الأمل يلوح في الأفق: روسيا تؤكد استمرار جهودها لدفع عملية السلام في اليمن    الوية العمالقة تصدر تحذيرا هاما    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    صراعٌ جديدٌ يُهدد عدن: "الانتقالي" يُهاجم حكومة بن مبارك ويُطالب ب "محاسبة المتورطين" في "الفشل الذريع"    "صيف ساخن بلا كهرباء: حريق في محول كريتر يُغرق المنطقة في الظلام!"    "بعد وفاته... كاتبة صحفية تكشف تفاصيل تعرضها للأذى من قبل الشيخ الزنداني ومرافقيه!"    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    الشعيبي: حضرموت تستعد للاحتفال بالذكرى الثامنة لتحرير ساحلها من الإرهاب    دوري ابطال آسيا: العين الاماراتي الى نهائي البطولة    دموع طفل تعز تسقي شجرة الموت الحوثي... هل من ينقذه؟!    تشييع مهيب للشيخ الزنداني شارك فيه الرئيس أردوغان وقيادات في الإصلاح    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    كلية القيادة والأركان بالعاصمة عدن تمنح العقيد أديب العلوي درجة الماجستير في العلوم العسكرية    نزوح اكثر من 50 الف اثيوبي بسبب المعارك في شمال البلاد    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    بن دغر يوجه رسالة لقادة حزب الإصلاح بعد وفاة الشيخ عبدالمجيد الزنداني    إعلان موعد نهائي كأس إنجلترا بين مانشستر يونايتد وسيتي    مفسر أحلام يتوقع نتيجة مباراة الهلال السعودي والعين الإماراتي ويوجه نصيحة لمرضى القلب والسكر    مركز الملك سلمان يدشن توزيع المساعدات الإيوائية للمتضررين من السيول في الجوف    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    رئيس مجلس القيادة يجدد الالتزام بخيار السلام وفقا للمرجعيات وخصوصا القرار 2216    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    إنزاجي يتفوق على مورينيو.. وينهي لعنة "سيد البطولات القصيرة"    "ريال مدريد سرق الفوز من برشلونة".. بيكيه يهاجم حكام الكلاسيكو    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    لابورتا بعد بيان ناري: في هذه الحالة سنطلب إعادة الكلاسيكو    انقطاع الشريان الوحيد المؤدي إلى مدينة تعز بسبب السيول وتضرر عدد من السيارات (صور)    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مكان وموعد تشييع جثمان الشيخ عبدالمجيد الزنداني    قيادي حوثي يقتحم قاعة الأختبارات بإحدى الكليات بجامعة ذمار ويطرد الطلاب    التضامن يقترب من حسم بطاقة الصعود الثانية بفوز كبير على سمعون    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    ميلشيا الحوثي تشن حملة اعتقالات غير معلنة بصنعاء ومصادر تكشف السبب الصادم!    برئاسة القاضية سوسن الحوثي .. محاكمة صورية بصنعاء لقضية المبيدات السامة المتورط فيها اكثر من 25 متهم    دعاء مستجاب لكل شيء    - عاجل محكمة الاموال العامة برئاسة القاضية سوسن الحوثي تحاكم دغسان وعدد من التجار اليوم الثلاثاء بعد نشر الاوراق الاسبوع الماضي لاستدعاء المحكمة لهم عام2014ا وتجميدها    ديزل النجاة يُعيد عدن إلى الحياة    الزنداني كقائد جمهوري وفارس جماهيري    عودة الزحام لمنفذ الوديعة.. أزمة تتكرر مع كل موسم    رئيس مجلس النواب: الفقيد الزنداني شارك في العديد من المحطات السياسية منذ شبابه    من هو الشيخ عبدالمجيد الزنداني.. سيرة ذاتية    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    ارتفاع الوفيات الناجمة عن السيول في حضرموت والمهرة    تراجع هجمات الحوثيين بالبحر الأحمر.. "كمل امكذب"!!    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    الزنداني يكذب على العالم باكتشاف علاج للإيدز ويرفض نشر معلوماته    الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تفعل هذا الأمر    الحكومة تطالب بإدانة دولية لجريمة إغراق الحوثيين مناطق سيطرتهم بالمبيدات القاتلة    المواصفات والمقاييس تختتم برنامج التدريب على كفاءة الطاقة بالتعاون مع هيئة التقييس الخليجي    لحظة يازمن    بعد الهجمة الواسعة.. مسؤول سابق يعلق على عودة الفنان حسين محب إلى صنعاء    المساح واستيقاف الزمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    الممثل صلاح الوافي : أزمة اليمن أثرت إيجابًا على الدراما (حوار)    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشاعر الكبير سيد حجاب: حالة من البوح المتدفق الأغنية ديوان المصريين

" أنا ابن بحر.. ابن بحر..ابن بحر.. ابن النسيم اللي رضع.. من السما.. رضع حليب النجمه.. حنيه وفجر" هكذا كان اعتراف البداية، الرهان علي الإمساك بتفاصيل الذات في المكان، بل القبض علي الشعر في روح الناس المعذبين، وبداية الإطلالة "بصيت من الشباك هناك.. لقيتهم في الطريق متشنقين.. حوالين رقابيهم شِبَاك.. وبرضه ماشيين ميتين " كانت معاينته لناسه وللشعر مبكرة، لعله اختاره ليقول "في بلدنا اللي بتنعس م المغرب حواريها.. وتصرخ ريح.. أحزان الناس فيها.. نعست فوانيس الجاز تحت المركب"، لكن المركب كان قادرا علي مواصلة الرحلة، يواجه الموج، يتأمله، يتلمس تجاعيده، مواجها القهر والمرض، يرسل إليه الرسائل لترتد شعرا وغناء، هنا ومع رحيله استعيد راقات الحوار الذي أجريته مع الشاعر الكبير سيد حجاب بوصفه خلفية مهمة يمكن أن تقدم إضاءات علي مجمل تجربته الشعرية، بدايتها، مساراتها الجمالية، توجهاتها ومصادرها التي استقي منها بعض جمالياته، مفرداته الإبداعية التي تقدم إشارات مهمة، بداية من الإهداء الذي صدر به حجاب ديوانه "إلي الفلاح المجهول الذي أبدع المأثور الشعبي " وهي إشارة ذكية لمصادر استلهامه وتوظيفه للعناصر الفولكلورية بداية مما يمكن تسميته بالارتطام الصوتي والمنمنمات، فالصوت عنده هو العتبة التي يمكن أن ينطلق منها الناقد كمفتاح لقراءة شعره، فضلا عن دال "الكلمة" بوصفها الدال المركزي الذي يشع بظلاله علي بقية المفردات، فالصوت ليس مجانيا لكنه الفاعل حين يكون موالا أو نواحا أو عديدا لكنه يجمع تلك الأصوات لتصنع عالما متسعا للحياة حيث نداءات الباعة وأصوات الكائنات فالكلمات عنده محصورة بين ضفتين كأنها النهر الذي يموج بالحركة في اتساعها وعنفوان أصواتها حين تصيد الدلالات مستلهمة أشكالا موالية، فضلا عن العناصر الاعتقادية المتعلقة بعالم الجماعة الشعبية خاصة مجتمع الصيادين، إضافة إلي قصائده المحتفية بثقافة المكان، وقدرته الفائقة علي صيد المفارقة بأنواعها المختلفة والتجنيس والارتطام الصوتي الذي يشتبك فيه الحرف بالحرف فتتفجر الدلالات فائضة بأصواتها علي المستمع، لقد كان حواري معه الذي نشرت مقتطفات منه منذ سنوات في مجلة الثقافة الجديدة حوارا عميقا قدر عمق تجربته، هادرا كهدير موجه، وفوران أصواتها حينما تخرج معلنة عن صدق إنساني يدعونا إلي إعادة النظر من جديد فيما نعرف، وفي الأسئلة التي ظلت ساكنة بحاجة إلي من يهزها ليخلق مساحات جديدة وفارقة تعيد إضاءة المشهد المتسع لشعر العامية المصرية، رحم الله الشاعر الكبير سيد حجاب الذي لم يكن مجرد شاعر، لكنه كان مثقفا عضويا ملتحما بقضايا وطنه، فائضا بإنسانيه وشعره علي أجيال ما تزال تحمل وقدة روحه وجذوة شعره الخالد
الرحلة:
جذور شعبية
"أنا نص قلبي في البحيره..
