خيّمت أجواء الحزن على المصريين بعد الإعلان عن وفاة بطريرك الكرازة المرقسية وبابا الاسكندرية للأقباط الأرثوذكس شنودة الثالث، الذي وافته المنيّة مساء أول أمس عن عمر يناهز الثمانية والثمانين عاماً، أمضى خلالها على رأس الكنيسة القبطية أكثر من أربعين سنة، شهدت فيها مصر تحولات مفصلية، في وقت أعلن المجمع المقدس أن مراسم جنازة البابا الراحل ستجرى غداً في القاهرة، وذلك تمهيداً لنقله إلى وادي النطرون، لكي يدفن هناك بناء على وصيته، على أن تبدأ إثر ذلك عملية معقدة لاختيار خليفة له. وتوفي البابا شنودة بعد معاناة طويلة مع المرض، الذي أرغمه خلال السنوات الماضية على التوجه كثيراً إلى الولايات المتحدة لتلقي العلاج. وذكرت وسائل إعلام مصرية أن شنودة كان يتلقى العلاج بسبب ورم في الرئتين، وقد تدهورت صحته فجأة خلال الأيام الماضية، إلى أن أصيب بأزمة قلبية صباح اول أمس تسببت في وفاته. وتقاطر آلاف الأقباط فور سماعهم خبر وفاة البابا إلى الكاتدرائية المرقسية في حي العباسية في القاهرة. وذكرت وكالة «أنباء الشرق الأوسط» أن ثلاثة أشخاص لاقوا حتفهم، وأصيب آخرون، بسبب الزحام الشديد حول الكاتدرائية، والذي أدى أيضا إلى تعطيل حركة المرور في المنطقة. وتم إلباس جثمان البابا الملابس الكهنوتية ووضع على كرسيه البابوي، وسيبقى كذلك لمدة ثلاثة أيام حتى يتمكن الجمهور من إلقاء نظرة الوداع عليه، قبل تنظيم قداس الجنازة في مقر الكاتدرائية المرقسية. وبناء على وصيته، سيُدفن البابا شنودة الثالث في دير وادي النطرون الواقع في منتصف الطريق تقريبا بين القاهرة والإسكندرية. يذكر أن الرئيس المصري الأسبق أنور السادات كان قد حدد إقامة البابا في دير وادي النطرون عام 1981 لانتقاده معالجة الحكومة لعنف الإسلاميين المتشددين في السبعينيات ومعاهدة السلام التي أبرمتها مصر مع إسرائيل عام 1979. وتولى الأنبا باخوميوس، أسقف البحيرة، موقع قائم مقام البابا الى حين انتخاب بابا جديد. ويعد الأنبا باخوميوس الثاني في ترتيب أقدمية الترسيم بعد الأنبا ميخائيل، أسقف أسيوط، الذي اعتذر عن عدم تولي الموقع لأسباب صحية. وستبدأ إجراءات اختيار بابا جديد بفتح باب الترشيح يوم الجمعة المقبل. ووفقا للقواعد المعمول بها في الكنيسة القبطية، ليس هناك موعد محدد أو أي سقف زمني لاختيار البابا الجديد، علماً أن انتخاب البابا شنودة في العام 1971 لخلافة البابا كيريلس قد أتى بعد سبعة أشهر من وفاة الأخير. وستقوم المطرانيات المختلفة في مصر بترشيح أساقفة وتزكيتهم لتولي منصب البابا، ثم تعرض أسماء المرشحين على جمعية ناخبين تضم أعضاء المجمع المقدس والنواب الأقباط في البرلمان والوزراء الأقباط وأعضاء المجلس الملي. وبعد عملية الاقتراع تُجرى «قرعة إلهية» بين المرشحين الثلاثة الذين حصلوا على أعلى الأصوات. وعكست الصحف المصرية تأثر المصريين برحيل البابا. وعنونت صحيفة «المصري اليوم» صفحتها الأولى «مصر تبكي»، بينما كتبت «الأهرام» في صدر صفحتها الأولى «البابا شنودة... وداعاً». وأوردت معظم الصحف عبارة البابا الشهيرة أن «مصر ليست وطناً نعيش فيه بل وطن يعيش فينا». وقدم المجلس الأعلى للقوات المسلحة تعازيه للشعب المصري عامة، والمسيحيين خاصة، بوفاة البابا شنودة الثالث. ووجه المجلس العسكري تعازيه «باسم قائده وضباطه وجنوده للمصريين والمسيحيين آملا أن تحقق أماني البابا الغالية التي عمل عليها بإخلاص وأمانة طوال حياته للحفاظ على وحدة مصر»، كما دعا المصريين إلى «التماسك والتكاتف في هذا الظرف الجلل». وذكرت