تعتبر القوة الناعمة اليوم من أهم الوسائل المؤثرة في السياسة الخارجية بجميع مكوناتها ومدلولاتها، حيث أصبح التأثير الثقافي مُركزاً على أنماط السلوكيات المختلفة من الأغذية والمأكولات والأغاني والدعاية والإعلان السيطرة والهيمنة على شؤون العالم السياسية والاقتصادية والتجارية أصبحت تخضع في عصرنا الحاضر لاستراتيجيات دولية ذات أدوات ومقومات وأحكام قلما يعرف مبادئها وقواعدها (خبراء) السياسة الخارجية في عالمنا العربي. يوجد في قريتنا الكونية حالياً 3500 منظمة دولية، لا يشارك العالم العربي بفاعلية سوى في 72 منها فقط، وذلك لندرة (الخبراء) وغياب (الاستراتيجيات). في أروقة هذه المنظمات الدولية يتم طبخ قضايا العصر ورؤى المستقبل، التي تغيبت عنها الدول العربية، ولم تهتم بنتائجها المصيرية بقدر اهتمامها بملوحة الطبخة التي تلتهمها غصباً منها لعدم مشاركتها الفعالة في صياغة أحكام طبختها. قبل اكتشاف النفط، كانت السياسة الخارجية للدول تعتمد على أربعة عناصر فقط وهي: الموقع الجغرافي، عدد السكان، القوة العسكرية والمعنوية، وأخيراً النظام الداخلى للدولة. في القرن الواحد والعشرين أضافت عناصر السياسة الخارجية عنصراً خامساً وهو توفر الموارد الطبيعية. وقبل شيوع خدمات الاتصالات وتقنية المعلومات، كانت العلاقات الدولية تعتمد على 18 تصنيفا، من ضمنها: الأحلاف، المعاهدات، الأديان، الحيادية، الأقلمة، السيادة...وغيرها. في عصرنا هذا، وخلال الحرب العراقية الأولى، أضافت الدول، إلى جانب العولمة، تصنيفاً جديداً يدعى القوة الناعمة، التي اعتمدت على تسخير الإعلام في تطويع السياسات الخارجية وتوجيه مسيرة الحروب والمنازعات الدولية والداخلية، ليطلق عليه الإعلام الموجّه. القوة الناعمة مصطلح عسكري يعتمد على مزيج من الإغراء والجاذبية، لتكون الركيزة الثابتة للشخصية المحبوبة والثقافة والقيم السياسية التي يراها الآخرون مشروعة أو ذات سلطة معنوية أخلاقية، ولتصبح القيادة في الميدان أقل تكلفة وأكثر كفاءة. القوة الناعمة هي التي أطاحت بالرئيس المصري المتنحي، الذي كان يعتبر الحليف الأول للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، ومع ذلك لم تأسف أمريكا مطلقاً على رحيله. والقوة الناعمة هي التي قضت على الرئيس التونسي المخلوع، الذي كان من أعز أصدقاء فرنسا، ومع ذلك لم تتهاون فرنسا أبداً في رفض استضافته. والقوة الناعمة هي التي تحاول اليوم جاهدةً لتنحية الرئيس اليمني، الذي كان الذراع الأيمن للغرب في مطاردة فلول القاعدة المشردين في بلاده، ومع ذلك لن يبالي الغرب كثيراً جراء تنحيه ورحيله بشؤونه وشجونه. على عكس ما حصل في مصر وتونس، وباستخدام القوة الناعمة أقنعت أمريكا حلفاءها أن غزو العراق يهدف لإنقاذ العالم من براثن زعيم (أسلحة الدمار الشامل) التي لم تكتشف في حوزته لتاريخه. وعلى عكس ما يحصل اليوم في اليمن، استخدمت فرنسا وبريطانيا وإيطاليا القوة الناعمة لمحاولة الإطاحة بعقيد ليبيا، أقوى حليف لها في القارة السوداء، من خلال دعم ثورة شعبه وتفتيت