ونص قلبي في البلد
ويَّا البنيه والولد
وفي قلبي ياما.. ياما في قلبي
حواديت تنسرد"

أعتذر مقدما إذا لم يكن ذهني حاضرا طوال الوقت، خاصة مع حصار الزحام الفكري، وقلة النوم، ببساطة شديدة، الحكاية كلها ابتدت في المطرية دقهلية، وهي مدينة صيادين علي ضفاف بحيرة المنزلة، كان يسكنها حوالي ثلاثين ألف صياد، المتعلمون قلة، من بينهم أبويا وأعمامي، اللي درسوا في الأزهر، بعضهم كمِّل، وبعضهم ما كملش، أنا أبويا ما كملش تعليمه في الأزهر، وكان شاعرا وكان عاشقا للثقافة، ولديه مكتبة كبيرة. في طفولتي، دوما أصحو ككل الذين يعيشون في المناطق الشعبية علي الغناء، والإنسان المصري يعيش حياته لحظة بلحظة محملا بالغناء، فدورة الحياة من بداية من الميلاد والسبوع، والعمل حتي الموت لا تخلو من غناء، كل لحظة من اللحظات المصرية اللي جذورها شعبية بتحتضنها الأغنية، أنا زي كل أبناء الشعب المصري اتربيت في حضن هذا الغناء الشعبي، في الصبا الباكر أبويا كان شاعر، لم يكمل تعليمه، أثقلته كثرة العيال، فكف عن كتابة الشعر، لكنه كان يملك مكتبة كبيرة جدا، فيها من التراث الكثير، وفيها من المُحدث الكثير أيضا، الترغيب والترهيب للمنذري، وخزانة الأدب للبغدادي، ويتيمة الدهر للثعالبي، والأغاني للأصفهاني، وألف ليلة وليلة، وفيه جنب ده توفيق الحكيم ومحمد حسين هيكل، وطه حسين.. في الوقت اللي الكوليرا انتشرت في مصر سنة 46- 47، اتحبسنا في البيوت، اتحددت إقامتنا، لم يكن هناك سلوي إلا الكتب فقريت مكتبة أبويا، اللي فِهمته فهمته، واللي ما فهمتوش ما فهمتوش.
لعبة المطارحة
"يابلدنا يا بنت الإيه
ياما نفسي أبوسك
أعضك
أداديكي
أحلب لك بقرة أحلامي
واغديكي"
كانت التسلية اليومية في البيت، الأب يسهر معانا حوالين منقد، نسخَّن عليه الكاستل، كان رخيص أياميها، وكان بييجي من منطقة القناة القريبة جدا، أو السوداني والعجوة، سهرات ليلية الراديو ساعتها كان بيقفل بدري لكن إحنا كنا بنسهر حوالين أبونا اللي بيلعب معانا لعبة اسمها "المطارحة الشعرية "، واحد هو اللي يبتدي بيه الشعر فيقول الأول الشعر، ومن بيت شعري إلي آخر، ومن قافية إلي أخري ظلت اللعبة متواصلة، فكانت هذه اللعبة أول ممارسة شعرية بالنسبة لي، ولما كانت بتخلص المحفوظات بتاعتي من الأناشيد المدرسية والأغاني كنت برتجل أبيات شعر، بعديها أبويا لما سمعني، قال لي: أنت شاعر بالسليقة، ولازم هذه السليقة تُصقل بالدرس.. قلت له: إزاي يابا؟ قال لي: اتعلم علم العروض والقوافي، وابتدا يقعدني قدامه وهو بيشرب القهوه في العصريه، كل يوم يدرس لي في العروض الشعري، وقال لي درس مهم قبل كده، إن ربنا إدَّي لك هذه الملكة لتشكره عليها، بالنسبة لي فكرة إن الموهبة شيء له غاية وهدف، ولازم تصقل بالدرس، كانت حاجة جديدة، وكنت أقعد قدامه يقطَّع الأبيات بصوت مسموع (قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل) "قفانب كيمنذكرا حبيبن ومنزلي"، من هنا ابتديت أتميز عن أقراني اللي كانو برضه غاويين زيي شعر ومعايا في المدرسة الإبتدائي والإعدادي والثانوي، وكنت أنا الوحيد فيهم اللي دارس، وابتديت أتميز أيضا عن أقراني في الإخوان المسلمين واحنا صغيرين، ففي القري كان فيه شعب للإخوان المسلمين بيحضرها الأطفال ليصبحوا أشبال دعاة، فيطلعونا علي كرسي زي الخطيب أو المبلغ في الجوامع، نخطب خطب بعد صلاة الجمعة "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا" ، وندعو لمباديء الإخوان المسلمين، كنت أتميز عن أقراني آنذاك حينما بدأت أنظِم خطبي قصائد شعرية.
