18 محافظة على موعد مع الأمطار خلال الساعات القادمة.. وتحذيرات مهمة للأرصاد والإنذار المبكر    بالصور.. محمد صلاح ينفجر في وجه كلوب    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    خطر يتهدد مستقبل اليمن: تصاعد «مخيف» لمؤشرات الأطفال خارج المدرسة    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    رواية حوثية مريبة حول ''مجزرة البئر'' في تعز (أسماء الضحايا)    اسباب اعتقال ميليشيا الحوثي للناشط "العراسي" وصلتهم باتفاقية سرية للتبادل التجاري مع إسرائيل    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    مجهولون يشعلون النيران في أكبر جمعية تعاونية لتسويق المحاصيل الزراعية خارج اليمن    جامعي تعزّي: استقلال الجنوب مشروع صغير وثروة الجنوب لكل اليمنيين    طالب شرعبي يعتنق المسيحية ليتزوج بامرأة هندية تقيم مع صديقها    تضامن حضرموت يحسم الصراع ويبلغ المربع الذهبي لبطولة كرة السلة لأندية حضرموت    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    ما الذي يتذكره الجنوبيون عن تاريخ المجرم الهالك "حميد القشيبي"    الزندان أحرق أرشيف "شرطة كريتر" لأن ملفاتها تحوي مخازيه ومجونه    الحوثيون يلزمون صالات الأعراس في عمران بفتح الاهازيج والزوامل بدلا من الأغاني    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    وفاة شابين يمنيين بحادث مروري مروع في البحرين    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    ضربة قوية للحوثيين بتعز: سقوط قيادي بارز علي يد الجيش الوطني    عملية تحرير "بانافع": شجاعة رجال الأمن تُعيد الأمل لأهالي شبوة.    الدوري الاسباني: اتلتيكو مدريد يعزز مركزه بفوز على بلباو    تشيلسي ينجو من الهزيمة بتعادل ثمين امام استون فيلا    مصلحة الدفاع المدني ومفوضية الكشافة ينفذون ورشة توعوية حول التعامل مع الكوارث    وصول أول دفعة من الفرق الطبية السعودية للمخيم التطوعي بمستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن (فيديو)    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    قيادية بارزة تحريض الفتيات على التبرج في الضالع..اليك الحقيقة    إصابة شخصين برصاص مليشيا الحوثي في محافظة إب    الشيخ الأحمر: أكرمه الأمير سلطان فجازى المملكة بتخريب التعليم السعودي    قبل شراء سلام زائف.. يجب حصول محافظات النفط على 50% من قيمة الإنتاج    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    فريق طبي سعودي يصل عدن لإقامة مخيم تطوعي في مستشفى الامير محمد بن سلمان    اختطاف خطيب مسجد في إب بسبب دعوته لإقامة صلاة الغائب على الشيخ الزنداني    ارتفاع إصابات الكوليرا في اليمن إلى 18 ألف حالة    أسفر عن مقتل وإصابة 6 يمنيين.. اليمن يدين قصف حقل للغاز في كردستان العراق    "نهائي عربي" في بطولة دوري أبطال أفريقيا    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    القبض على عصابة من خارج حضرموت قتلت مواطن وألقته في مجرى السيول    لماذا يخوض الجميع في الكتابة عن الافلام والمسلسلات؟    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    ريال مدريد يقترب من التتويج بلقب الليغا    حزب الإصلاح يسدد قيمة أسهم المواطنين المنكوبين في شركة الزنداني للأسماك    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    لا يوجد علم اسمه الإعجاز العلمي في القرآن    إيفرتون يصعق ليفربول ويعيق فرص وصوله للقب    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    لحظة يازمن    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسلاميون:ديناميكيات المشاركة السياسية
نشر في الوطن يوم 25 - 12 - 2008

من المؤكد أن الحركات والأحزاب السياسية في العالم العربي واحدة من أكثر القضايا الساخنة على صعيد العمل السياسي العربي، واختيار تلك الأحزاب والحركات المشاركة في العملية السياسية كخيار استراتيجي لعملها يعني اعترافها بشرعية الإطار الدستوري القائم، وهذا الاتجاه الذي التزمت به اكتسب متابعة واسعة من المحللين والمفكرين السياسيين.
هذه الدراسة، الصادرة في ديسمبر 2008 عن «مركز كارنيغي للشرق الأوسط» التابع ل «مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي»، تبحث في أشكال هذه المشاركة منطلقة من سؤالين رئيسيين: هل هي حقاً (الحركات والأحزاب السياسية الإسلامية) ملتزمة بالديموقراطية، وهل سيكون لهذه المشاركة أثر إيجابي يجعلها تتخذ مواقف معتدلة ويدفعها إلى التركيز على البرامج السياسية العامة أكثر من التركيز على النقاشات الأيديولوجية؟
مؤلفا الدراسة، مديرة برنامج «كارنيغي الشرق الأوسط» مارينا أوتاي، وتعد من كبار الباحثين في برنامج الديموقراطية وحكم القانون، وكبير الباحثين في المركز نفسه عمرو حمزاوي، وهو اختصاصي مصري بارز في علم السياسة، يؤكدان على أن تجربة مشاركة الأحزاب والحركات الإسلامية في المغرب، الجزائر، مصر، الأردن، البحرين، اليمن، إضافة إلى الأحزاب المسلحة في فلسطين ولبنان، تكشف عن مشهد معقد. وكما بينا من خلال هذه الدراسة فإن التزام كل حركة إسلامية بالديموقراطية يتقرر في نهاية المطاف بناء على توازن القوى بين الإصلاحيين والمتشددين في القيادة، والضغوط التي تمارسها القواعد الشعبية. كما أن توازن القوى يتأثر بالأوضاع السياسية في البلد المعني، وقبل أي شيء بما إذا كان مسموحاً للأحزاب والحركات الإسلامية بالمشاركة في الحياة السياسية التعددية في صورة مستدامة. وهذا نص الدراسة: تعتبر الأحزاب والحركات الاسلامية التي اتخذت خيارها الاستراتيجي بالمشاركة في العملية السياسية الشرعية في بلدانها، الى جانب المؤسسات الحاكمة، أهم العناصر السياسية الفاعلة في البلدان العربية. هذه الأحزاب والحركات، التي سنشير اليها في بقية الورقة باسم «الاسلاميون المشاركون»، معقدة الى أبعد الحدود. اذ هي تخضع الى تحولات دائمة بفعل صراعات القوى الداخلية والطريقة التي يسمح لها من خلالها بالمشاركة.
تستند الاستنتاجات في هذه الورقة في صورة أساسية الى تفحص تجارب أحزاب المشاركة الاسلامية في المغرب، والجزائر، ومصر، والأردن، والبحرين، والكويت، واليمن. كما تناقش الورقة باقتضاب المشاركة السياسية من قبل الاحزاب الاسلامية المسلحة في لبنان، وفلسطين. وباستثناء «جمعية الوفاق الوطني الاسلامية» في البحرين، فان كل الأحزاب والحركات الاسلامية تستمد أفكارها من جماعة «الاخوان المسلمين» وترتبط بها وان بوثاق غير محكم. وهذا ليس وليد الصدفة، اذ ان الأحزاب التي لها جذور راسخة في فكر «جماعة الاخوان المسلمين»، خضعت على مر الاعوام الى التحول الايديولوجي الذي يبرر مشاركتها في الحياة السياسية الشرعية في بلدانها. فهي أقرت، أولا، شرعية الدول العربية الحديثة، ما يعني انها تتخلى عن، أو على الأقل تؤجل الى مستقبل غير محدد، هدف اقامة دولة اسلامية تمثل جماعة، أو أمة، المسلمين كلها. وهي وافقت، ثانيا، على الفكرة ان المشاركة في الفضاء السياسي المتاح في بلدانها يمثل وسيلة مقبولة للنضال من أجل تحقيق أهدافها. وهي أقرت، ثالثا، وان بشيء من التردد والمقاومة من جانب الكثير منها، الفكرة بأنه في سبيل مشاركتهافي الحياة السياسية يتعين عليها قبول حق مشاركة الاحزاب والحركات ذات الالتزامات والأهداف الأيديولوجية المختلفة. أما التنظيمات السنية التي لا تستمد أفكارها من «جماعة الاخوان المسلمين» فلم تخضع الى تحوّل مماثل. وباستثناء الكويت، والبحرين، بقيت الجماعات السلفية متحفظة على المشاركة السياسية، وركزت بدل ذلك في صورة اساسية على الأنشطة الدعوية والى حد أقل على تقديم الخدمات الاجتماعية.
