"وأتعس الناس في الدنيا وأنكدهم .. من يركب الليث أو من يحكم اليمنا" (محمد أحمد منصور) قبل ثلاث وثلاثين عاما، قفز ضابط مغمور اسمه علي عبدالله صالح إلى كرسي شاغر متفجر في قصر رئاسي متداع. كرسي لم يتجرأ الكثيرون في تلك اللحظة من التاريخ على الدنو منه. كان الرئيس سالم ربيع علي والمقدم أحمد الغشمي قد قتلا قبل أيام معدودات في الجنوب والشمال، وكان كل شئ يسير إلى مجهول في بلد (أو بلدين آنذاك) يحمل على اكتافه البنادق والعقائد والايديولوجيات. طلب هذا الضابط من رجل اليمن القوي في كل العصور المرحوم الشيخ عبدالله الأحمر أن يحكم ولو أسبوعا للانتقام للغشمي (حسب لقاء الشيخ مع قناة الجزيرة القطرية)، وصار الأسبوع ثلاثة عقود. وبعد تلك العقود الثلاثة، منذ أن جلس الرئيس الجديد على ذلك الكرسي الجمهوري مخلفا السلال والإرياني والحمدي والغشمي، لم تتوقف عجلة الأزمات عن الدوران رغم أنه أمسكها بيد من حديد يغطيها قفاز من الحرير. فتمرس بلعبة التحالفات المؤقتة، وبقدرته على العنف والعفو في آن واحد وبالضرب بيد و بشراء الولاءات بأخرى، وبتقديم نفسه بمهارة حليفا للجميع ، ففي الداخل هو رجل القبيلة والدين والوحدة، وفي الخارج بات الصمام ضد الإرهاب والتطرف وحامل أعباء الديمقراطية. سنوات طويلة مرت على ذلك الرائد المغامر ذي الشعر الطويل الذي بات مشيرا ورئيسا لدولة تقبع ربما في أهم بقعة استراتيجة في شبه الجزيرة العربية، فهو محاذ للسعودية وعمان ومطل عبر البحر على القرن الأفريقي بجميع تداعياته، ناهيك عن ثقله البشري والحضاري في منطقة يشوب تأريخها وجغرافيتها التصحر والتشابه. يحتل الفين وخمسمئة كيلومترا من سواحل أثنين من أهم بحار العالم و يشرف بعين كسلى على طرق إمداد الذهب الأسود الذي يغذي ماكنة المدنية الغربية بماء الحياة . و لكن، ورغم كل ثقله التأريخي والجغرافي والبشري، لا يزال يراوح في أسفل سلم كل إحصاء في العالم بعد ما يقرب من نصف قرن من "انتصار" الثورات شمالا وجنوبا وقيام الجمهوريات وفق النموذج الناصري السائد آنذاك، ثم عصر البترول وعصر الأحلام، وعصر الوحدة والأحلام الأكبر. خاض الضابط حروبا عديدة، منها في المناطق الوسطى، حتى قبل أن يصبح رئيسا، ضد اليساريين المدعومين جنوبيا، و حربين مع الجنوب في 1972 و1979، و ثالثة بعد الوحدة عام 1994 مع ستة حروب ضد الحوثيين في الشمال، وتعرض لمحاولات انقلابية متعددة، خرج منها جميعا وقد أثخن في الشعب وأثخن الشعب فيه. وفي عهده فقد اليمن رجالات يشار لهم يمنيا وعربيا بكل احترام وتقدير، قضوا اغتيالا أو كمدا. بعد ثلاثة عقود من حكم الرئيس الضابط بات في اليمن ثمة اقتصاد متداع باستمرار،وثمة حوثيين وجنوبين وقاعدة بكل امتداداتها اليمنية والإقليمية المعقدة، بالإضافة إلى القراصنة. هذا غير الحروب الفرعية، القبلية منها والسياسية، وحديث عن حروب ايرانية سعودية بالوكالة، وعن حرب امريكية ضد القاعدة، بل وعن انفصال وشيك، وعن صوملة وعرقنة وأفغنة. عبر كل هذه الحروب، كان الضابط يدير الخيوط من مجلسه، وحيدا بمعونة مجموعة من المقربين اختصروا كل البلاد في ذواتهم التي ذابت في ذات الرئيس. لم يكن ليدرك أن الزمن يتغير بأسرع مما يتغير الرجال، وبأن ما قد يصح قبل ثلاثين عاما