الجلاء التام أو الموت الزؤام
" سودا هدومهم والقلوب سودا
وعيون بنادقهم كما قلب الحسود سودا
صابوه عداه
خرم الرصاص ضهره
عين القمر بالغيمه مسدوده "
في سنة 1951 وكان عندي حداشر سنة اتعرفت علي الشعر، لما مات طفل من دوري اسمه "نبيل منصور"، هذا الطفل استشهد لما كان فيه كفاح مسلح يقوده أبناء مصر ضد الإنجليز وفي معسكرات الإنجليز في منطقة القنال خلال هذا النضال المسلح دخل الصبي، أو الطفل نبيل منصور إلي أحد معسكرات الإنجليز مع مجموعة من الفدائيين، أشعلوا المعسكر، وعلي ضوء النيران شافوهم الإنجليز، أطلقوا عليهم الرصاص، وقتلوا مجموعة منهم نبيل منصور اللي كان من سني ساعتها، وأيامها كنا نطلع مظاهرات صامتة في المدارس أو مظاهرات صاخبة تدعو للجلاء التام أو الموت الزؤام، وتطالب السلاح السلاح.. الكفاح الكفاح، لينخرط الشعب كله في الكفاح المسلح ضد الإنجليز، وبعد هذه المظاهرات اللي أنا شاركت فيها، وبعد موت نبيل حسي إن شحنة الغضب اللي جوايا لم تنته، فدخلت أوضة الجلوس، أو أوضة المسافرين اللي بتبقي في بيت الناس المبسوطين شويه في القري، وقفلت علي نفسي وكتبت قصيدة بتقول:
كنا غزاة وأبطالا صناديدا رنا لرجع الصدي في الغرب ترديدا
لكننا سوف نعلو رغم أنفهمو ويكون يوم نشورنا في الكون مشهودا
قصيدة فيها نزعة خطابية، وفيها قدر من المباشرة والزعيق، لكن كانت أول قصيدة مكتملة باكتبها في حياتي.

قالوا لي إنك بتكتب شعر؟
"ملعون يا كل الشعر
لو تنفهم بالخلف بين لاخوان
ملعون لو انت ما كنت نور بالليل
وبالنهار ضليله للجدعان"
أسعدني الحظ بعد ذلك وأنا ادرس في الثانوي بمعرفة مدرس من عشاق الفنون، كان تلميذا، أو زميلا للرسام المصري الراحل العظيم حسن فؤاد، وكان هذا المدرس اسمه: شحاته سليم نصر، كان الرسم والفنون التشكيلية اتلغوا من المدارس، واتحولت لنوع اسمه الهوايات، أو نشاط الهواية، وكان الأستاذ شحاته قد تحول من مدرس رسم إلي أستاذ هوايات، وجنب ده بيكمل شغله في المدرسة كمشرف علي بعض الفرق الرياضية، يسافر معها لملاعبة الفرق الأخري، وكان هذا الرجل مسئول عن بعض الفرق اللي أنا كنت عضو في معظمها وأنا في الثانوي، كان اليوم مش عارف إزاي ؟ كان حوالي 48 ساعة، بيكفي لعب المدرسة (هاند بول وباسكت بول وسباحة ) والمذاكرة، وبيفضل وقت أقرا شويه وأكتب، وغالبا أياميها ما كُونَّاش بنذاكر، وما كانش فيه واجبات مدرسية بعد المدرسة، فاليوم المدرسي بينتهي مع نهاية الدراسة، فالأستاذ شحاته سليم نصر مرة سألني: قالولي إنك بتكتب شعر؟، ما تورينا شويه من شعرك، وريته شويه من شعري، جالي بعد كام يوم، وده الدرس التاني المهم جدا في حياتي، جاني وقال لي: أنا قريت شعرك وحبيته جدا، بس أنا ما بافهمش في الشعر، بالنسبة لي كانت مفاجأة إن واحد كبير ما يفهمش في حاجه، كان دايمن الكبار كالعادة بيزعموا إنهم بيفهموا في كل حاجه وهمَّ غالبا ما بيفهموش في أي حاجة، فالراجل ده أول واحد يقول لي أنا ما باعرفش في الشعر،فلجأت للأستاذ عبد الكافي مدرس أول اللغة العربية عشان أساله رأيه إيه، فقال لي: إنه شعر موزون وانه صح من مجاميعه، بس أنا ليَّ ملاحظه فقلت له خير يا أستاذ إيه الملاحظة؟ فقال لي أنا لاحظت انك بتكتب عن مشاعرك وخواطرك الخاصة وعواطفك، والعواطف الإنسانية والمشاعر الخاصة لو جيت تعدها هتلاقيها سبعه تمانيه.. تسعه عشرة بالكتير، " زعلان، فرحان، مبسوط، متوتر، قلقان،...الخ" حاجات محدودة في النهاية، فانت هاتكتب هذا الشعر مرة ثم مرة تانية المرة الرابعة مش هتبقي شاعر، هتبقي صنايعي، طب والحل يا استاذ شحاته ؟؟ أنا عايز أبقي شاعر، قال لي انت حواليك في البلد كام بني آدم ؟ قلت له تلاتين ألف صياد قال لي جوه كل صياد من دول علي الأقل عشر قصايد مش لاقيين اللي يكتبهم ضربتها في دماغي عشرة في تلاتين ألف.. يوه دخلنا في نص مليون قصيدة، ده زوَّاد ما ينفدش طول العمر.