أسفرت المشاركة السياسية للاحزاب والحركات الاسلامية عن بروز همين أساسيين في العالم العربي والغرب. الأول يتعلق في ما اذا كانت هذه الاحزاب والحركات ديموقراطية حقا. والثاني في ما اذا كانت المشاركة نفسها ستفضي الى ترسيخ التزام هذه الحركات بالمعايير والأسباب الديموقراطية.وبالطبع يمكن، لا بل يجب، طرح التساؤلين السابقين في شأن أي حزب سياسي عربي آخر، بدءا بالاحزاب الحاكمة، أو في شكل أعم، بأي حزب سياسي يدخل المعترك السياسي في البلدان التي تعتبر الديموقراطية فيها نظاما سياسيا راسخا. ويمكن حتى طرح السؤال حيال بعض الأحزاب في الديموقراطيات الراسخة. ومهما يكن الأمر، فانه سؤال مهم يمكن طرحه على الاسلاميين الذين يثير قبولهم للديموقراطية لا مجرد قرارات استراتيجية يجب اتخاذها بل أيضا وأساسا مشكلات أيديولوجية محيرة.
ان الأسئلة المتعلقة بالتزام الاسلاميين المشاركين في العملية السياسية بالديموقراطية وبتأثير تلك المشاركة عليهم مهمة أيضا على وجه الخصوص لان هذه الاحزاب والحركات تمثل عناصر سياسية فاعلة رئيسة في الحياة السياسية العربية في الوقت الراهن، وستبقى كذلك في المدى المنظور.
وهي تمثل ثقلا لان رسالتهاتجد صدى طيبا لدى السكان شديدي التدين والمحافظين اجتماعيا، ولانها قامت أيضا وعلى مدى عقود بالاستثمار المتواصل في اعمال التنظيم وبناء القواعد بشكل يتجاوز كثيرا ما قامت به الحركات الليبرالية واليسارية المعارضة. علاوة على ذلك، تتعزز البنى السياسية للاسلاميين بالمنظمات الدينية والخيرية، كما بهيئات تقديم الخدمات الاجتاعية التي لعبت دورا مهما في اقامة ودعم شبكات الناشطين والانصار الاسلاميين.
لقد تراكمت الاسئلة في شأن أوراق اعتماد الديموقراطية للاسلاميين المشاركين، بسبب افتراض لا يستند الى أساس عموما بان من المرجح ان تكتسح الأحزاب والحركات الاسلامية الانتخابات اذا ما سمح لها بالمشاركة بحرية. ووفقا لوجهة النظر هذه، فان احتمال تحقيق انتصارات انتخابية يجعل هذه الاحزاب خطيرة حقا، لانها قد تلغي النظام الديموقراطي وتفرض حكما دينيا متى ما اصبحت في السلطة. هذه الفكرة لها رواج في العالم العربي، كما يتم تسويقها بشكل متعمد من قبل الحكومات التي ترغب في احتواء الاحزاب والحركات الاسلامية وفي تعبئة المعارضة العلمانية الى جانبها في مواجهتها. لكن الواقع ان نتائج الانتخابات توضح ان الاسلاميين الذين يشاركون في العملية السياسية أبعد ما يكونوا عن تحقيق انتصارات انتخابية ساحقة، وهم يكافحون راهنا للحفاظ على المكاسب المتواضعة التي حققوها سابقا. فقد شهدت الانتخابات الاخيرة في المغرب والاردن والكويت خسارة الاسلاميين في المجالس التشريعية وبين قواعدهم، ما ادى الى اثارة نقاشات داخلية في صفوفهم في شأن كلفة ومزايا المشاركة في الانتخابات الشرعية. صحيح ان الاسلاميين ربما حققوا نتائج أفضل على نحو ما في منافسة اكثر انفتاحا، الا ان الاتجاه التراجعي الذي كشفت عنه الانتخابات الاخيرة لا يدعم الافتراض القائل ان الاسلاميين يستطيعون بسهولة تحقيق انتصارات انتخابية كاسحة.
كانت الجزائر البلد الوحيد الذي بدا فيه الاسلاميون مهيئين لتحقيق الفوز في الانتخابات لو سمح للعملية بأن تستمر في العام 1991. كما كانت هناك حالة واحدة لانتصار اسلامي في انتخابات هي حالة «حماس» في فلسطين في العام 2006. وقد جرت كلتا العمليتين الانتخابيتين في ظروف استثنائية، اذا كانت الجزائر تخضع منذ الاستقلال في العام 1962 الى هيمنة حزب «جبهة التحرير الوطني» الذي كان يعتبر فاسدا وعاجزا عن تحقيق انجازات، فيما كانت قوى المعارضة الأخرى غارقة في حال من الفوضى. وبالتالي، لم يكن أمام الناخبين المصممين على التخلص من حزب «جبهة التحرير» من خيار سوى التصويت ل«الجبهة الاسلامية للانقاذ». وفي الانتخابات الفلسطينية العام 2006، فازت حركة «حماس»، لكن بشق النفس، في مواجهة حزب حاكم هو الآخر فاسد وغير قادر على اصلاح نفسه، وفي ظل غياب منافسين جادين آخرين. وليس ثمة دليل في هذه المرحلة على انه في ظروف طبيعية، في المغرب والجزائر مثلا، حيث توجد مروحة من الاحزاب السياسية الفاعلة ذات التوجهات المختلفة، يمكن للاحزاب الاسلامية نيل اغلبيات استراتيجية أو تحقيق انتصارات كاسحة في الانتخابات.
الأحجية الأيديولوجية
أطنان من الورق سفحت حول مسألة ما اذا كان الاسلام يتوافق مع الديموقراطية. وهو سؤال عقيم لان الاجابة عنه تعتمد على الكيفية التي تفسر بها المبادئ الأساسية للاسلام ومن قبل من. السؤال الحقيقي هو ما اذا كان يمكن للاحزاب والحركات التي تسمي نفسها اسلامية، وفي بعض الحالات تخوض حملاتها الانتخابية تحت شعار «الاسلام هو الحل»، أو «القرآن دستورنا»، قبول الديموقراطية في شكل كامل، اما ايديولوجيا او استراتيجيا.
على المستوى الايديولوجي ثمة توتر أساسي في الأحزاب والحركات الاسلامية بين الفكرة القائلة ان القانون يجب ان يستند الى كلمة الله، بمعنى ان يلتزم بالشريعة، وبين الفكرة ان القوانين في النظام السياسي الديموقراطي تسن على أساس حكم الأغلبية من قبل برلمانات ينتخبها الناس بحرية. اذ لا يمكن لحزب أن يسمي نفسه اسلاميا الاحتفاظ بدعم الانصار المسلمين له ان هو تخلى عن الشريعة كأساس للتشريع. وتتحايل معظم الدساتير العربية على هذه المسألة من خلال النص على ان الشريعة أحد مصادر التشريع بدل ان تكون المصدر الوحيد للتشريع. وفي الوقت نفسه لا يمكن لحزب ان يسمي نفسه ديموقراطيا ويجهد لايصال مرشحيه الى البرلمان. (كما يضغط سوية مع أعضاء آخرين في المعارضة لاقامة نظام سياسي مفتوح)، من دون قبول منطق التعددية والاعتراف بحكم الاغلبية بوصفها قاعدة ملزمة. هذا التوتر بين الرؤيتين الاسلامية والديموقراطية لم يجد حلا بشكل كامل من جانب اي حزب او حركة اسلامية بعينها. والحصيلة هي ان الفكر السياسي للاسلاميين المشاركين في العملية السياسية يتضمن عددا من المناطق الرمادية الغامضة، حيث يستمر صراع ايديولوجي وسياسي متواصل في داخل الاحزاب والحركات بين المتشددين، الذين يحاولون باستمرار توسيع المساحة المخصصة للشريعة في النظامين القانوني والقضائي لبلدانهم، وبين المعتدلين الذين يفضلون تفسيرا أكثر ليبرالية لما تعنيه الدولة القائمة على الشريعة.
