إذا كان الرئيس صالح يواجه بالإمكانات المتاحة أمامه أزمات اليمن ويعمل جاهدا على فك شفرات المخاطر التي تعصف بالمشروع الوطني فأن المؤتمر الشعبي العام مازال ضائعا في متاهات الصراع على الصلاحيات بين الأمين العام ومساعديه، هذه المتاهات حولت أكبر آلة حزبية في البلاد إلى طاقة مشلولة، وأدت إلى تفاقم صراع داخلي أفقد المؤتمر قدرته على دعم جهود الرئيس لمواجهة التهديدات التي تعصف بالدولة والمجتمع. يؤكد الكثير من المتابعين للشأن العام أن رغبة الأمين العام في الاستحواذ والهيمنة على التنظيم، وتوظيف طاقته لتضخيم قوته وقوة من يتحالف معهم، في معمعة الصراع على القوة داخل منظومة الحكم، ربما تكون من الأسباب الجوهرية التي أدت إلى إدخال الحزب في أطره التنظيمية العليا وضعية الأزمة الغير قابلة للحل إلا بعقد مؤتمر استثنائي كما يطرح البعض وهو حل في تصوري غير مجدي لأن نتائجه ربما تولد أزمات أكثر عمقا واشد ضررا على التنظيم. يمكن القول أن الصراع بدأ يدب بهدوء داخل المؤتمر أثناء انعقاد المؤتمر العام السابع ولكنه أخذ مسار واضح بعد الانتخابات الرئاسية، خصوصا بعد أن برزت ملامح تشكيل حكومة جديدة، فقد قاوم البعض فكرة تشكيل الحكومة، ولكن الحكومة أعلنت بعد شد وجذب، وكان أبرز النتائج خروج القيادات الحزبية التي لها مراكز قيادية في الأمانة العامة من الحكومة، وقد تم تبرير الخروج بطريقة معقولة ومقبولة فالهدف من الخروج هو تفعيل حركة المؤتمر لمساعدة النخبة الحاكمة على مواجهة المعارضة والتحاور معها، وبهدف تفعيل الأعضاء للدفاع عن سياسات المؤتمر والحكومة، وتحسين صورتهما أمام الجمهور، ومن أجل تفرغ القيادات للقضايا التنظيمية المختلفة في مرحلة مهمة من الصراع السياسي في الساحة، وأيضا لبث الحياة في شرايين التنظيم استعداداً للانتخابات النيابية. وبعد التشكيل ظهرت تفسيرات مختلفة أبرزها أن عملية التشكيل الحكومي كمؤامرة دبرت بدقة متناهية وذكاء شديد لاستبعاد الأستاذ باجمال من الحكومة، وما دعم هذا الطرح هو التسريبات التي أكدت رفض رئيس الوزراء السابق التخلي عن موقعه، والطرح الذي حاول أن يؤكد أحقية المؤتمر من خلال أمانته العامة في تشكيل الحكومة، ولما عجزت تلك القيادات في تحقيق كامل أهدافها، بدأت تطرح فكرة أن يكون المؤتمر شريك للحكومة في صنع السياسات، ومراقبا عليها باعتبار ان أي خطاء تمارسه الحكومة يفقد المؤتمر شعبيته، وهذا الطرح رفضه رئيس الوزراء الجديد وقاوم بشدة الوصاية التي حاول البعض فرضها عليه. من الواضح أن مقاومة الدكتور علي مجور لفرض استقلاليته قد دفعت بعض القيادات لتبني حملة غير معلنة ضد الحكومة الجديدة، ويبالغ البعض في طرحه مؤكدا أن بعض قيادات المؤتمر تستخدم إعلام المعارضة والصحافة المستقلة لإضعاف حكومة الدكتور مجور وتقوم بتسريب المعلومات المختلفة لهز عرش حكومته، وأن نفى البعض هذا الطرح إلا أن المتابع لابد أن يلاحظ أن بعض القيادات في الحزب الحاكم منذ التشكيل الحكومي وهي تتعامل مع رئيس الحكومة وكأنه قادم من حزب آخر، هذه الحملة الخفية فرضت حالة من التباعد بين الحكومة وحزبها. هذه الوضعية التي فُرضت على الحكومة، يتعامل معها الدكتور مجور باتزان