يابلدنا يابلد ياضهر ممزوق انجلد
"حل القلوع يا ريس البحرين
حلوه عيونك زاد يكفينا
حلوه رموشك زي شراشيب شال
زي الجناح لو شال.. وحط..وشال "
وعدد البلد ده كان عباره عن مجموعة من العائلات كلها، فيه جزء منها فقير وجزء ميسور بعض الشيء، وجزء ثري، وأنا من الفرع الميسور اللي متعلم، وأولاد عم أبويا مباشرة، إحنا ساكنين في مربع، المربع اللي بعديه ولاد عم أبويا من الصيادين، والشارع اللي بينا اسمه شارع حجاب، هذا الشارع عرضه سته متر، همَّا كانوا بيعدوا لنا لما يبقي عندهم مشكلة مع البوليس، مع السواحل.. مع الحاجات دي، عايزين حد من المتعلمين، من العيله يروح معاهم الِقسم أو نقطة غفر السواحل، لكن إحنا ما نعديلهمش لإن إحنا علي راسنا ريشه ومتعلمين، ابتديت أنا أحس أن الزاد اللي بادور عليه عند ولاد العم دول، فعديت الشارع الصغير ده... دخلت بيوتهم، سرحت معاهم البحيرة، اتعلمت كتير جدا من حياتهم اليومية وهمَّا بيصطادوا، سمعت كتير من الغنا والفن.. ابتديت أكتب شعر من نوع مختلف عن اللي كنت باكتبه في الأول، الأول كنت باكتب شعر بالفصحي ابتديت أكتب شعر عن حياة الصيادين، حسيت إن الفصحي مش سعفاني، فابتديت أكتب قصايد السرد فيها بالفصحي علي عادة القصة القصيرة أيامها، والحوار بالعامية، يعني كانت القصيدة نصها فصحي ونصها عامية، وبعدين شويه بشويه العامية ابتدت تشغل قصايد كاملة، أنا فاكر من أوائل القصايد اللي انا كتبتها اياميها قصيدة في صورة موال بيقول أولها:
الفجر ادِّن يا ابويا قوم بطرَّاحه
سيبك من النوم وم الأحلام وم الراحه
قوم للشقا يابا مين بياكلها بالراحه
ولا كلمه يابا ما بتردش علي ولدك
ليه يابا ليه الدموع نخلتها طرَّاحه
العيد ورا العيد عليَّ فات ما حيَّاني
لا فيه جديد للعيال ولا نوره حيَّاني
ولا تحكي يابا لكين صورة امي حيَّاني
ورا كل ميِّت تصوَّت والدموع تجري
كأنها لمّا تنده يابا آآه ياني
في الفترة دي كتبت قصيدة صغيره عن نفس الحالة دي ؛ حالة اليتم اللي كانت منتشرة بين كتير من أصدقاء الطفولة، قصيده من قصايد التفعيلة اللي كانت ابتدت تتولد في الحياة الأدبية آنذاك،واللي إحنا إتعرفنا عليها من خلال المجلات اللي بتنشر الأدب الجديد أياميها لصلاح عبد الصبور أو لحجازي أو لغيرهم، كانت القصيدة بتقول:

شهور يامَّه وأنا عايش ما ليش أمَّه
ف دنيا كلها ضلمه
وأنا خايف من الضلمه
واقول يامَّه ولا ترديش
أنا عارف بإنك واخده علي خاطرك
لكين يامَّه أنا هربان عشان خاطرك
عشان يسكت لسان جوزك ولا يقولشي
أنا حارميكي في الشارع اذا ابنك ضرب ابني
ويضربني وتجري والدموع تجري
وتجري عليه عشان تحوشيه
ويرمي يمين تكوني طالقه ياام حسين إذا حوشتي
إلي آخر هذه القصيده اللي بتحكي حدوتة هذا اليتيم اللي عايش مع جوز أمه،ابتدا شعر العامية يهاجمني ويسكنني ويغزوني إلي جوار شعر الفصحي، وأياميها الواحد ما حسش بالأزمة ؛ أزمة انه مزدوج اللغة شعريا، كانت المسألة إن فيه مشاعر وحاجات بتغلي في الصدر ولازم تطلع، اللي بيطلع عامية بيطلع عامية، واللي بيطلع فصحي بيطلع فصحي إلي أن ذَهَبْت...
صياد أنا والبحر في ضلوعي
تركت المطرية وأنا في سن ال15 سنة ونص عشان أدرس هندسة في جامعة إسكندرية، ودخلت قسم عمارة أي إعدادي عمارة ساعتها وابتدت تنفتح عيني علي عوالم جديدة للثقافة والمعرفة، كانت اسكندرية في الوقت ده العاصمة الاقتصادية والثقافية في مصر، أنت عارف إسكندرية كانت هي اللي قايدانا لحركة التحديث في الأدب والثقافة والفكر المصري، ففي إسكندرية اتولدت الصحافة المصرية بدءا من الأهرام، الأهرام اتولدت في اسكندرية، وكان قبليها صحف أخري لأديب اسحق، والعديد من الصحف آنذاك، أيضا الفن التشكيلي المعاصر اتولد في إسكندرية علي إيدين محمود سعيد، الموسيقي المصرية الحديثة اتولدت علي إيدين سيد درويش، الشعر الحديث اتولد علي ايدين النديم، ثم بيرم التونسي من بعده، سافرت اسكندرية وكانت العاصمة الثقافية، حيث الميناء و ميناء البصل، و البورصة وحيث الثقافة والأجانب الطلاينه واللجريج اللي موجودين في إسكندرية اللي لهم فنونهم وآدابهم وحياتهم الثقافية وصحفهم ومجلاتهم.
أنا لما كنت في اسكندرية كانت سنة 56، تحديدا في أكتوبر 56 كان ما زال هناك الكثير من التأثير الأجنبي علي الثقافة السكندرية، كان فيه كونسيرفتوار بتاع واحد اسمه " جيجر مان " اسكندراني، عامل كونسيرفتوار زي الكونسيرفتوار اللي اتبني بعد كده في القاهرة عشان المزيكا الكلاسيك أيام ثروت عكاشه والدكتور حسين فوزي، كان فيه في اسكندريه كونسيرفتوار، كان فيه في اسكندرية مكتبة اسمها مكتبة البلدية، هذه المكتبة كانت جنب إنها مكتبة بتعمل ندوات أسبوعية، وكان بيحاضر فيها أستاذ عظيم اسمه الدكتور أسامة الخولي، ابن الشيخ أمين الخولي، كان أستاذ هندسة طيران، وكان يحاضر أسبوعيا في الموسيقي السيمفونية، وكان فيه أستاذ عظيم في الفترة دي اسمه عاطف غيث كان يتبني مجموعة من الندوات الأدبية، وكان فيه كثير من الأساتذة السكندريين يثرون الحياة الفكرية السكندرية بأدبهم، كان فيه في اسكندرية من الشعراء المشهورين آنذاك: محمود الكمشوشي، وكان فيه حامد الاطمس و أبو سمره، وكان هناك فورة من الشعراء، وحياة بتغلي بالثقافة، وهناك انفتحت عينيا علي روافد ومعارف ثقافية جديدة ؛ علي السينما و المسرح، غير اللي كنت باشوفه من ثقافة الناس والمكان، وده أوسع بكتير من كتاب اقرأه أو قصيدة اكتبها، لأن الثقافة عالم متسع يستحق أن يمنحه الإنسان حياته كلها ليسعد بهذه الحياة، ابتديت أحلم إني مش عايز انشر شعر غير لما أبقي مثقف كبير، عشان أبقي مثقف مش لازم ادرس عمارة، فقلت أنا هادرس هندسة مناجم بحيث اترمي في الصحرا سبع تمن سنين أتعلم فيهم واتثقف فيهم كويس قبل ما انشر أي حاجه.