ان الصراع بين التوجهات والتفسيرات حقيقي، وهذا ما يخلق صعوبة في الاجابة عن السؤال عما اذا كان أي حزب او حركة اسلامية ملتزمين بالديموقراطية وما من شك في ان ثمة افرادا في اوساط الاسلاميين المشاركين في العملية السياسية، بمن فيهم أشخاص يحتلون مناصب قيادية
رفيعة، يعتبر قبولهم للديموقراطية حقيقيا، ويرون الا حاجة لان يتصادم هذا القبول بالافكار والمثل الدينية، لكن لا شك ايضا ان هذا لا ينطبق على كل قادة الاحزاب والحركات الاسلامية واعضائها، اذ يعتمد التزام اي عنصر اسلامي فاعل بالديموقراطية او بقاؤه على هذا الالتزام، على نتيجة الصراعات الداخلية على السلطة، لان كل عنصر يتأثر بعمق بالبيئة السياسية التي يعمل فيها الاسلاميون.
من جانب آخر، لا تؤيد الشواهد الفكرة القائلة ان اختيار المشاركة السياسية من قبل الاحزاب والحركات الاسلامية هو ببساطة حيلة او خطة لاستغلال العملية للوصول إلى مناصب السلطة ومن ثم الغاء العملية الديموقراطية برمتها وفرض دولة دينية. وقد كان هذا، في جزء منه، التفكير السائد في الجبهة الاسلامية للانقاذ في الجزائر التي كانت خاضعة إلى سيطرة القيادة السلفية التي تعتبر الدولة الجزائرية الحديثة، لا حكومتها فقط، غير شرعية، ولم تخف نيتها اقامة دولة دينية بدلا منها. لكن لا يبدو ان هذ كان حال «حركة حماس» التي شاركت في الانتخابات من دون اي امل بالفوز، ولا حال حزب «العدالة والتنمية» في المغرب الذي ينافس بموجب قانون انتخابي يضمن عدم قدرة اي حزب على الفوز بغالبية المقاعد، ولذا فهو يدرك تماما ان مشاركته لا يمكن ان تؤدي إلى تغيير طبيعة الدولة. والحال ان حزب «العدالة والتنمية»، إلى جانب معظم الاسلاميين المشاركين في العملية السياسية، اما انه لم يختر قط ان يقيم دولة اسلامية، او انه اسقطها كهدف في سياق المشاركة في الحياة السياسية الشرعية، ولاتكتفي الاحزاب والحركات الاسلامية بالمشاركة من دون افتراض قدرتها على الفوز وحسب، بل ان الكثير منها يحجم متعمدا عن طرح عدد كبير من المرشحين في الانتخابات القومية او المحلية كي لا تشعر الحكومات بأنها مهددة.
على الصعيد الايديولوجي، لا يرى الاسلاميون المشاركون في العملية السياسية غضاضة في قبول آليات الديموقراطية وانتخاب القادة والقيود المفروضة على السلطة التنفيذية من قبل البرلمان والسلطة القضائية، وحتى في قبول فكرة امكانية استبدال القادة في انتخابات جديدة. ويجدر بنا هنا ان نكرر القول ان الاحزاب والحركات الاسلامية المشاركة قبلت بحكم الامر الواقع بشرعية الدولة - الامة الحديثة. وهذه مسألة لا تحظى بالاهتمام الذي تستحقه في الغرب، اذ ان القبول بالدولة - الامة الحديثة يضع حدا فاصلا واضحا بين الاسلاميين المشاركين وبين الجماعات الراديكالية. فالاخيرة ما زالت تركز على المجتمع الاسلامي ككل، وتعتبر الدول الحديثة، وليس حكوماتها فقط، لا شرعية، وتريد احياء الخلافة، من الناحية النظرية على الاقل.
والغريب انه في الوقت الذي تحظى فيه تصريحات الراديكاليين في شأن احياء الخلافة باهتمام كبير وتتسبب بقدر كبير من الاستنفار والقلق، رغم ان حظوظ حدوث ذلك تساوي حظوظ احياء الامبراطورية الرومانية المقدسة، فإن ثمة ميلا لتجاهل قبول الاسلاميين المشاركين الواسع للدولة- الامة. لكن حتى الاحزاب والحركات الاسلامية المشاركة التي لا تشكك في الآليات السياسية للانظمة الديموقراطية وفي شرعية الدولة - الامة، تواجه مشكلات في القبول التام بكل القيم المرتبطة بالديموقراطية في الغرب. وعلاوة على ذلك، حتى حين لا يناقش الاسلاميون المشاركون المبادئ الاساسية مثل حقوق الانسان وحقوق المرأة، فإن تفسيراتهم تتسق مع ما كان شائعا في الغرب في النصف الاول من القرن العشرين اكثر من اتساقها مع الاراء المعاصرة حاليا.
ان المشكلات الاكثر اهمية هي تلك المنبثقة من الصدام بين المبادئ الاسلامية وبين الديموقراطية، اكثر من الاتجاه الاجتماعي المحافظ للاسلاميين المشاركين في العملية السياسية. اذ لا تزال الاحزاب والحركات الاسلامية في العالم العربي تتخبط خصوصا على صعيد فصل الدين عن السياسة، وحيال مكانة الشريعة في النظام القانوني، انهم يقبلون فكرة التعددية السياسية، لكنهم ينازعون في شأن حدودها، كما انهم لا يجادلون بان مبدأ المواطنة الشاملة ضروري للديموقراطية، لكنهم في الممارسة العملية منقسمون بشأن المساواة بين المواطنين المسلمين وغير المسلمين وبين الرجل والمرأة.
اضافة إلى ذلك، يبدي الاسلاميون المشاركون في العملية السياسية بعض الغموض غير النابع من شخصيتهم المزدوجة كحركات دينية - سياسية، بل من آرائهم في شأن السياسات في المنطقة. فهم يرفضون، مثلا، استخدام العنف في العملية السياسية، لكنهم يجدون مشكلة في رفض مبدأ استخدام العنف حين يتعلق الامر بالقضية الفلسطينية، وهذا ينطبق حتى على الاسلاميين غير المسلحين الذين لا يمكنهم استخدام العنف، حتى لو قرروا ذلك.
تعد الطبيعة المزدوجة للاسلاميين المشاركين في العملية السياسية كعناصر دينية وسياسية فاعلة في آن، في لب النقاط الغامضة التي لا تزال مبثوثة في الافكار والقيم التي يعتنقون. اذ ان عليهم، بوصفهم عناصر دينية فاعلة، قبول سمو الشريعة على القوانين التي تسنها البرلمانات، كما ان عليهم الاستناد إلى الاراء الدينية في برامجهم الانتخابية وقوانينهم الخاصة بالسياسة العامة. وعليهم كعناصر سياسية فاعلة ان يتسموا بالمرونة. وتعمد بعض الاحزاب والحركات إلى معالجة المشكلة من خلال استبدال فكرة الالتزام الصارم بالشريعة باشتراط ان تتوافق القوانين والسياسات مع مرجعية اسلامية. وهكذا يجادل حزب «العدالة والتنمية» في المغرب ان عليه قبول القوانين التي تتوافق مع المرجعية الاسلامية والتي تمت الموافقة عليها بصورة ديموقراطية، حتى وان لم تكن تتطابق مع الشريعة بشكل صارم. وعلى هذا الاساس فقد وافق الحزب في العام 2004 على اصلاح قانون الاحوال الشخصية. هذه المرونة، التي تعتبر حاسمة لجهة قدرة الحزب على العمل كحزب طبيعي في البرلمان، لا يقبلها كل انصاره بسهولة.
لا ريب ان الاعتبارات السياسية والايديولوجية تؤثر في الطريقة التي يتعامل بها الاسلاميون المشاركون مع التعارض المتأصل في هويتهم كعناصر سياسية ودينية فاعلة في آن. وتحاول معظم الاحزاب والحركات التغلب على المشكلة من خلال اقامة حزب سياسي منفصل عن الحركة الدينية، بحيث يمكن للحركة الدينية الاستمرار في التعامل مع القيم المطلقة، بينما ينخرط الحزب في العالم البراغماتي للتسويات السياسية. وهكذا، وفي المغرب، والجزائر، والاردن، واليمن، والبحرين، والكويت، ثمة الان احزاب اسلامية (او جمعيات سياسية في حالتي البحرين والكويت) منفصلة عن الحركات الدينية، وفي حالة «جماعة الاخوان المسلمين» في مصر، لم يكن انشاء حزب سياسي قط بديلا واقعيا نظرا لرفض الحكومة المصرية المستمر اضفاء الشرعية على «جماعة الاخوان» التي لا تزال تعتبر تنظيما محظورا.