قد لا يصح في عصر الألفية والحقوق والمجتمع المدني ونهوض الحرية. لم يعد الزمان والمكان قابلا لأن يدير "الأخ الرئيس" حياة خمس وعشرين مليونا شخصيا وفرديا، إلى درجة تعيين ضابط في مخفر أو موظفا في سفارة بالهاتف. خلق الأخ الرئيس من حيث يدري أو لا يدري دولة الفرد الواحد في مجتمع قبلي ذي علاقات ولائية متشابكة، دولة لم يشك أي من المراقبين في إمكانية سقوطها المدوي في أية لحظة. دولة باتت بسبب تركز السلطات المرعب بؤرة للفساد والنهب العام والخاص إلى درجة أن يهدد الرئيس المعارضين علما بفضح فساده أن تجرأوا هم على ذلك فالجميع في ذات المركب المثقوب. لقد أوصل عصر الأخ الرئيس الفساد إلى أن يكون ثقافة اجتماعية، وليس ظاهرة عابرة، يمارسه الكبير والصغير، فإن سألت الشرطي عن رشوة، يجيبك فورا وماذا عن الكبار؟ فالكل ادمج في هذه اللعبة المدمرة. تتصف جميع حروب "الأخ الرئيس" بأنها قابلة للاشتعال مرة أخرى وفي أية لحظة، ذلك أن جذور المشكلة الأساسية لا تقبع فقط في نوع النظام ومعارضيه، ولا في التركيبة القبلية أو الطائفية، ولا في التدخلات الأجنبية وإن كانت كلها عوامل لها ما لها في صناعة الحدث اليمني، وإنما يكمن في عنصر لا يهدد اليمن فحسب بل مجمل ما يسمى بالنظام العربي في عهد الجمهوريات العسكرية، وهو اتساع حلقة الفقر والظلم والقمع بشكل واسع بعد السقوط المدوي لنموذج التنمية "الناصري" إن صح التعبير بعد عقود من المراوحة والفشل في بناء مجتمعات حديثة رغم الحديث الممجوج عن التنمية في اعلام هذه الأنظمة ومعارضاتها. ولا تبدو اليمن هنا حالة خاصة، فما يجري فيها قابل للحدوث في أي بلد عربي آخر، إلا أن انخفاض انتاج البترول الشحيح اصلا في هذا البلد إلى الثلث تقريبا رفع الغطاء عنه بشكل سافر، فانكشف الاقتصاد عاريا عاجزا عن توفير الخدمات الأساسية من مياه وكهرباء وتعليم وصحة، ناهيك عن أمراض الشرق المزمنة مثل الفساد وغياب العدالة والمحسوبيات والفئوية والنزعة الاستبدادية للانظمة رغم القشرة الديمقراطية الهشة، فارتفعت الأصوات وعم التذمر، و ظهر ما كان تحت السطح إلى فوقه، وفي ظل غياب ثقافة الحوار والعمل المشترك بين الجميع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، خرجت البنادق لتعبر عن نفسها بديلا جاهزا، وخرج الناس ثائرين، بعد أن عجز حتى مخدر القات عن إطفاء جذوة غضبهم. انتظر العالم العربي - واليمن مثال صارخ منه- أربع أو خمسة عقود ليكتشف أن الشعارات لا تبني محطات للكهرباء ولا تحفر آبارا للمياه ولا تضع اللقمة في فم جائع، وبأن الموارد التي كانت تكاد تكفي في ستينيات القرن العشرين لم تعد كذلك في الألفية الثانية، وبأن التضخم السكاني الخيالي لم يعد عزوة بل نقمة، وبأن الحديث عن المؤامرات الخارجية لم يعد مقنعا لشعب بات ثالثا على مستوى العالم في معدلات سوء التغذية وبات أكثر من عشرة بالمئة من سكانه مصنفين في خانة انعدام الأمن الغذائي، بل وأصبحت ثلاثية الجهل والجوع والمرض هي القاعدة وليست الاستثناء. فلا عجب إذن أن يتمرد الشمال ويطالب الجنوب بالانفصال وتصول القاعدة وتجول ويزدهر الفساد، فالشعار السياسي مهما تزخرف يبقى انعكاسا لواقع اقتصادي ومعاشي، وإذ وفرت أموال البترول رقعا للشق الكبير لسنين أو