آخد حصان حلمي الجسور واغطس في وديان الزمان
"مدينة الأسفلت والحديد
باتوه أنا.. بتصبح المدينه غابه
مين يحوش
عني الديابه والوحوش
أنا وحيد "

علي هذا الأساس اتنقلت من اسكندرية إلي هندسة القاهرة، باظ كل هذا الترتيب، وأنا في سنه أولي هندسة كان فيه صديق من الاصدقاء بيحب اللي بكتبه فبعت أشعاري للأستاذة سميرة الكيلاني، كان اتعمل حاجه اسمها "البرنامج التاني الثقافي " وكانت الأستاذة سميرة بتقدم فيه برنامج اسمه "كتابات جديدة "،وكان بيستضيف نقاد وبيستضيف شعراء يقدموا شعرهم، ويقدمهم هؤلاء النقاد وبعد ما صاحبي ده ودَّي شعري لمدام سميرة، فتح لي الراديو يوم التلات، وقال لي: تعالي اسمع...إيه؟ اتفاجئت بإني لقيت الحلقة بكاملها عن شاعر، سماه الدكتور مندور الله يرحمه شاعر الهندسة، ولما قدم أشعاري أثني عليها، وقال إن إحنا قدام شاعر جديد موهوب مجرب ومثقف، وبيحاول إنه يبتكر أشكال جديدة في التقفية، وفي الأشكال الموسيقية، وانه يكتب في قوالب "السرينادة " وهو قالب موسيقي، ويكتب في قالب "السوناتا "، وهناك فارق بين السوناتا الرومانية والسوناتا الإيطالية والسوناتا الإنجليزية في كذا وكذا وكذا، أشياء كنت باحاولها صحيح بس ما كنتش منتبه إن معرفتها في الفترة دي يعني شيء مهم بالنسبة لشاعر شاب بيجرب، في مقتبل حياته، لكن أظن إني كنت واخد الحكايه شويه جد، دي أول محاولة للتقديم، بعديها بشويه لقيت نفس الصديق باعت شعري لمجلة، كان يصدرها الراحل الجميل سعد الدين وهبة اسمها "الشهر " فلقيت قصيده من قصايدي منشورة، جاب لي العدد، ولقيت قصيدة ليَّ اسمها " تلاث أغنيات إلي البعيد " في نفس العدد ده كان هناك شاعر جديد أعجبني جدا حين قرأته، اسمه "محمد عفيفي مطر " كان قد نشر في هذه المجلة قصيدة بعنوان "تراجيديا الملكة وآخرون "، ابتديت أتعرف علي عفيفي مطر في القاهرة، وعلي عالم الأدباء، والندوات الأدبية في القاهرة، وكانت القاهرة آنذاك مليئة بالندوات الأدبية علي مدار الأسبوع بأكمله هناك يوم الاثنين ندوة ناجي، ويوم التلات رابطة الأدب الحديث، ويوم الأربع جمعية الأدباء، مش عارف يوم الخميس ندوة الدكتور شوقي ضيف، ويوم الجمعة ندوة مين في كازينو الإيه، كل يوم فيه ندوة في مكان، بالإضافة لشيء مهم جدا ؛ نشاط المراكز الثقافية الأجنبية اللي فتحت عينينا علي السينما التشيكية والإيطالية والألمانية والفنون ؛ فنون هذه الشعوب المختلفة من الروس، للألمان، للبلغار، فكل من كل له سفارة في مصر، كان له مركز ثقافي يصل بيننا وبين ثقافة هذه الأمة صاحبة هذا المركز، أيضا كانت حركة الترجمة المصرية في أوج اشتعالها آن ذاك، فقد كان هناك مشروع الألف كتاب اللي بينشر أمهات الكتب في كل المناطق، وترجمات الشعر من كل بلدان الأرض

لازم تعرف حاجه عن كل حاجه
"إيدين عفيه بتفتح البيبان
لعالم الإنسان
ورده في إيد محبوب وإيد تضم إيد
ضمة حنان
إيدين بتبني الغد.. وتكسر جدار المستحيل "

في الوقت ده ابتديت أتاثر بأستاذ عظيم من اللي مروا في حياتي، اسمه الدكتور حسن فهمي أستاذ هندسة الإنتاج العظيم، أبو الدكتورة فريدة فهمي، وصاحب الأثر الكبير، ربما الأثر الخلاق لفرقة رضا آنذاك، عم حسن فهمي ده كان ليه مقولة عبقرية ربانا عليها، كان يقول لنا: لازم تعرف حاجه عن كل حاجه، وكل حاجه عن حاجه، يعني عشان تبقي مثقف، عشان تبقي مهندس، انت شايف فروع الهندسة الكبري، وبعدين الهندسة دي هتديها لمين ؟، مش للبني آدمين ؟ يبقي لازم تعرف حاجه عن علوم الإنسانية، تعرف حاجه عن التاريخ، تعرف حاجه عن الانثروبولوجي، تعرف يعني إيه الإنسان اللي ها تبني له، أو اللي انت هتعدِّن أو ها تعمل حفر في المنجم علشانه، فلازم تعرف الإنسان ده إيه، ففعلا هذا الرجل أعطاني الدرس الثالث والكبير في حياتي بعد ابويا، والأستاذ شحاته.
أظن إن هؤلاء الأساتذة العظام اللي سعدني زماني وعرفتهم، وتتلمذت علي إيديهم وحاولت بدأب وباجتهاد إني أتعلم منهم هم اللي في الآخر عملوا سيد ججاب اللي أنا سعيد اني باعيشه الآن.
أنا ابتديت شاعر فصحي وعامية ونشرت الأول شعر الفصحي، ثم وصلت إلي القاهرة، واكتشفت وأنا في سنه تانيه هندسة إني مش منذور للهندسة، وان حياتي اللي أنا احب تكون، لازم تكون في عالم الثقافة، والشعر بالتحديد، في اللحظة دي قررت، يعني ساعات كده في حياة البني آدم، يدق جرس في الدماغ يقولك: إنت كنت غلط، لا غيَّر السكة، فالجرس ده دق، واكتشفت إنه كان علي أن أندر حياتي بكاملها للذي أحب، الذي هو الثقافة والشعر، في الوقت ده.. الكلام ده حصل سنة 60،61، كنت باشارك في الندوات الأدبية القاهرية مستمعا ومشاهدا،ولا أقف علي منصة، وباسمع الآخرين، وباحاول أعيش وأسمع وأحس إلي أن انعقدت الصلات ببساطة، وبعفوية بيني وبين أبناء جيلي من الشعراء الأخرين، خلال هذا الحديث مره قاعد باسمع شاعر، شاعر صعيدي لابس لبس جيش،لابس مجند وبيقول شعر، كان الشاعر ده أنا لاحظته بييجي يوم الندوة،وبتلتقي العيون بالتواصل سواء استحسانا أو استهجانا لما يقوله الشعراء علي المنصة، فيه لغة عيون كده ابتدت بيني وبين هذا الشاعر، أو هذا البني آدم، يعني المجند الصعيدي،نوع من التفاهم الخفي حصل بينا إلي أن جاء يوم، طلع هذا الشاعر يقول قصيدة اسمها " مادلين " فبعد القصيدة، أنا قمت وحييته بعد الندوة يعني وقلت له إن القصيدة دي حلوه عشان كذا كذا كذا، وان فيها كذا، يعني قدمت له رؤية نقدية سريعة لهذه القصيدة، هذه الرؤية النقدية استلفتت نظر شاعر كبير، كان موجودا بيننا آنذاك اسمه الأستاذ "فؤاد قاعود" فأصر فؤاد قاعود إن إحنا نطلع سوا علي قهوة في باب اللوق نكمل كلام في الأدب والفن والشعر، في القعدة موجود بشر كتير منهم الشاعر "محمد إبراهيم أبو سنة"، منهم شاعر كبير اسمه "... العزب " وكان قد كف عن كتابة الشعر، وعدد كبير من الشعراء والمثقفين، منهم: سوريال عبد الملك "، كانوا مجموعة كبيرة جدا، قعدنا، اللي عنده قصيدة بيقولها، وبعد كل قصيدة نتبادل التعليق علي هذه القصائد، أنا ما باقولش شعر، ولا بقدم نفسي للآخرين حتي تلك اللحظة كشاعر رغم إن أنا كنت نشرت في" الشهر" وفي " البرنامج الثاني "،فجأة وبعد عدة تناولات نقدية بيني وبين الشعراء الآخرين لقيت "فؤاد قاعود" بيقف وبيشاور علي كده بعصبية وبيقول أنت شاعر، أنت بتكتب شعر، كالعادة عادة شاب خجول ومتواضع آنذاك، فقلت له مش شعر قوي، مجرد خواطر وأفكار وكلام كده يعني، المهم قال: لا أنت بتكتب شعر، قول لنا شعر، فقلت قصيده كان اسمها "قال أبتسم " بتحكي حكاية واحد ضربه السلك، وواقف قدام المصوراتي بيتصور صورة علشان بطاقة شخصية المصوراتي قال له ابتسم عشان الصورة تطلع حلوة،وهو
بيقول جوه نفسه:
" قال أبتسم..!!