ان الفصل بين العنصرين الديني والسياسي يساعد الاحزاب والحركات الاسلامية إلى حد ما، بيد انه ليس كافيا لان الحزب يمكن ان يخسر تأييد أعضاء الحركة الدينية ان هو انحرف بعيدا عن الشريعة، والاسوأ من ذلك هو ان ولاء الاعضاء يمكن ان يتحول إلى حركات دينية اخرى لم تتلوث ايديها بالمشاركة السياسية، وتعد هذه مشكلة خطيرة بالنسبة إلى حزب «العدالة والتنمية» في المغرب. فهو مرتبط بحركة تسمى «التوحيد والاصلاح». وبوصفها حركة دينية فإن حركة «التوحيد والاصلاح» تتنافس مع حركة دينية اخرى هي «العدل والاحسان» التي يقدر ان لها قاعدة شعبية اوسع. وعلى الصعيد السياسي، لا يواجه حزب «العدالة والتنمية» اي منافسة، لان الحركة الدينية المنافسة له، «العدل والاحسان»، لا تعترف بشرعية الدولة المغربية والملكية وتبقى بمنأى عن الحياة السياسية، كما ان الاحزاب الاسلامية الاخرى المشاركة، مثل حزب «البديل الحضاري» هامشية في افضل الاحوال. وتكمن معضلة حزب «العدالة والتنمية» في انه اذا بقي قريبا من جذوره الاسلامية سيكون في وسعه الحفاظ على دعم أعضاء «حركة التوحيد»، وحتى الحصول على اصوات من اعضاء «العدل»، على الرغم من ان قيادة هذه الجماعة لا تشجع اعضاءها على المشاركة. لكن اذا ما انجرف حزب العدالة والتنمية بعيدا عن العقيدة لكسب الاحترام السياسي لدى جمهور اوسع وابرم التسويات السياسية التي ينبغي على اي حزب ذي تمثيل برلماني القبول بها، فانه لن يحصل على دعم من اعضاء «حركة العدل». وفي الحقيقة فانه قد يشهد تحول بعض اعضائه إلى حركات دينية تقاطع الحياة السياسية ولديها التزام اكبر بالمبادئ.
يعتبر قبول التعددية السياسية مسألة اخرى لا تزال حتى الاحزاب والحركات الاسلامية المشاركة في العملية السياسية تتخبط بها. فحتى اواخر الثمانينات، ايد الاسلاميون نموذجا للسياسة والمجتمع مختلفا عن النموذج الغربي ورفضوا فكرة الحقوق الفردية وشددوا على اولوية حقوق الجماعة. وعلى غرار كل الحركات التي تجعل اليد العليا للمجتمع على الفرد، رفضوا التعددية واقترحوا فكرة للسياسة والمجتمع تهدف إلى جعل تفسيرهم للسلام ملزما للجميع. وهكذا رفض العديدون في اوساط الاسلاميين المشاركين في العملية السياسية شرعية القوى العلمانية وكانوا غير متسامحين إلى حد ما تجاه وجهات النظر المعارضة. لكن خلال التسعينات، بدأت الحركات والاحزاب المشاركة تعيد النظر في موقفها وباشرت التواصل بالتدرج مع المعارضة العلمانية. لا بل جرب بعضهم حظه في بناء تحالفات عابرة للايديولوجيات ضد الانظمة القمعية. كل ذلك عنى ان على الاسلاميين الاعتراف بشرعية العناصر العلمانية الفاعلة، وابتكار لغة خطاب اكثر تسامحا ازاء الاراء العلمانية في السياسة والمجتمع. وفي اطار الموقف الجديد، قبل الاسلاميون مصطلحات السياسة الديموقراطية بما فيها لغة التعددية:
بيد أن المسألة لا تزال تعج بالتعقيدات، اذ يصعب على حزب أو حركة تقوم على أساس الدين الاعتراف بشرعية كل الآراء ووجهات النظر. وخلال العقدين الماضيين قطع الاسلاميون المشاركون شوطاً طويلاً في قبول تنوع الآراء في الساحة السياسية لكنهم ما زالوا متأخرين عن الركب في مجال المسائل الأخلاقية والاجتماعية والثقافية. وهذه الصعوبة مألوفة في كل الأوضاع التي انخرطت فيها العناصر الفاعلة التي تعمل وفق رؤى أيديولوجية أو دينية واضحة في الأنظمة السياسية التعددية، كالأحزاب المسيحية الديموقراطية والاشتراكية والشيوعية. ولا يتم عادة حل مسألة التعددية في شكل نهائي من الناحية النظرية بل يكون الحل عملياً، الى حد ما، من خلال توازن القوى السياسية: فالأحزاب الأيديولوجية تقبل بالتعددية حين لا تكون قوية بما يكفي لفرض معتقداتها، لكنها تصبح أكثر تعصباً على الأرجح، حين تتمكن من فرض أسلوبها.
وبالتالي لا يمكن الاجابة عن السؤال الذي تم طرحه في بداية هذا القسم من الورقة، اذا ما كان الاسلاميون المشاركون في العملية السياسية ملتزمين بالديموقراطية حقاً، بنعم واضحة. لا شك أن الأحزاب والحركات السياسية التي اختارت المشاركة في العملية السياسية القانونية، ابتعدت كثيراً عن المواقف التي اتخذها معظم الاسلاميين في الماضي. ومع ذلك، فإن الإسلاميين المشاركين في العملية السياسية مازالوا يجدون صعوبة في التوفيق بين العقائد الاسلامية الراسخة وبين الالتزام بالديموقراطية، بحيث يشاركون في الوقت الذي يظلون فيه أوفياء لجذورهم الاسلامية. كل الأحزاب والحركات المشاركة منقسمة حيال هذه المسائل. ووجود الانقسامات في صفوف القيادة، اضافة الى الخوف من خسارة الأنصار لصالح تنظيمات اسلامية محافظة أخرى، يخلق المناطق الرمادية الغامضة في تفكير الاسلاميين الذين تمت الاشارة اليهم سابقاً. ونتيجة لذلك يبقى فكر الأحزاب والحركات الاسلامية المشاركة عائماً، اعتماداً على الأجنحة المختلفة المسيطرة، وبدوره فإن الصراع الداخلي على السلطة يتأثر بعوامل خارجية في مقدمها الظروف التي يشارك الاسلاميون في ظلها سياسياً في بلدانهم.
المعضلات التكتيكية
حتى الأحزاب والحركات الإسلامية في العالم العربي التي جابهت، بداية، المصاعب الأيديولوجية بشجاعة وقررت المشاركة في العملية السياسية القانونية، تجد نفسها مرغمة، ولأسباب تكتيكية، على اعادة النظر في التزامها في شكل دوري. فهي تعمل في بلدان لا تلتزم فيها الحكومة نفسها حقاً بالديموقراطية، لكنها تستخدم كل وسيلة ممكنة كي لا تفوز المعارضة. ولذا فإن على الإسلاميين المشاركين، على غرار كل أحزاب المعارضة الأخرى، أن تقرر ما اذا كانت ستشارك في الانتخابات حتى لو كان ميدان المنافسة منحرفاً في صورة متعمدة، وعليها أن تقرر متى يصبح الانحراف كبيراً الى درجة لا تعود معها المنافسة الانتخابية خياراً عملياً أو ذا جدوى. وتتفاقم المشكلة بالنسبة الى الاسلاميين لأن الحكومات تخشاها أكثر من خشيتها من الخصوم الليبراليين واليساريين، ما يضع في الغالب عقبات اضافية في طريقهم.
ينطوي قرار المشاركة في انتخابات محددة على اعتبارات تكتيكية، اذ عبر المشاركة في ظل ظروف لا توفر سوى الحصول على نتائج ضعيفة، تخاطر الأحزاب والحركات الاسلامية بضعضعة موقفها لأن النتائج ستقدمها على أنها قوى ضعيفة. كما تخاطر بتنفير الأنصار الذين يشككون أصلاً بالمشاركة بناء على حجج أيديولوجية والذين يجدون في العقبات التي تعترض سبيل تلك الأحزاب دليلاً اضافياً على أن المشاركة استراتيجية خاسرة. ومن جانب آخر، فإن في مقدور الاسلاميين، على الرغم من العقبات التي توضع في طريقهم، التأكيد انهم ملتزمون بالاجراءات والعمليات الديموقراطية حقاً، وأنهم ليسوا مجرد ديموقراطيين مخلصين في أيام الرخاء وينخرطون في اللعبة فقط حين يمكنهم تحقيق الفوز. كما أن لرفض الاسلاميين المشاركة في انتخابات محددة تأثيراته المعقدة: فهو يطمئن الأنصار الذين ينتقدون المشاركة لكنه يربك الباقين وهو يجعل الأحزاب أو الحركات عرضة الى اتهامات بأنها ليست ملتزمة حقاً بالديموقراطية. والحكومات على وجه الخصوص ميالة الى توجيه مثل هذه الاتهامات. علاوة على ذلك، مقاطعة الانتخابات تحكم على الاسلاميين بأنهم لا حول لهم ولا قوة: حزب تخلى عن العنف لكنه يرفض المشاركة في العملية السياسية، وبالتالي لا يمتلك وسيلة لممارسة النفوذ السياسي المباشر.
