي في حزب تظنه مارس السلطة لسنوات طويلة ولاخوف فيها أو عليها من انقلاب عسكري أو أي مفاجأة سياسية بسبب وضعها الذي يشبه في تنوعه القبلي أوضاع كل شعوب القارة الإ فريقية و كل الدول العربية وانتماءها إلى دول الجنوب التي لاتزال تتخبط ولم تشق طريقها نحو نظام ديمقراطي مستدام وتنمية اقتصادية وعدالة اجتماعية تهذب الصراعات وتبعث الرضا العام عن النظام . وبالمناسبة يعزو سودانيون مشكلة السودان إلى هيمنة ثلاث قبائل على القوات المسلحة وهذه القبائل الثلاث وراء الانقلابات ضد أنظمة ديمقراطية وأحد أسباب عدم استقرار السودان المهددة وحدته كنتيجة لهذه الانقلابات وماتلاها من سياسات بانفصال الجنوب عنه قريبا. أمة قوس قزح تسمية أطلقتها البي بي سي على جنوب افريقيا بمناسبة المونديال كإشارة إلى التنوع الإثني والثقافي والطبقي والتعايش والقبول بالآخر كنتيجة لانهيار النظام العنصري بعد نضال دام عشرات السنين ضد سياسة الفصل العرقي -الأبارتهايد- اللاإنسانية التي انكسرت واندحرت عام 1994 . الكل معجب بجنوب افريقيا ويعتز بتجربة المصالحة والتسامح التاريخية التي قبلها المناضل نلسون منديلا كحل وسط من النوع اللبناني - لاغالب ولامغلوب- والذي ترك السلطة مختارا وأرسى نموذجا متميزا ليس كثير الشيوع في افريقيا التي تمزقها التناحرات السياسية والقبلية وتعصف باستقرارها الانقلابات العسكرية. كان عام 1994 عام تحول ناجح في افريقيا كما كان عام1993 عام تحول فاشل في منطقة الشرق الأوسط.التحول الثاني ارتبط باتفاق اوسلو بين منظمة التحريروإسرائيل التي عملت ، رغم قصورالاتفاق وانتقاصه لحقوق فلسطينية سياسية وإنسانية وقانونية شتى، على التحايل عليه وإفراغه من مضمونه ناهيكم عن استمرار سياسة التهويد والاستيطان اللتين تسيران على قدم وساق وكأن ليس هناك عملية سلمية وأن التهويد والاستيطان لايتناقضان مع روحها ونصوصها.والواقع أن تاريخ التفاوض لم يشهد مثيلا لها من حيث فترة التفاوض التي تستهلكها ومن حيث استمراردولة الاحتلال في ابتداع وسائل عنصرية جديدة كالجدار الفاصل وكأن التفاوض كأي تفاوض سبقه في تاريخ العلاقات بين دولة مستعمرة وشعب محتل والعلاقات الدولية عموما لن يفضي حتما إلى إنهاء الاحتلال وإنما يشرعنه بقبول الخاضعين له في أن يعيشوا تحت احتلال مقنع وسيادة منقوصة واستقلال وهمي. في 1994 توقد أملاً في بقاع كثيرة بأن إسرائيل ستدرك أن سياسة الاستيطان وإنكار الحقوق والغطرسة العنصرية غير مجدية ولاتليق بقيم إنسانية هي الأعلى مقامافي عصرنا وأن إرادة الشعوب لها الغلبة في النهاية وأن مواصلتها لسياساتها تستدعي بالنتيجة ككل حالات الاستعمار التي انقرضت حتمية المقاومة العنيفة والدموية. قبل 230 عاما وقبل وجود التنظيم الدولي ممثلا بالأممالمتحدة وبقواعد القانون الدولي التي تحدد مسئوليات الدولة المحتلة وواجباتها وتقر بحق الشعوب في مقاومة الاحتلال قال آدم سميث مؤلف الكتاب- المرجع- ثروة الأمم خلال حرب الاستقلال الأمريكية من الاستعمار البريطاني بأنه لم توجد دولة تخلت طواعية عن مستعمراتها وأن الاستعمار مدمر للمستعمر وقامع للمستعمر( بفتح التاء). وكان هذا حال جنوب افريقيا وفلسطين التي لاتزال إسرائيل تعمل جاهدة على التهرب من التسليم بحتمية استقلالها.كانت افريقيا ومنطقة الشرق الأوسط على موعد مع فجر جديد في عامين متتاليين صدق في جنوب افريقيا وخيب الظنون في منطقتنا. وقد نجح في جنوب افريقيا لأن ماحدث هناك كان نوعا من تقسيم العمل وتوزيع المصالح والحفاظ على بعض الأمر الواقع خاصة في المجال الاقتصادي حيث منح الأفارقة سكان البلاد الأصليين السلطة السياسية بمشاركة الأقلية البيضاء بينما ظلت المصالح الاقتصادية لهذه الأقلية كما هي ولم يمسسها ضرر بل أتاح انتهاء النظام العنصري لها آفاقا وأسواقا كانت مغلقة أمام استثماراتها في القارة الأفريقية .