ازاي بقي البسمه علي الشفه الجعانه تترسم
يا مصوراتي ازاي وليه........"

وبيقعد يقول همومه، المهم، أصلي مش حافظها دلوقت، المهم هذه القصيدة ربطت بيني وبين فؤاد قاعود بمحبة لا تنتهي، من خلال فؤاد قاعود قدمني للشاعر الكبير العظيم الراحل صلاح جاهين وبرضو دي شُوفَه تستاهل..،هذا اللقاء باحب أحكيه لأنه بيعكس طبيعة شخصية صلاح جاهين إلي حد كبير وبيعكس طبيعة المرحلة بكاملها آنذاك، أنا رحت مع فؤاد قاعود بيت صلاح جاهين، والتقيت "سليمان جميل " عشان أقابل صلاح جاهين، سليمان جميل كان موسيقي مثقف، مهتم بالموسيقي الشعبية، وعمل بعض الموسيقي لبعض الأفلام زي "جفت الأمطار" وغيرها من الأفلام، في اليوم ده قلت شعر وكنت بترقب انطباع صلاح جاهين وكان صامتا، وابتديت أخاف، لكن فجأة وبطفولة ومحبة، قام صلاح جاهين وحضن فؤاد قاعود وقال له وهو فرحان "إحنا كترنا يا فؤاد"

ولا بد من يوم معلوم تترد فيه المظالم
"في الليل إذا ضلم
الفجر يصبح شعر
والشعر مدنه وكل شاعر بلال
وانا بلال.. نفسي اعتليك يالهلال
وأصلي وأسلم
علشان بلدنا أم النسا والرجال
الأمهات والعيال
تقوم وتملا الزلعه م الترعه"

بالنسبة لدار ابن عروس اللي كان مشرف عليها صلاح جاهين، وكان ديواني ها ينزل قبل ديوان الأبنودي، لكن كان رأيهم إن نزول ديوان الأبنودي هايرفع أجره في الإذاعة، خاصة في ظروف صعبة، كلنا ساهمنا في المشروع، لكن كان صلاح جاهين هو الأب، وأظن إن اختيار اسم ابن عروس يؤكد الجذر الشعبي، كما يؤكد الاعتزاز بهذا الشاعر العظيم".
أنا وجهة نظري إن الشعر في الأساس فن قول، مش فن قرايه، وإن فن القول ده لازم يصافح آذان الناس، من هنا حسيت إني ها أقع في أحابيل المثقفين وقيمهم، وإن أنا علي وش اغتراب حقيقي لو خضعت لمفاهيم المثقفين اللي بتمجد في ديواني الأول، و ما التفتش لضرورة إني مبقاش شاعر المثقفين، لكن أبقي شاعر البُسطا من أهل بلدي، صوت اللي مالهومش صوت، كما كان يفعل الشاعر في القبيلة قديما، كان هو صوت القبيله دي، هذا الهم بقي يحسسني إنه من العبث أن تنشر ديوانا مطبوعا في بلد تسوده الأمية، وتسوده أكتر من أمية العامة ؛ أمية المثقفين، فالمتعلمون لا يقرأ ون، ولا يقرأون الشعر، فكانت مسأله بالنسبة لي مؤلمة وموجعة حينما قررت ساعتها إني أبطل أنشر شعر، لا في مجلات ولا في كتب، ولا في دواوين ولا في صحف، وابتديت أهتم بإني أنشر شعري عبر وساط أخري، فابتديت مع عبد الرحمن الأبنودي في برنامج كان بيخرجه فتح الله الصفتي الله يرحمه، كان برنامج اسمه بعد التحية والسلام، ابتديناه سوا، هو كتب 15 حلقة وأنا كتبت 15 حلقة، هو اهتم بنشر ال 15 حلقه بتوعه، وانا شوفت إن مجرد إذاعة ال 15 حلقة بتوعي، لعبوا دورهم وانتهوا بالنسبة لي، ابتدا يبقي مهم عندي إني أطلع من دواير المثقفين لدواير البسطاء، وأهتم بالندوة، واللقاء المباشر مع الناس، وأغنية الإذاعة، وما كنتش كتبت في الوقت ده غير غنوتين في حياتي، واحده اسمها "ياما زقزق القمري علي ورق اللمون"، وغنوة تانيه لحنها الراحل محمد فوزي للمجموعة اسمها: "ياطير ياطاير طير علي بلدي "، الحاجات دي كانت في حدود 1965، 1966، المهم ابتديت أهتم بالإذاعة وبالتلفزيون، كان الأستاذ الأبنودي ابتدا كتابة أغاني المسلسلات مع نور الدمرداش، عمل حاجه اسمها الرحيل، والساقية "والله لا بكره يطلع النهار يا خال "، وكانت فكرة الغنا في المسلسلات لسه جديدة ما استقرتش، كتبت أنا في الوقت ده غنوة مسلسل "الفنان والهندسة " من إخراج محمد فاضل، كان بطولة عادل إمام اللي كان صغير ساعتها، وكتبت مع محمد فاضل لعبد المنعم مدبولي أغاني مسلسل "جحا في بلاد..." وكان من ألحان محمود الشريف، وابتديت أقرب بحذر من عالم الدراما التلفزيونية والإذاعية أياميها، إلي أن التقيت أنا وعمار الشريعي، وأزعم إن أنا وعمار اللي أسسنا التأسيس الحقيقي لهذا النمط من الغناء، برغم أننا لم نكن الأوائل الذين خضنا في هذا البحر، ابتدت المسألة ببابا عبده، الأيام، قال البحر، ليلة القبض علي فاطمة، أديب، العملاق، مبروك جالك ولد، مجموعة من الأعمال اللي ابتدي بعدها موضة كتابة التترات أو أغاني المسلسلات، دخل فيها كثير من الشعراء اللي كانوا سبقونا وما حققوش نجاح، وماحققوش نجاح تاني برضه، أو الشعراء اللي دخلوا جديد للساحة، بعضهم حقق نجاح أحترمه كثيرا زي جمال بخيت وزي إبراهيم عبد الفتاح وزي كتار غيرهم، واستمرت رحلة كتابة الغناء للمسلسلات التلفزيونية، في الفترة دي عملت فيلم الأراجوز، حنفي الأبهة، البداية، الكيت كات، ليه يا بنفسج، وفي التلفزيون: السيرة الهلالية، سامحوني ما كانش