يجسّد مثال «جبهة العمل الاسلامي» في الأردن المعضلات التي تواجه الأحزاب الاسلامية. فقد تشكلت الجبهة في العام 1992 استجابة لقانون أحزاب سياسية جديد أكثر ليبرالية، ولهدف محدد هو المنافسة في انتخابات خريف العام 1993. وقد سارع الملك الراحل حسين الى تغيير قواعد اللعبة السياسية من خلال تعديل قانون الانتخابات لصالح العنصر القبلي المحافظ، ما وضع «جبهة العمل الاسلامي» في موقف ضعيف. وفي العام 1997، انضمت «جبهة العمل الاسلامي» الى أحزاب المعارضة الأخرى للمطالبة بإحداث تغيير في قانون الانتخابات، وهددت بمقاطعة الانتخابات ما لم يتم تعديل القانون ونفذت التهديد حين لم يعدل القانون. وفي العام 2003، قلبت «الجبهة» موقفها مجدداً، وأدركت أنها لن تحقق شيئاً ان اتخذت موقف المتفرج. لذا شاركت في الانتخابات على الرغم من أن ساحة المنافسة بقيت مشوهة. وفي العام 2007، وعندما واجهت موجه جديدة من القيود التي فرضتها الحكومة على مشاركتها في الانتخابات، عمدت «جبهة العمل الاسلامي» الى مقاطعة الانتخابات البلدية في يوليو قبل أن تقدم مرشحيها في الانتخابات البرلمانية في نوفمبر، لكنها لم تفز الا بستة مقاعد بعد أن كانت فازت بسبعة عشر مقعداً في العام 2003.
«جماعة الاخوان المسلمين» في مصر واجهت معضلات مشابهة. لكن المشكلة تزداد تعقيداً في حالة الجماعة لأن القانون المصري يحظرها، ولذا لا يمكنها المشاركة في الانتخابات كحركة، بيد أن عليها اما التفاوض مع الأحزاب السياسية الشرعية وطرح مرشحيها تحت رايتها، أو تقديم مرشحيها كمستقلين. الشواهد معبرة هنا. فقد شارك «الاخوان المسلمين» في انتخابات العام 1984 متحالفين مع حزب «الوفد» الليربالي، وفازوا بستة مقاعد فقط. كما شاركوا في انتخابات العام 1987، كجزء من تحالف مع حزب «العمل الاشتراكي»، حيث انتخب 37 من أعضاء الجماعة لعضوية البرلمان. ردت الحكومة بسلسلة اضافية من الاجراءات القانونية المقيدة، ونتيجة لذلك قاطع «الاخوان المسلمون» في العام 1990 الانتخابات الى جانب أحزاب المعارضة الأخرى. وفي العام 1995، غيّر الاخوان تكتيكاتهم من جديد بأن طرحوا مرشحين مستقلين. ومع أن الحكومة شنّت حملة قوية على الجماعة، نجح «الاخوان» في ايصال عضو واحد الى البرلمان. وفي العام 2000، شاركت جماعة «الاخوان» في الانتخابات من جديد وانتخب سبعة عشر من أعضائها (خاضوا الانتخابات كمستقلين). وفي 2005، بذلت الجماعة جهوداً كثيفة وحققت انتصاراً كبيراً عندما فاز مرشحوها المستقلون ب 88 مقعداً، أو 20 في المئة من مجموعة مقاعد مجلس الشعب المصري (المجلس الادنى في البرلمان)، لتصبح أكبر كتلة معارضة خلال نصف قرن. لكن في انتخابات العام 2007 لمجلس الشورى (المجلس الأعلى في البرلمان)، التي شارك فيها «الاخوان» استخدمت الحكومة الخائفة قبضتها القوية لمنع مرشحي «جماعة الاخوان» من الفوز بأي مقاعد. وفيما بعد، أي في الانتخابات البلدية لعام 2008، رفضت الحكومة تسجيل كل مرشحي «جماعة الاخوان المسلمين» تقريباً، كما أطلقت العنان لموجه من الاعتقالات. وقد دفع ذلك الجماعة الى مقاطعة الانتخابات في اللحظة الأخيرة.
ثمة معضلة تكتيكية أخرى يواجهها الاسلاميون المشاركون تتعلق بعدد المرشحين الذين يجب أن يقدموهم لخوض الانتخابات. وعلى غرار كل الأحزاب، فإن الإسلاميين يرغبون في الفوز بأكبر عدد ممكن من المقاعد. وعلى الرغم من ذلك، وعلى عكس معظم الأحزاب، لا يمكنهم تحمّل الفوز بعدد كبير من المقاعد، ولا حتى تحمل الفوز بالانتخابات خشية أن تتخذ الحكومة إجراءً عنيفاً ضدهم. وقد قدمت الجزائر في العام 1991 وفلسطين في العام 2006، مثالين تحذيريين عما يمكن أن يحدث عندما يحقق الاسلاميون نجاحاً باهراً. فقد ادى الانتصار المتوقع ل «الجبهة الاسلامية للانقاذ» في الجزائر الى الغاء الانتخابات واستيلاء الجيش على السلطة. وفي فلسطين ادى انتصار «حماس» المفاجئ الى سلسلة من ردود الأفعال ذات الأصداء السلبية، تُوجت بمواجهة مستمرة بين «فتح» و«حماس». ونتيجة لذلك، أصبح الاسلاميون المشاركون حذرين تماماً ويحددون في شكل متعمد عدد المرشحين. وعلى سبيل المثال، قدمت «جبهة العمل الاسلامي» في الاردن 36 مرشحاً ل 80 مقعداً في البرلمان في العام 1993، و30 مرشحاً ل 110 مقاعد في العام 2003، و22 مرشحاً ل 110 مقاعد في العام 2007. وفي المغرب، قدم حزب «العدالة والتنمية» في العام 2002 مرشحين في أكثر من نصف الدوائر الانتخابية بقليل، قبل أن يقدم مرشحين في 94 دائرة انتخابية من أصل 95 في انتخابات العام 2007. وقلّصت «جماعة الاخوان المسلمين» المصرية في الانتخابات البرلمانية العام 2005 عدد مرشحيها أيضاً وقدمت مرشحين مستقلين في 144 من أصل 444 دائرة انتخابية. وفي انتخابات مجلس الشورى في العام 2007، خاض «الاخوان» المنافسة، لكنهم قدموا تسعة عشر مرشحاً ل 88 مقعداً. وليس واضحاً ما اذا كانت مثل هذه القيود المفروضة ذاتياً من قبل الأحزاب والحركات الإسلامية، قادرة على تهدئة المخاوف من استيلاء اسلامي محتمل على السلطة. فخضومهم محنكون بما يكفي لا لينظروا إلى العدد الاجمالي للمقاعد التي يفوز بها الإسلاميون فقط بل إلى النسبة المئوية للانتصارات في الدوائر الانتخابية التي طرحوا فيها مرشحيهم، ونتيجة لذلك، يمكن لضبط النفس ان يزيد من المخاوف بدل ان يهدئها، لأن الأحزاب والحركات التي تقدم عدداً محدوداً من المرشحين لأسباب واضحة، تختار الدوائر الانتخابية التي تمتلك فيها أفضل الفرص لتحقيق الفوز. ولذا ينتهي بهم الأمر إلى الفوز بنسبة أعلى بكثير من الدوائر ما لو نافسوا في الدوائر كلها. والحال ان ممارسة «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» و«جماعة الإخوان المسلمين» و«حزب العدالة والتنمية» لضبط النفس في الماضي، لم تمنع الحكومات في هذه الدول من زيادة العقبات امام مشاركتها في الانتخابات اللاحقة، ونتيجة لذلك لم يقلص حزب «العدالة والتنمية» المغربي عدد مرشحيه في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في العام 2007، وقد قدم مرشحين في 94 دائرة انتخابية من أصل 95، ومع ذلك كانت مكاسبه محدودة، حيث لم يضف سوى اربعة مقاعد إلى كتلته البرلمانية، ما رفع العدد الاجمالي إلى 46 مقارنة ب 42 في برلمان 2002 - 2007.