وتعقل بل أنه يواجه التركة الثقيلة للحكومة السابقة وسياساتها المختلفة بهدوء ويحاول إصلاح ما يمكن إصلاحه دون إثارة أي مشاكل أو زوابع سياسية ضد من يتعاملوا معه كخصم، وعلى ما يبد ان شخصيته الأكاديمية وخبرته السابقة وتعامله مع القضايا بعقلية التكنوقراطي المحترف وشخصيته الهادئة وثقته بنفسه جعلته يدير الحكومة بمعزل عن صراعات البحث عن القوة ومراكمتها، والمتابع لسلوكه السياسي سيجد انه يدير إعمال الحكومة كقيادي إداري لا يهتم كثيرا بالتحالفات وتناقضات السياسة. وفي طفرة غير مسبوقة لمواجهة الحكومة والإمعان في عزلها وممارسة الضغوط على منظومة الحكم ككل أنفجر قيادي مؤتمري في وجه الجميع بنظرية تؤكد أن المؤتمر الشعبي العام لم يحكم في تاريخية ومن يحكم البلاد هي مراكز القوى، وهو لم يأتي بجديد فالمؤتمر كحزب يتركب من قوى سياسية واجتماعية يجمعهم مشروع وطني واحد يتم التعبير عنه من خلال المؤتمر بصرف النظر عن الانتماء الحزبي وهذه القوى هي السند القوى للمؤتمر وتشكل القوام الفاعل في الساحة، وتشكيل الحكومة في الغالب يتم باختيار كوادر وطنية مؤتمرية أو قريبة من المؤتمر من القوى الجديدة والتكنوقراط وفي الغالب ما تكون هناك توصيات مقدمة من قبل قيادات في الحكم مقربة من الرئيس، وغالبا ما يكون لرئيس الحكومة دورا أساسيا في التشكيل. ربما كان يقصد القيادي المتحمس ان مراكز قوى في المعارضة تشارك في الحكم باختيار بعض الوزراء أو أن التشكيل يتم عرضه على قيادات في المعارضة لأخذ رائها قبل إعلان الحكومة، وفي هذه الحالة أن كانت صحيحة فأن للرئيس كرئيس جمهورية ورئيس للحزب الحق في مشاورة أي طرف مادام ذلك يخدم المصالح العامة ويقوى من شرعية الحكم بل أن إدخال عناصر من المعارضة في حكومة المؤتمر يمثل قمة المرونة والانفتاح ويساعد على تقوية الحكومة، وهذا أمر لا يتناقض مع مصالح الحزب بل يدعمها ويقويها، وفي الديمقراطيات العريقة تحاول القيادات تسليم وزارات للمعارضة رغم حصولها على الأغلبية فالرئيس سركوزي مثلا سلم وزارة سيادية ومهمة وهي وزارة الخارجية لاشتراكي ولم ينتقد هذا السلوك بل قوى من الموقف السياسي لساركوزي. قبل هذه النظرية التي عمقت من عزلت الحكومة عن حزبها انتفضت قيادات الحزب في بداية التفرغ الحزبي لقياداته، وفي مخيلتها حزب احترافي، وفي نشوة الحركة تضخمت مطالب الأطر التنظيمية، ودبت حركة نقد قوية، وصراع داخلي، فقد أدى تحريك المؤتمر في أطره التنظيمية، في وقت لا انتخابات فيه ولا مشاكل خطيرة تهدد بقاء منظومة الحكم، إلى بروز حالة من التنافس بين القيادات، كما أتضح لأصحاب نظرية الحزب المحترف أن المؤسسة عاجز عن تلبية المطالب الضخمة التي برزت عند محاولة تفعيل الحزب. طرحت أفكار لمراجعة طبيعة التحرك من قبل البعض، وهذا دفع الأمين العام لاتخاذ سياسات فردية، فكسر اللوائح والنظم قبل الأعراف في إدارة التنظيم، كانت نتائجها وخيمة على التماسك في الأمانة العامة، وبرزت مشاكل الصراع على الصلاحيات، ولتحقيق السيطرة على كافة المؤسسات من قبل الأمين العام، كان لابد من تصيد أخطاء الآخرين وتضخيمها، وتوظيف إعلام المعارضة لتشويه القيادات، وهذا حفز الأطراف الأخرى لحماية نفسها