وسائل الإعلام الحكومية أن المشير محمد حسين طنطاوي، الذي توجه مع أعضاء المجلس العسكري إلى مقر الكاتدرائية المرقسية لتقديم واجب العزاء، منح المسيحيين العاملين في مؤسسات الدولة عطلة ثلاثة أيام لوداع البابا، كما أمر بتجهيز طائرة عسكرية لنقل جثمان البابا إلى وادي النطرون. واعتبر الأزهر في بيان أن مصر «فقدت أحد كبار رجالاتها المرموقين في ظروف دقيقة بالغة الحساسية»، مشيراً إلى أن الأزهر بكل مؤسساته «يذكر للراحل الكبير مواقفه الوطنية الكبرى»، و«يذكر بكل الإكبار والتقدير موقفه من قضية القدس الشريف وفلسطين العربية وصلابته في الدفاع عنها وعن تاريخها ومقدساتها»، فيما قال مفتي الديار المصرية علي جمعة إن «وفاة قداسة البابا تمثل فاجعة ومصابا جللا تعرضت له مصر كلها وشعبها الكريم مسلمين ومسيحيين، على حد سواء». كذلك، قدم «حزب الحرية والعدالة»، المنبثق عن جماعة «الإخوان المسلمين» تعازيه للأقباط، مشيدا ب«الدور الكبير» للبابا شنودة الثالث، فيما أعلنت «الإخوان» أن المرشد العام محمد بديع سيكون على رأس وفد مسؤولي الجماعة المقرر أن يشارك في وداع البابا. ووصف رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال سليمان وفاة البابا شنودة بأنها خسارة لمصر وللعالم العربي، مشيدا بمسيرته الكنسية المنفتحة على الأديان الأخرى، وبمواقفه الوطنية والعروبية الصلبة ضد العدو الإسرائيلي والتي كلفته الاضطهاد، في وقت نحن أحوج ما نكون الى مثلها في ظل ما يشهده العالم العربي من تطورات. وبعث الرئيس السوري بشار الأسد برقية تعزية إلى المشير طنطاوي، اعتبر فيها أن «قداسة البابا شنودة ترك بصمة راسخة في الحياة الإنسانية والوطنية في مصر والعالم، وكان مثالا لرجال الدين الذين تميزوا بالانفتاح والحكمة والتفاني في حب الوطن والدفاع عن الحق والعدالة وقضايا الأمة العربية ونشر المحبة وقيم الحوار والتسامح». وأجرى الملك الأردني عبد الله الثاني اتصالا هاتفيا بالمشير طنطاوي أعرب فيه عن أصدق مشاعر التعزية والمواساة بوفاة قداسة البابا شنودة. وفي واشنطن، حيا الرئيس الأميركي باراك أوباما ذكرى «داعية للتسامح والحوار الديني». وقال أوباما في بيان انه وزوجته ميشال «حزينان لتلقيهما نبأ وفاة بابا الأقباط شنودة الثالث»، مشيراً إلى أنه يستذكر البابا شنودة «رجلا صاحب إيمان عميق وزعيما لدين عظيم، وداعية للوحدة والمصالحة». وفي الفاتيكان، قال المتحدث باسم الكرسي الرسولي إن البابا بندكت السادس عشر «يتحد روحياً في الصلاة» مع المسيحيين الأقباط الذين كان البابا الراحل «راعياً عظيماً» بالنسبة لهم. وأضاف «لن نتمكن يوماً من نسيان اللقاء بين البابا شنودة الثالث والبابا يوحنا بولس الثاني في القاهرة لمناسبة زيارة الحج التي قام بها الى جبل سيناء في اليوبيل الكبير (في العام 2000)، في لحظة مهمة من الحوار والالتقاء بالإيمان المشترك في المسيح». وأعلنت وزارة الخارجية الإسرائيلية أن إسرائيل وجهت رسالة تعزية الى مصر اثر وفاة البابا شنودة. وجاء في بيان ان «وزارة الخارجية تقدم تعازيها الحارة الى مصر والى الطائفة القبطية والشعب المصري اثر رحيل بطريرك الأقباط شنودة الثالث». ووصف البيان البابا شنودة ب«القائد الروحي المهم الذي قدم مساهمته في مجال التعايش في مصر». وأشادت مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي كاثرين اشتون ورئيس المفوضية الأوروبية جوزيه مانويل باروسو بمزايا البابا شنودة، وحثا المصريين على العمل من أجل الحفاظ على «الوحدة الوطنية». * وكالات