تأثيرات المشاركة
كانت ثمة تكهنات كثيرة بشأن تأثير مشاركة الأحزاب والحركات الإسلامية في العملية السياسية: هل سيجبرون على تليين مواقفهم فيصبحوا أقل ايديولوجية وأكثر براغماتية اذا ما سمح لهم بالمشاركة، هل سيجبرون على قبول منطق التعددية السياسية، وبالتالي اقرار الحاجة إلى اقامة تحالفات عابرة للطيف الأيديولوجي وإلى التوصل لحلول وسط، أم أنهم، على العكس، سيصبحون نظريين ولا عمليين أكثر كي يطمئنوا ناخبيهم المتطرفين بأنهم لم يخونوا معتقداتهم، وبأنهم يواصلون الالتزام بحقيقة بالإسلام، حتى بعد دخول عالم التعددية السياسية؟
ان استعراضاً للأحزاب والحركات الإسلامية المشاركة في البلدان السبعة التي تشكل محور بحثنا تظهر وجود دليل على النتيجتين في آن. إذ تؤدي المشاركة في بعض البلدان إلى الاعتدال، فيما لا تؤدي إلى ذلك في البعض الآخر. علاوة على ذلك، يمكن للحركات في البلد نفسه التنقل بين المواقف الأكثر اعتدالاً والأكثر تشدداً، وتشي الشواهد بأن الحصيلة تعتمد إلى حد كبير على البيئة السياسية وعلى الظروف التي يشارك الإسلاميون في ظلها، وباختصار، كلما كانت الظروف التي يشارك في ظلها عنصر إسلامي فاعل طبيعية كان فوز الإصلاحيين بالزعامة اكثر ترجيحاً، فيصبح الحزب او الحركة اكثر مرونة واستعداداً للتوصل إلى حلول وسط، ويركز أكثر على القضايا التفصيلية التي تتخذ بموجبها البرلمانات القرارات وتصدر في ضوئها القوانين، وعلى مسائل السياسة العامة المحددة بدل الأسئلة الكبرى ذات المضامين الايديولوجية بعيدة المدى. ومع ذلك، فإن الوجه الآخر للعملة هو ان الأحزاب والحركات التي تظهر قدراً كبيراً من المرونة والبراغماتية، تصبح اكثر عرضة لخسارة الدعم في الانتخابات التالية، الأمر الذي يجعلها تغير مواقفها، وعلى اي حال،يرجح ان يرتد الاسلاميون الذين تعرقل الحكومة مشاركتهم على الدوام ويلقى بقادتهم واعضاء تنظيمهم في غياهب السجون، إلى مواقف متشددة ويواصلوا الانشغال بالمسائل الأيديولوجية الكبرى، اما مسألة مشاركة الأحزاب والحركات الإسلامية ذات الأجنحة المسلحة فهي تشكل حالة مختلفة تماماً.
ان البيئة التي ينشط فيها الإسلاميون المشاركون مهمة جداً ليس لقدرتها على توفير حوافز او نصب عوائق امام المشاركة وحسب، بل ايضاً لأن معظم الأحزاب والحركات الإسلامية منقسمة تماماً على المستوى الداخلي. وهكذا فإن الظروف الخارجية تغير بسهولة توازن القوى الداخلي بين الجناحين الإصلاحي والمتشدد، فالتحول الداخلي الذي حدا بالكثير من الإسلاميين إلى اختيار المشاركة في الحياة السياسية الشرعية كاستراتيجية، لم يتم من دون صراع او مناقشة، وفي اغلب الأحزاب والحركات الإسلامية المشاركة بقي جزء من القيادة متشككاً ازاء قيمة المشاركة، حيث كانوا يخشون من ان تؤدي بهم إلى تقديم تنازلات كبيرة وبذلك يضعفون هواياتهم الدينية من دون تحقيق نتائج ملموسة. هذه الأصوات المتشككة تلوذ عادة بالصمت حين تكون الأحزاب والحركات الإسلامية ناجحة، حيث تؤدي الانتخابات إلى زيادة حضورها في البرلمان وتوسيع المجال امام ممارسة نشاطاتها، ويكون للنتائج الضعيفة في الانتخابات او لزيادة وتيرة القمع الحكومي اثر معاكس، حيث تقوي قبضة الذين يشككون في قيمة المشاركة. وعلاوة على ذلك، فإن تأثير الأحداث الخارجية يمكن ان يكون كبيراً.
المشاركة في ظل ظروف طبيعية
لا تعني المشاركة في ظل اوضاع طبيعية في بيئة البلدان العربية المشاركة في اوضاع ديموقراطية وباستثناء الكويت، لا تمتلك البرلمانات في البلدان العربية سوى سلطات مراقبة محدودة. وحتى برلمان الكويت يخاطر بأن يتم حله في كل مرة يواجه فيها الحكومة. وفي بلدان كثيرة يلعب المرشحون المستقلون الذين يديرون حملاتهم الانتخابية على اساس العلاقات الشخصية والقبلية، دوراً أكثر اهمية من دور الأحزاب والحركات السياسية بصرف النظر عن خلفيتهم الأيديولوجية. لذا فإن العمل في ظل اوضاع طبيعية، لا يعني العمل في ظل اوضاع ديموقراطية، بل في اطار الأوضاع نفسها التي تؤثر على كل عناصر المعارضة الفاعلة في ذلك البلد، وهو يعني العمل بعيداً عن خطر الاعتقال المستمر للقيادة والأعضاء. وتعطيل الشرطة للاجتماعات، والثقة بأن المرشحين المنتخبين سيحتلون مقاعدهم في البرلمان. وكلمة طبيعي تعني ان الحزب او الحركة الإسلامية لن تتم معاقبتها فور حصولها على نتائج جيدة، وانه سيسمح لها بالمشاركة في الانتخابات مستقبلاً، مثل هذه الظروف تتوافر في الوقت الراهن في المغرب، والجزائر، والكويت، وإلى حد أقل في البحرين.
يعد المغرب البلد الذي يتوافر على ظروف اكثر مواتية من غيره، فقد كانت مشاركة حزب «العدالة والتنمية» نتيجة تقاطع خيارات الإسلاميين والملك. وفي اوائل الثمانينات، شكل جناح منشق عن «حركة الشباب الإسلامي» الراديكالية جماعة جديدة اطلق عليها في الأصل اسم «الجماعة الإسلامية». ومنذ البداية كانت «الجماعة» تهدف إلى ان تصبح طرفاً مشاركاً معترفاً به وشرعياً في الحياة السياسية المغربية،وهي مرت بسلسلة متعاقبة من عمليات اعادة التنظيم وتغيير الاسم، لكنها لم تنحرف قط عن هدف المشاركة السياسية. وفي العام 1997 سمح الملك الراحل الحسن الثاني، الذي عقد النية على فتح النظام السياسي بما يكفي لتأمين عملية خلافة سلسة لابنه، للإسلاميين بالاستيلاء على حزب موجود ضعيف والمشاركة في الانتخابات تحت ستاره، وهو الحزب الذي اصبح يعرف في نهاية المطاف باسم حزب «العدالة والتنمية». مارس الحزب اللعبة بكفاءة،وحرص على عدم اثارة خوف المؤسسة الحاكمة عبر الفوز بعدد كبير من المقاعد في البداية، ومن جانبه، لم يتراجع الملك الجديد محمد السادس عن قرار والده السماح للإسلاميين بالمشاركة في العملية السياسية، ومع ذلك سعى إلى احتوائهم من خلال سن قانون انتخابات صمم لمنع اي حزب من الفوز بأغلبية مقاعد البرلمان. وفي الوقت نفسه ضمن الملك، جنباً إلى جنب مع الأحزاب السياسية الليبرالية واليسارية، بالا يتم ضم حزب «العدالة والتنمية» إلى الائتلاف الحاكم او حتى التحالف مع احزاب اخرى.