قصدي، حبيبي الذي لا أعرفه، الشهد والدموع، ليالي الحلمية، جنب الرحلة دي كتبت لمجموعة من المسرحيات: الواد سيد الشغال، نص أنا نص أنت، اتنين في قفه، ولمسرح الأطفال حكاية أبو علي، وللمسرح الحديث، حكاية الواد بليه، نرجس، روض الفرج، حدث في أكتوبر، مسرحيات من الهابطة زي حزمني ياه، ولاد ريا وسكينه، وبالغم من إنها هابطة نسبة لأسماء الأبطال، لكني هبوطها ليس في المسرحية نفسها، وإنما لخروج المثلين علي النص، فمسرحية حزمني يا وراها فكرة طيبة ضد عالم الانفتاح الاستهلاكي، في السكة عملت مسرحية أعتز بها كثيرا، لعب بطولتها محرم فؤاد وعفاف راضي، اسمها دنيا البيانولا، أخرجها العظيم الراحل كرم مطاوع، يعني اشتغلت مسرح كتير قوي واشتغلت تلفزيون كتير قوي، وسينما كتير قوي، وقبل كه بشويه كنت هجيت علي بلاد الفرنجه كذا سنه، في هذا الهججان اتعلمت حاجه وشاركت فيها، مسرح كان جديد بيتولد في أوربا ساعتها، اسمه مسرح الخلق الجماعي، شاركت مع فرقة من سويسرا لخلق مسرحيات سواء للأطفال، أو للكبار، كان بلعب معاهم لعبة الدراماتورجي، وبعمل تدريباتهم، واتعلمت حاجه في تكنيك هذا الأسلوب، ولما جيت حاولت أطبقه هنا في مصر مع مجموعة من الفنانين كان منهم الله يرحمه توفيق عبد اللطيف، ومحمود هريدي الذي هاجر بعد ذلك لاستراليا، وكان منهم عهدي صادق وأحمد عبد الوارث، وأحمد راتب وسعاد نصر، ومارسنا معا محاولة خلق جماعي في الستينيات، ضربت هذه المحاولات في أوائل السبعينيات مع ضرب الحركة الطلابية في الجامعة، لأن كان كتير منهم مشتركا في الحركة الطلابية واعتقلوا وانفضت الفرقة اللي كنا بنسعي لتكوينها آنذاك، فالمهم إن الواحد أدرك مبكرا أن إنسان العصر القادم هو المثقف، ماذا تعني كلمة المثقف، تعني الذي ينظر إلي الوجود بعيون علمية، وينبغي عليه الاستمتاع بكل أنواع الفنون، من تشكيل، مسرح، رقص، غناء، موسيقي، شعر، رواية، واهتممت بقدر الإمكان أن أتعلم هذه الفنون، وأن أتذوقها، واقتربت من بعضها كثيرا كالفنون التشكيلية والموسيقي، وقضيت فترة طويلة في التعلم وأنا أعمل بهذه الفنون، تعلمت الكثير من عمار الشريعي في الموسيقي، كما تعلمنا الكثير عنها من الدكتور حسين فوزي، تعلمت الكثير عن المسرح من كرم مطاوع، ومن عبد الرحيم الزرقاني ومن كل من عملت معهم، وتعلمتا الكثير من فنونا التشكيلية، وذلك من خلال الاقتراب من كبار فنانينا زي آدم حنين وهجرس، فالواحد كان بيمارس الحياة وبيتعلم من أنداده وأساتذته اللي بيصادفونا في حياتنا كل يوم، علي أمل إننا نحقق الحلم اللي بنتمناه إننا نعيش حياة جميلة في وطن جميل ومستنير، يدي اللي عنده ويمتثل لله إذا كان يريد أن يكون إنسانا بحق، فليس عليه أن يسعي إلي شهرة أو إلي مال، أو إلي نجاح، فهذه الأشياء قد تأتي وحدها دون طلب إذا كان الإنسان جادا في تأسيس نفسه إنسانيا، وفي العطاء ببساطة، و بدون تواضع زائف، أو تنطع نرجسي في نفس الوقت.

إحنا اتعلمنا من أساتذة
"يا اصحابي صدري بينتظركو
تنهنهوا
ووسعوا لي في صدركم
حتة حنان
مهما تكون الضلمه عون
وليها ميات م القرون
وكل قرن في عين ولد"
في فترة السبعينيات، تقريبا في 73، 74، أتيح لي تولي رئاسة القسم الأدبي والثقافي لمجلة كان بيصدرها الاتحاد الاشتراكي، اسمها مجلة الشباب، دي كانت من التجارب الجميلة اللي في حياتي، لإني قررت إني أقف جنب الشباب اللي بعدنا زي ما أساتذتنا وقفوا جنبنا، ببساطة ودون مَنْ، وده رد جميل طبيعي جدا للأساتذة اللي علمونا، زي ما الرسول قال: " خيركم من تعلم العلم وعلمه"، إحنا اتعلمنا من أساتذة، ومن حياتنا، وعلينا أن ننقل ما تعلمناه للآخرين، كانت مجلة الشباب فرصة في زمن تختق فيه الديمقراطية، والواحد يجرب أساليب الخلق الجماعي مع مجموعة شعراء فيما يشبه الورشة اللي كنا بنعملها في المجلة، هذه الورشة عبارة عن ندوة نقدية أسبوعية، كلنا بنشارك فيها، كل مرة واحد من الشباب هو اللي بيتولي قيادتها، وكل مرة كلنا بنقول شعرنا، ونتولي مناقشة هذا الشعر وننتقي منه ما ننشره في المجلة وما ننشره من دراسات أيضا، هذه المجلة قدمت للحياة الأدبية عددا من الأسماء اللي أنا فخور بإني عرفتها، قدمت شاعر جميل رحل عنا شابا في بداية العشرينيات من عمره اسمه علي قنديل، وقدمت حلمي سالم، طلعت شاهين، رفعت سلام، حسن طلب، أمجد ريان، وعددا آخر مازال يواصل العطاء، وأظن أن جزءا مما وسع أفقهم الحياة الديمقراطية التي مارسناها معا في ورشة العمل الشعرية في المجلة، بعد ذلك قصرت الهمة أو زادت المشاغل ولم يعد الوقت يكفي إلا بالكاد لما أحب أن أفعله بحياتي، وهو أن أكتب، وأن أقرأ.