عقود، فقد نضبت تلك الأموال اليوم وبات على نظام الحكم مواجهة الخيارات المرة، اما قيادة حركة التنمية والتغيير والتنوير وهذا خيار صعب حتى وإن توفرت النوايا في غياب الأدوات البشرية والخططية والارادة السياسية، وأما الأنتظار على كرسي الحكم الوثير حتى تختزل الدولة في القصر الرئاسي ويختزل القصرذاته في شخص الرئيس. وإذ تملأ مثل تلك الأنظمة مخازن الجيوش بالطائرات والدبابات، بينما تفتقر آلاف المدارس حتى إلى السقوف والجدران، يصيب الصدأ المجتمع والدولة قبل أن يصيب تلك الأسلحة ولن يعود النظام قادرا حتى على بيعها لتوفير الخبز، فيبرز الجياع حاملين خناجرهم وبنادقهم تحت أي مسمى أو شعار كان ويقوضوا النظام أواللانظام القائم، ولن يلومهم أحد. بسقوط أسطورة الدولة المالكة لكل صغيرة وكبيرة، وبسقوط نظريات المستبد العادل وتوزيع الظلم بالتساوي و "جوع كلبك يتبعك" وغير ذلك من ابر التخدير التي عاشت بها الأنظمة عقودا سرقتها من حياة الشعوب وتقدمها وتطورها، وبالتسارع المضطرد في نمو الوعي الشعبي مع ثورة الاتصالات التي جعلت المستور مكشوفا للجميع، لم يعد أمام هذه الأنظمة سوى خيارين، أما بناء المجتمعات أو الرحيل، فلم يعد التعكز على فلسطين والصهيونية والأمة والقادة التاريخيين لإلهاء الملايين عن قضايا اللقمة والكساء والدواء مثمرا، ولم يعد يطيل في أعمار الأنظمة والمعارضات والمشايخ والطبالين والزمارين. معضلة شعوبنا ليست في الأنظمة فحسب، بل وفي المعارضة أيضا، فالإناء لا ينضح إلا بما فيه، وما فيه بات معلوما، فلا الأخوان المسلمون ولا الناصريون ولا الاشتراكيون باتت لديهم الحلول السحرية ، فهم أوجه أخرى للنظام، أنتجتهم ذات الظروف الموضوعية التي انتجته فلا جديد عندهم بعد أن استنفذوا واجتروا قديمهم مرة إثر مرة على كراسي السلطة عندما كانوا عليها، وفي المعارضة التي شاخوا فيها حتى بات خطابهم كخطاب النظام اجترارا وتكرارا لذات المفاهيم والحكايات بل وحتى التعبيرات وهم يتحدثون نيابة عن شعب اليمن بشماله وجنوبه، ولا عجب أن يلجأ شبابه الذي يتميز بسرعة التعلم والذكاء الحاد الى المهاجر فور سنوح الفرصة قبل الاستلاب والاحباط في مجتمع يقاوم التغيير بكل ما أوتي من قوة، ليذوي في تلك المهاجر عوضا عن المشاركة في بناء دولة العدالة والكفاية التي لم تتسن له منذ قرون. يقول التاريخ الحديث للشعوب بأن التنمية تأتي أولا وثانيا وعاشرا، اقتصادية اجتماعية وثقافية وسياسية، أما الحروب الوهمية وتضخم عساكر السلاطين على حساب المدارس والمستوصفات فلن يقود إلا الى ظهور المزيد من "الحراكات"، ربما تفوق في شدتها ما تشهده اليمن شمالا ووسطا وجنوبا، وحينئذ لن ينعى اليمنيون وحدتهم، بل قد ينعون وطنهم بأكمله. ليس هذا محاكمة لعصر علي عبدالله صالح في اليمن، فاليمنيون هم وحدهم من لهم الحق في ذلك، ولكنه انطباع أولي عن تجربة عقدين من الزمان في ذلك البلد الجميل في ضيافة شعبه الطيب الأصيل، الكريم والمضياف الذي يستحق أكثر بكثير مما يقدمه نظامهم وربما معارضتهم ، شمالا وجنوبا. سواء أن عاد "الأخ الرئيس" أم رحل فإن ما يحدث في اليمن جرس إنذار للجميع من دول الترقيع، فالإفلاس التام قادم، وحينئذ فالتنمية أمامكم، والبحر من ورائكم فأين المفر؟.