في البرلمان، عمل حزب «العدالة والتنمية» كحزب سياسي عادي، مركزا على مسائل السياسة العامة من دون اي أجندة دينية واضحة. لا بل هو صوت لصالح قانون الأحوال الشخصية الجديد، الذي لا يستند في شكل حصري إلى الشريعة، بحجة انه تمت مناقشته بصورة ديموقراطية وان الحزب قبل بفكرة حكم الأغلبية، وعلى غرار الأحزاب الاخرى، حاول الحزب حشد الدعم من أجل اصلاح دستوري وسياسي لزيادة سلطات الرقابة البرلمانية. بكلمات اخرى، لعب الحزب دور المعارضة الموالية في نظام ديموقراطي، وفي النهاية دفع ثمن ذلك. ففي الانتخابات البرلمانية في العام 2007، التي توقع الحزب فيها الفوز بما لا يقل عن 70 مقعداً، لم يتمكن من الفوز الا ب 46 مقعداً. وبينما حل الحزب في المركز الثاني، فإنه حصل على عدد أقل من الأصوات من تلك التي حصدها في العام 2002 لأن الناخبين الذين خاب املهم احجموا عن التصويت. وهكذا، في حالة «حزب العدالة والتنمية»، ولدت المشاركة في الحياة السياسية الشرعية الاعتدال، وهو اعتدال دفع الحزب ثمنه في شكل خسارة أصوات في الانتخابات.
كان ل «حركة مجتمع السلم» في الجزائر تجربة مشابهة تماماً فقد اصبح هذا الحزب الإسلامي الصغير نسبياً، الذي قبل بالمشاركة والاعتدال في مناخ اختارت فيه احزاب اسلامية عدة المقاومة العنيفة، شريكاً في الائتلاف الحاكم بقيادة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، وفي الجزائر فإن دخول حزب شريكاً في الائتلاف الحكومي، يعني القبول بأن يكون آلة صغيرة جداً في ماكينة يحكمها صراع على السلطة بين الرئيس والمؤسسة العسكرية - الامنية وفي انتخابات العام 1997 فازت «حركة مجتمع السلم» ب 71 مقعدا، لكن الرقم انخفض الى 38 في انتخابات العام 2003، حيث لم يكن لدى الحركة سوى القليل من الانجازات مقابل مشاركتها في الحكومة، وقد استعادت الحركة عافيتها الى حد ما في انتخابات العام 2007 حيث فازت ب 52 مقعدا، لكنها ظلت دون مستوى نجاحها الاول، وعلى رغم الاخفاق فقط حافظ الحزب على موقف معتدل، لكنه فشل في تحقيق أي نجاح يستقطب به الناخبين.
في البحرين والكويت يزداد موقف الجمعيات السياسية الاسلامية المشاركة تعقيدا (لا توجد في أي من البلدين أحزاب رسمية بسبب وجود جماعات دينية عديدة تجسد اتجاهات وأجندات مختلفة، ففي البحرين تعد «جمعية الوفاق» مجموعة معارضة تمثل الشيعة، بينما «الاخوان المسلمون» السنة منظمون في جماعات مختلفة وتمثل رد «جمعية الوفاق» على ذلك بالعمل من أجل التعايش والاصلاح التدريجي بدل المواجهة، وقد أسهمت قيادة الجماعة مرارا في نزع فتيل التوترات الطائفية وعت الى التعبير عن ولائها للدولة. وبالفعل فقد كانت المشاركة عامل اعتدال، بيد ان المكاسب المحدودة لمشاركة «جمعية الوفاق» في الحياة السياسية ولأسباب أسفر عن خسارة الجمعية لقاعدتها لمصلحة حركات تعتمد أكثر على المواجهة.
الوضع في الكويت مختلف ا لى حد ما، فالاسلاميون في الكويت أكثر انقساما، وتعد «الحركة الدستورية الاسلامية» أفضل الجماعات تنظيما، وهي جماعة مرتبطة ب «الاخوان المسلمين» وذات مواقف ايديولوجية معتدلة، غير ان الحركات السلفية ايضا، وهو وضع استثنائي، تشارك في العملية السياسية القانونية في الكويت، فيما هي ترفض القيام بذلك في بلدان أخرى، وعلى الرغم من رغبتهم بالمشاركة، يتخذ السلفيون مواقف متصلبة من المسائل الاخلاقية والاجتماعية ولديهم مشروع واضح لتوسيع المساحة التي يقرها الدين في المجتمع، فقد كان السلفيون رأس حربة في المعركة الطويلة لمنع منح المرأة حق التصويت، وطالبوا بإعادة الفصل ين الجنسين في الجماعات وحصلو على مرادهم، كما خاضوا معركة ضد الاسلوب الحديث في ارتداء ا لملابس واساليب الحياة الغربية التي يفضلها الشباب، وفي سياق ذلك، مارسوا الكثير من الضغوط على «الحركة الدستورية الاسلامية» تعيد التفكير بالتزامها بالمواقف السياسية المعتدلة، إلا انه من الوضاح ايضا ان التنافس الجماعات السلفية تدفع الحركة باتجاه مواقف محافظة على الصعيد الاجتماعي.
يبدو، تبعا لذلك، ان المشاركة في ظل ظروف طبيعية، تقوي عزيمة الاسلاميين على ان يكونوا جزءا من العملية السياسية القانونية في بلدانهم. كما ترغم المشاركة الاحزاب والحركات الاسلامية على تقليص التركيز على المسائل الايديولوجية والتركيز اكثر على التحديات العملية المتمثلة بالحفاظ على جمهور ناخبيهم، وعندما يصبحون في البرلمان، يرغم الاسلاميون على التركيز على المسائل التي ينشغل بها البرلمانيون عادة، وفي بلد كالكويت، حيث تتمحور الحياة البرلمانية حول المسائل الاخلاقية والاجتماعية، فإن هذا هو ما يركز عليه الاسلاميون ايضا، وفي المغرب، والجزائر، حيث تحاول كل الاحزاب تقدي بعض المبادرات بشأن المسائل ايضا، وبمعنى آخر، فإن الظروف الطبيعية، أو ما يمكن اعتباره طبيعيا في هذه البلدان، يرغفم الاسلاميين على التركيز على المسائل التي تستغرق بقية الطبقة السياسية، فيما تلعب الايديولوجية دورا ثانويا.
المشاركة في ظل ظروف الحصار
واجه الاسلاميون المشاركون في مصر، والاردن، واليمن اوضاعا صعبة على وجه الخصوص، ففي مصر والاردن، حيث يمثلون حقا قوة المعارضة الوحيدة المنظمة، كان الاسلاميون هدفا متعدا للقمع الحكومية، وفي اليمن، وقع حزب «التجمع اليمني للاصلاح» في شرك انهيار الدولة، حيث بدأت الانقسامات القديمة بين الشمال والجنوب، والانقسامات القبلية، والاقتصاد المترنح بسبب تنامي نقص الغذاء والماء، تهدد بزعزعة هذه الدولة الهشة.
توفر «جماعة الاخوان المسلمين» المصرية حالة مثيرة للاهتمام بوجه خاص، حول كيف يمكن للمشاركة المواربة ان تؤدي الى انكفاء ايديولوجي، وكما تمت الاشارة سابقا، فقد تأثرت قيادة «الاخوان» في بداية العقد الحالي بآراء الاصلاحيين الذين دفعوا باتجاه تبني تفسير ليبرالي في شأن كل المسائل التي عرفناها بوصفها تشكل المنطقة الرمادية في تفكير الاسلاميين المشاركين في العملية السياسية. وفي انتخابات العام 2005، بدأ ان استراتيجية المشاركة في الحياة السياسية الشرعية التي تبناها الاصلاحيون تؤتي ثمارها عندما حصد «الاخوان» 20 في المئة من مقاعد البرلمان، على الرغم من ان الجماعة ظلت تنظيما محظورا، وكانت هذه أكبر كتلة معارضة تتواجد في البرلمان المصري منذ العام 1952. وقد رأى نظام مبارك انها تشكل خطرا على سلطته، خصوصا في وقت حركة كانت فيه البلاد تتحرك بشكل حتمي نحو خلافة الرئيس. وقد حرص النظام على منع «الاخوان المسمين» من تحقيق نجاحات مماثلة في المستقبل فاستخدم جهازه الامني القوي لشن حملة منظمة من الاعتقالات ضد اعضاء «الاخوان» وممولي «الحركة». كما اقترح عددا من التعديلات الدستورية التي صممت لجعل مشاركة «الاخوان» اكثر صعوبة، وفي الانتخابات البلدية للعام 2008، مضى النظام في حملته أكثر، من خلال رفض كل مرشحي «الاخوان المسلمين» ال ان قررت «الحركة» مقاطعة الانتخابات احتجاجا على ذلك.