قوته العسكرية. النفط الذي يعتبر العامل المشترك بين العراق وليبيا، إضافة لكونه العنصر الخامس للسياسة الخارجية، أسال لعاب الغرب المتعطش إليه، فنجح باستخدام القوة الناعمة في أروقة الأمم المتحدة لتوفير غطاء الضربة الجوية على العراق وليبيا. افتقار مصر وتونس واليمن للذهب الأسود أدى إلى تراخي المجتمع الدولي في استخدام القوة الناعمة ضدهم والتدخل في ثوراتهم، فأنقذهم عدم توفر هذا العامل المشترك من الضربة الجوية على أراضيهم. الأدميرال الأمريكي "جوزيف ناي جنيور" كان أول من أطلق مفهوم القوة الناعمة، وتحدث عنها في كتابه المرجعي الصادر مع بداية الحرب العراقية الأولى، حيث كان يشغل منصب رئيس مجلس الاستخبارات الوطني الأمريكي، ومساعد وزير الدفاع في عهد الرئيس "بيل كلينتون". عرّف الأدميرال القوة الناعمة بأنها القدرة على إقناع الشعوب واستقطاب المواقف والسيطرة على الأفكار والعقول بأساليب دمثة تتميز بجاذبيتها الثقافية والسياسية. أوضح الأدميرال أن القوة الناعمة تعتمد على نشر الأفكار والمعلومات والاستخدام الأمثل لوسائل الإعلام، وتهدف لزعزعة ثقة الناس في ثوابتهم وتمويه الحقائق وتوجيه الأفكار وتشتيت الأهداف وإعادة ترتيب الأولويات، وفقاً لمتطلبات التبعية والانبهار. وأضاف الأدميرال الأمريكي أن القوة الخشنة تكمن في القدرة على الإجبار والإكراه الناتجة عن القوة العسكرية والقدرات الاقتصادية، أما القوة الناعمة فإنها تتأتى من جاذبيتها الثقافية والإعلامية الناتجة عن نشر الأخبار على الفضائيات وإشاعة المعلومات على الإنترنت. ومن هنا تصبح زعزعة ثقة الشعوب في طبيعة أنظمتهم القائمة أو تشويه صورة القائمين عليها أو إغرائهم جميعا بمزايا الأنظمة الأخرى التي تسعى للخلاص والثورة. تعتبر القوة الناعمة اليوم من أهم الوسائل المؤثرة في السياسة الخارجية بجميع مكوناتها ومدلولاتها، حيث أصبح التأثير الثقافي مُرَكزاً على أنماط السلوكيات المختلفة من الأغذية والمأكولات والأغاني والدعاية والإعلان، ليشكل الإعلام الموجّه القوة الناعمة التي لها أكبر الأثر على شعوب العالم. من أصل 702 فضائية عربية، لا توجد قناة تلفزيونية واحدة تمتلك القدرة على اختراق المجتمع الدولي بسبب غياب الاستراتيجيات الإعلامية عن السياسة الخارجية، التي لا تتقن فن دغدغة مشاعر العالم الخارجي ومخاطبته بلغته والتأثير عليه. فضائياتنا العربية جميعها تتكلم بلغات لا تفهمها الشعوب الغربية والشرقية، فأخفقت في مهامها لأنها موجهة أصلاً إلى اغتيال الفكر العربي واستباحة عقله وتأجيج الفتن والصراعات الداخلية، وتحريض الشعوب العربية على عدم الاندماج مع العالم الخارجي من خلال نشر الأفكار المشوهة عن تطور شعوب العالم. تعاملاتنا السلبية والخاطئة مع أدوات الاتصالات وتقنية المعلومات، جعلت من سياساتنا الخارجية مصدراً للتندر والاستهجان، وحرمتنا من الدفاع عن مصالحنا الحيوية وقضايانا المصيرية، لتصبح شعوبنا لقمة سائغة على مائدة القوة الناعمة. القوة الناعمة لا تتماشى مع خشونتنا. * ( الوطن السعودية )