أشعر الإنس والجن
"لو الحقيقه قامه.. هامه.. إيد
لا اقص في البلاد أترها
قبلن يتمحي ويتردم
لحد ما القاها واعفر الجبين"

عم فؤاد حداد بالنسبة لي، إذا كان صلاح جاهين أبويا المباشر، ففؤاد حداد هو عمي المباشر في نفس الوقت، ففؤاد حداد في رأيي زي ما كان بيقول عن نفسه "أشعر الإنس والجن"، هو كان بيقول كده ببعض المعابثة وبعض الطفولة، وبعض الاعتداد بالذات، وببعض الانتقام من الزمن اللي ما ادلهوش حقه، فبيقول الكلمة دي عن نفسه، وانا بدي له العذر فيها، لأني فعلا أراه أشعر الشعراء جميعا، وإن كنت لست ملزما بالضرورة أن أحب أو أقترب من أشعر الشعراء، أنا أقدره كثيرا، لكني لم أقترب منه بالقدر الذي يسمح لي بالكلام عنه بشكل ودود وحميم، لقد عرفته، وقابلته، وقعدت معاه كتير، وقال لي جملة ملتني فرح، مرة كنت طلعت في برنامج اسمه جرب حظك، بيقدمه الأستاذ طاهر أبو زيد، وقلت قصيدة، وكان طلع بعد سنة 1964 من المعتقل قال لي أنا لما سمعت القصيدة دي في البرنامج قلت إحنا ها نخرج قريب، قلت له ليه ياعم فؤاد، القصيدة دي كانت بتنهي بجملة بتقول "مبارك الباب اللي من غير قفل"، فقال لي سمعتها فحسيت إن إحنا ها نخرج قريب، فأسعدني كثيرا، واقتربت منه إلي حد كبير عبر أخونا سيد خميس في برقاش، طلعنا سفريات سوا كتير، سمعت منه كتير، عرضت عليه كتير، لكن أنا وعمي فؤاد من مفهومين مختلفين للشعر، أحترمه كثيرا، أحبه كثيرا، أقدره كثيرا، لكن أري نفسي من أبناء مدرسة صلاح جاهين أكثر مما أري نفسي من مدرسة فؤاد حداد.
أما فيما يتعلق بالدواوين المطبوعة، أكيد الواحد بتفوته حاجات وهو بيشتبك مع الحياة، وهو بيعارك، وهو شايل موهبته، فالقابض علي موهبته في زمننا كالقابض علي الجمر، عايز يقول وعايز يطلع اللي جواه، ساعات بتغيب عنه أشياء كتيرة، وخصوصا إذا ما كانش شايف الفن والأدب بديلا للشهرة أو للمجد، أو للفلوس، لكن شايفه سبيلا للحياة نفسها، فبتغيب عن الواحد إنه يطبع حاجاته، اللي كان لازم يطبعها، وأنا أعدك بصدور الأعمال الكاملة من أغاني وأشعار مفردة، وأغاني مسرح وأفلام.
زمان قوي قبل ماتطلع حدوتة الطبع الإلكتروني دي كنت بقول لما يسألوني: لماذا لا تنشر، فبقول لهم إن التدوين المكتوب المقروء زي ما حفظ لنا أشياء كتيرة في التاريخ الإنساني أضاع أشياء كثيرة أيضا، يعني ببساطة التدوين في عمر البشرية سبع ألاف عام مش أكتر من كده، بينما البشرية عمرها ممتد قبل كده بآلاف السنين، فالتدوين حفظ لنا شكل أو مستوي للغة لكن لم يحفظ لنا صوتيات اللغة، الآن نحن لا نعرف كيف كانت تصوت اللغة الفرعونية، ولا نعرف كيف كان ينطق الأراميون ولا العبرانيون ولا الكنعانيون، كل ما نعرفه إن هذه الكتابات مصطلحات لمجموعة من المعاني نصل إليها دون أن نصل إلي الشيء الأهم في اللغة اللي هو الصوتيات، وكنت بقول قبل ما تنتشر الكتابة الالكترونية إن الدنيا مقبلة علي وسائط جديدة للتدوين وأن هذه الوسائط ستكون أكثر أمانة وديمومة وصدقا من الوسائط القديمة، أظن أننا الآن في عصر هذه الوسائط، لكن وجودها لن يمنع حاجاتنا للتدوين عبر الكتابة، ربما في الأزمة القادمة يحدث هذا، فوسيط المعرفة الأساسية والأكثر عمقا هو الكتابة.
إذا كان النقاد يقولون إن الشعر ديوان العرب، فأنا أقول إن الأغنية هي ديوان المصريين، فالشعر المنذور للغناء في مصر هو اللي حفظ للمصريين مفاهيمهم وعاداتهم، وتقاليدهم، وسجل دورة حياتهم، وأحب أقول إن مصر وأنا لفيت كتير من الأقاليم لو شلت أي حجر في أصغر قرية، في أبعد نجع عن القاهرة هتلاقي تحتيه يا شاعر يا مغنواتي، يا فنان بشكل ما، هذه البلد واضح إن في موروثها وفي عقلها الجمعي من أيام الفراعنة إن إحنا ورثة تحوتي، ماعت إلهة الحق والخير والجمال، ورثة أمنمحتب الإنسان الوحيد اللي حوله بشر إلي إله، وهو مهندس وطبيب وحكيم في الأسرة التالتة اللي بنت هرم زوسر، فعقل المصريين الجمعي به قدر لا ينفد من الابتكار اللي بيطلع فنون، واللي اتعلموه من التصدي والتحدي للنيل عشان يروضوه، ويخلوه بدل ما هو وسيلة دمار لوسيلة حياة، المصريون ممتلئون قدرة إبداعية مرعبة في كل الفنون، ومن هنا فليس غريبا أن يخرج منها كل يوم شاعرا جديدا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.