من الهجوم المباغت والعمل على بناء التكتلات والتحالفات داخل التنظيم وخارجه، كل ذلك وغيرها من المشاكل، جعل من المؤتمر أزمة معقدة تضاف إلى أزمات البلاد الصعبة. في تصوري أن المشكلة ليست في المؤتمر كآلية تنظيمية، وما يحدث هو صراع فرضته نظريات جديدة تصاغ في بناء مثالي هدفها تفعيل دور المؤتمر من خلال إعادة بنائه، وتطوير آليات عملة، وفرض إرادة المؤتمر كحزب على الحكومة وعلى القوى المختلفة الداعمة والمؤيدة للمؤتمر، وهذه النظرية قد تكون صحيحة إذا كان المؤتمر حزب عقائدي، ولكن المؤتمر أقرب إلى الأحزاب الحاكمة في الدول المتحولة نحو الديمقراطية في العالم الثالث، والتي تُدار شئونها في الغالب بالتوافق والتوازن، ومن خلال آلية عمل مرنة مختلفة عن آليات العمل التي تسير عليها الأحزاب الشمولية. المؤتمر حزب سياسي مرن تنتظم في إطاره أغلب القوى السياسية والاجتماعية التي ارتبطت مصالحها بالمشروع الوطني وهي التي تصنع للحزب قوته وهيبته، ودور الأمانة العامة هو ضبط إيقاع العمل وفق ما تقتضيه المصالح. المخاطر التي تواجه الأحزاب الحاكمة في العالم الثالث أن قياداتها العليا تكون جزء من القوى التي ترتكز عليها قوة الأحزاب، وهذا ما يجعلها تخرج عن وظيفتها وتحاول توظيف طاقة الحزب لصالحها، وقد يكون الأمر مقبول في حالة إدراكها لطبيعة التوازنات، ولكن خطرها يتفاقم عندما تتجاهل الواقع، وتدير صراعها وفق نظريات تخدع بها الآخرين وهدفها الخفي تقوية مركزها في منظومة الحكم من جهة وإضعاف الآخرين من جهة أخرى، ولأن الأحزاب الحاكمة في العالم الثالث تدار في الغالب من قوى محترفة فان الصراع يكون نتيجة طبيعية. ولابد من توضيح فكرة أساسية وهي أن المؤتمر حزب يدمج بين أحزاب المصالح وأحزاب البرامج وهذه الأحزاب هي أكثر الأحزاب نضجا في فهم الواقع، وتحمل مشاريع فكرية مرنة تجعلها قادرة على التفاعل مع الواقع بسهولة ومرونة، وهذه الأحزاب لها برامج متماسكة لكنها تتحرك في ظل خطوط عامة هي القيم والمبادئ الحاكمة للواقع والقيم الايجابية القادرة على تطوير الواقع وقادرة على حماية مصالح القوى التي يعبر عنها الحزب، وعندما تصبح هذه الأحزاب حاكمة في العالم الثالث فأنها تتحرك في ظل مشروع وطني يعبر عن القوى المختلفة المنضوية تحت رايته حتى وأن كانت متناقضة نوعا ما في مصالحها وحتى فكرها، وميزة هذه الأحزاب أنها تشكل أطارا جامعا لتلك القوى وفي الغالب ما يكون هناك قيادة كاريزمية قوية قادرة على ضبط الصراعات وتنظيمها. على ما يبد أن بعض القيادات في المؤتمر ليس لديها معرفة بطبيعة الحزب الذي تديره، هذا في حالة حسن النية، أما إذا افترضنا أنها تحمل أجندة خفية، فأن نظرياتها ربما تزيد من قوتها السياسية، ولكن النتائج ستكون سلبية على المؤتمر، وفي حالة الاستمرار في تجاهل طبيعة المؤتمر وتركيبته فأن المؤتمر سيدخل حلبة التنافس في الانتخابات النيابية القادمة وهو يعاني من أزمة حادة ومدمرة، أفضل نتائجها أن يصبح المؤتمر بحاجة إلى تحالف لتشكيل حكومة ائتلافية، وأخطر النتائج أن تصيبه نوبة من الضعف، ربما تجعل النخبة الحاكمة والقوى المرتبطة بها بحاجة إلى تأسيس حزب جديد إذا أرادت أن تحافظ على بقائها.