في ابريل من عام 1997 عبر عن هذه الحقيقة وزير الدولة للشئون الخارجية في جنوب افريقيا حين سألته عندما شاركت كممثل للأمين العام لجامعة الدول العربية السابق في مؤتمر وزراء خارجية عدم الانحياز في نيودلهي عن أحوالهم بعد التخلص من النظام العنصري. برد موجز وبليغ، نحن في السلطة ولكننا لانحكم. والمعنى أن جنوب افريقيا بعد ثلاث سنوات من النظام الجديد لم تزل أسيرة قوى الهيمنة السابقة خاصة في المجال الاقتصادي .وفي نيودلهي على سبيل المثال كان تعيين أول سفير لجمهوية جنوب افريقيا غير العنصرية عام 1994 مفارقة كاشفة فقد كان البعض يتوقع تعيين ممثل المؤتمر الوطني الأفريقي في نيودلهي كسفير للعهد الجديد أو شخصية سوداء ولكن أول سفير لم يكن من الأغلبية السوداء وكان ممثلا لسياسة التسامح والتصالح مع الخصم السابق. الصورة في جنوب افريقيا ليست وردية وليست جميلة كجمال قوس قزح ومايحيط به من جمال الطبيعة فالجريمة متفشية فيها ومرض الإيدز يقتل الآلاف سنويا والأمن عزيز. وفي عام 2015 ستواجه أم المشاكل وهي إعادة توزيع الأراضي التي يسيطر عليها البيض وامتلكوا الكثير منها بطرق غير مشروعة أي نزع ملكيتها من البيض بطريقة قانونية وربما بتعويضات مجزية بموجب تسوية التراضي عام 1994. تحريرالأرض كان من أهداف النضال المسلح ضد النظامين العنصريين في كل من روديسيا (زيمبابوي) وجنوب افريقيا وبالاتفاق تأجل حلها في جنوب افريقيا إلى عام 2015 كقضية القدس واللاجئين والحدود بين فلسطين وإسرائيل. سياسة تأجيل القضايا الحساسة توحي بأن المخرج واحد. وفي عام 2015 قد تتحول جمهورية قوس قزح إلى جمهورية شريرة إذا حلت مشكلة الأرض على طريقة روبرت موجابي رئيس زيمبابوي وليس بطريقة مختلفة لايستطيع أحد التنبؤ بها لأن السود في جنوب افريقيا يعتقدون أنهم أصحاب الحق فيها ويريدون فعلا أن يشعروا بقيمة التغيير ومعناه وأن ماأخذ باطلا منهم لايرتب حقا. أما البيض فيزعمون كما يزعم بيض زيمبابوي بأنهم أصحاب حق مكتسب وأن الأرض أرضهم رغم أن مالكيها السود في زيمبابوي الذي لايزال بعضهم على قيد الحياة يدعون أنها انتزعت منهم بالقوة.هذه المعادلة الصعبة بأبعادها المحلية والدولية تعيها جنوب افريقيا ولعلها تفكر بوضع الحلول المناسبة لها مستفيدة من تجربة زيمبابوي. ومما يذكر أن جنوب افريقيا لم تستجب لمطالبات وضغوط بريطانية بطرد زيمبابوي من الكومنولث ولم تؤيد فرض العقوبات عليها لأنها تعلم أن الحق لايحتكره طرف واحد. جنوب افريقيا رغم تقدمها الصناعي والعلمي وكأفضل الدول الأفريقية تطورا في التعليم وأعلاها إنفاقا على البحث العلمي -وهذا من حسنات النظام السابق- تعاني من بطالة مرتفعة ومن مشكلة قادمة في الأراضي التي ليست هي الحل السحري للقضاء على البطالة ولكنها رمز لتغيير ولاستحقاق واجب مما يتطلب ابتكار حلول ترضي طرفي العلاقة التي ستتأزم بعد خمس سنوات.إن قرار إعادة توزيع الأرض محفوف بالمخاطر وله أبعاد ومخاطر سياسية واقتصادية محلية وخارجية ويحتاج إلى حكمة ومعالجة ذكية . الأقلية البيضاء التي فقدت السلطة ولم تفقد التحكم في مفاصلها وتسيطر على اقتصاد جنوب افريقيا لن تقبل بأي تهديد لمصالحها حتى ولو كانت هذه المصالح قد تحققت بطرق غير مشروعة وهي تعلم أن بني عرقها خارج جنوب افريقيا سيقفون بجانبها ظالمة أو مظلومة مؤيدين لها وملوحين بعقوبات ضد جنوب افريقيا وفي سابقة زيمبابوي مثالا ماثلا أمام الحكومة يطمئن الأقلية بأن الأخيرة لن تقترب من هذا الملف الشائك بدون حصافة مما قد يؤدي إلى تأجيل فتحه وتأجيل تحقيق العدالة .