أدت المضاعفات غير المقصودة لمحاولات الحكومة قمع «حركة الاخوان المسلمين» الى تغير ميزان القوى الداخلي في الحركة. فقد اضعفت الاصلاحيين وزادت من نفوذ المتشددين. لكن الاخوان لم يتخلوا عن فكرة المشاركة، بل على العكس، عملوا على وضع مسودة برنامج للحزب السياسي الذي يطمحون لتشكيله على غرار ما قام به الاسلاميون في المغرب والاردن الذين انشأوا ذراعا سياسية منفصلة عن الحركة الدينية. بيد ان مسودة البرنامج التي كشف النقاب عنها في صيف العام 2007، بينت ان «الاخوان» ينكفؤون إلى مواقفهم السابقة. كان في المسودة عنصران موحيان بشكل خاص، الاول هو محاولة «حركة الاخوان» ايضاح كيفية تطبيق هدفها المعلن في ضمان ان تتوافق كل القوانين مع الشريعة. وسبق ان تعرض «الاخوان» في احيان كثيرة إلى الضغط بغية توضيح هذه النقطة، وتمثلت الاجابة التي قدمتها مسودة البرنامج في الدعوة إلى تشكيل مجلس من علماء الدين يتم انتخابه من قبل كل علماء الدين في البلاد، وتكون له سلطة ملزمة للحكم على مدى انسجام القوانين والاعمال التنفيذية مع الشريعة. وقد تسبب اقتراح تقديم مجلس ينتخب من قبل علماء الدين فقط وتكون له سلطة فوق سلطة البرلمان المنتخب في الاقتراع العام، في اثارة عاصفة داخل «حركة الاخوان المسلمين»، اذ صدم الاصلاحيون وأعرب الكثيرون منهم عن اعتقادهم بان الهيئة المقترحة المشكلة من علماء الدين غير شرعية وستفضل بعض تفسيرات الشريعة على البعض الاخر، وعلاوة على ذلك، اشار البعض إلى ان تشكيل مثل هذا المجلس لا يستند إلى اي موقف ثابت ل«الاخوان».
العنصر الثاني المثير للجدل في مسودة البرنامج تمثل في استثناء النساء وغير المسلمين من امكانية ان يصبحوا حكاما، اي منعهم من شغل منصب الرئاسة ومناصب اخرى تنطوي على سلطة عليا، كانت تلك الفقرة انتصارا للايديولوجيا على البراغماتية. فقد كان «الاخوان المسلمون» مستعدين لاثارة جدل كبير لمنع شيء ما كان يرجح له الا يتم بأي حال، نظرا للطبيعة المحافظة للمجتمع والحجم الضئيل نسبيا للاقلية القبطية، ناهيك عن الاقليات الدينية الاخرى. واضافة إلى ذلك، قال بعض «الاخوان» ان عملية الاستثناء كانت تستند إلى حجج قانونية عفى عليها الزمن وغير ضرورية، وتتسبب في ارتباك ضار على الصعيد السياسي.
كشفت الفقرتان في برنامج الحزب، الذي كان سيبدو غير استثنائي من دونهما، عن هيمنة جناح محافظ في القيادة، لكنهما واجهتا ايضا مقاومة كبيرة. واظهر ذلك ان الاتجاه الاصلاحي ما زال يحتفظ ببعض القوة. لا بل راجت في الحقيقة تكهنات عدة خلال العام 2008، مفادها انه سيتم اسقاط الفقرتين المثيريتين للجدل من البرنامج النهائي للحزب. ومع ذلك فإن مسودة برنامج الحزب تؤدي إلى استنتاج لا مفر منه مفاده ان المشاركة المقموعة تقوي شوكة المتشددين وتضعف الاصلاحيين، وتعزز هذه المحصلة كذلك من خلال الحقيقة ان «حركة الاخوان» انتخبت في يونيو 2008، اعضاء جددا في مكتبها المركزي (مكتب الارشاد)، يعد معظهم من المتشددين. وجاءت انتخابات مجلس الشورى في «حركة الاخوان المسلمين» الاردنية في مارس 2008 (الحركة الاسلامية التي تقف وراء «جبهة العمل الاسلامي»)، لتؤكد النموذج نفسه. ففي فترة تميزت بازدياد حدة التوتر ومواجهة الاجراءات القمعية. تم انتخاب المتشددين ليحلوا مكان القادة الاكثر اعتدالا في «حركة الاخوان المسلمين» و«جبهة العمل الاسلامي».
ان معظم الحركات الاسلامية منحازة بشكل بنيوي ضد المعسكرين المعتدل والاصلاحي فيها، وهو ما يفسر هامشية هذين المعسكرين وتأثيرهما المحدود. وعموما فإن اغلبية كبيرة في التسلسل الهرمي وفي عضوية مثل هذه الحركات تنجذب نحو مواقف اكثر صلابة او محافظة، وغالبا ما تنفر من المناشدات لابداء المرونة او الاصلاح فهم يعتبرون المرونة تنازلا غير مقبول بناء على مبادئ اصبحت مع مرور الوقت مطبوعة في الوعي الجماعي للاسلاميين بوصفها عقائد مطلقة لا تتغير. وحدها لحظات التحول السريع في البيئة السياسية عندما تقدم الفرص والتحديات الجديدة نفسها إلى الحركات الدينية، هي القادرة على تغيير المكانة الهامشية للمعتدلين بحيث تمكنهم من الاستحواذ على درجة من التكافؤ مع المتشددين. ولقد مر الاردن بمرحلة ممتدة من هذا الوضع بين عامي 1989 و 2005 فيما شهدت مصر نافذة فرص مشابهة، لكن قصيرة، بين عامي 2004 و2005، وفي كلتا الحالتين، وسع المعتدلون والاصلاحيون بشكل تدريجبي نطاق تأثيرهم، ونجحوا في ترجمة ذلك إلى سلسلة من السياسات والممارسات التي اعطت الاولوية للمشاركة في العملية السياسية وللوصول إلى الاجماع مع القوى السياسية في المجتمع.
لكن من سوء الحظ ان النظامين الاردني والمصري عادا في العامين المنصرمين إلى انتهاج سياسات سلطوية وحملات امنية، بدا انها تستهدف المعتدلين بقوة تعادل القوة التي واجهت بها المتشددين، وادى القمع إلى اقناع انصار الحركتين بان المشاركة والحلول الوسط لم تؤد إلى اي نتجية، ما اسفر عن تعزيز قبضة المتشددين، بمعنى اخر، يرتبط افول نجم الاصلاحيين في حركتي «الاخوان المسلمين» في مصر والاردن بشكل كامل بالبيئة السياسية المقيدة في البلدين.
يفسر هذا السياق سبب مسارعة «حركة الاخوان المسلمين» في الاردن إلى رفض المشاركة في العملية السياسية بوصفها مضيعة للوقت ومحاولة لصرف انتباه «الحركة» عن تحقيق هدفها الحقيقي. وتزداد ديناميكيات المنافسة بين القادة المعتدلين والمتشددين في «حركة الاخوان المسلمين» الاردنية تعقيدا، بسبب الصراع على النفوذ بين الفلسطينيين وابناء شرق الاردن على تحديد اولويات الحركة: ترقية القضية الفلسطينية ام العمل من اجل التغيير السياسي والاجتماعي في الاردن. ومع ذلك وبقدر ما يتعلق الامر بالمشاركة في العملية السياسية القانونية، فإن الصراع الايديولوجي في «حركة الاخوان» الاردنية مشابه للصراع في نظيرتها المصرية. فالمتشددون في كلتا الحركتين متشككون في جدوى المشاركة السياسية، كما ان القمع الحكومي يجعلهم اكثر ترددا في تبني مواقف تصالحية قد تنفر قاعدتهم الشعبية، فيما يواصل المعتدلون التشديد على الحاجة إلى المشاركة السياسية كوسيلة اساسية لتشجيع الاصلاح حتى لو كانت قواعد اللعبة غير عادلة والمردود ضعيفا. وبالنتيجة، يميل المتشددون في كلتا الحركتين إلى التأرجح بين رفض المشاركة السياسية وقبولها على مضض عندما تكون الظروف مواتية، فيما يستمر المعتدلون في التمسك بمبدأ الانخراط غير المشروط في العملية السياسية القانونية، غير انهم لا يستطيعون جذب الحركة كلها إلى صفهم.
*المصدر : الرأي الكويتية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.