لا تروق لي عبارات المديح . و خاصة حين يتعلق الأمر بكتابة مقال صحفي .. ففي : فيس بوك تظهر مشاعر المرء و يمكنك قراءة الشخصية من خلال خواطرها و تعليقاتها ، و الأمر مختلف حتماً في المقال الذي يحرص كاتبه على انتقاء عباراته و سلاسة أفكاره و وضوحها . و المديح جزءٌ من المجاملة المستحقة اجتماعياً التي نمارسها بلا وعي في حياتنا اليومية .. لكن حين يتعلق الشأن بمصير أمة كانت على شفا نزاع مدمر .. فما يقال ليس مجاملة أو مديحاً استثنائيا و به يمكنك الحديث بهدوء عن كل ما تفكر به و تعبر عنه مشاعرك المضطربة . كان اليوم الأثنين .. و هو موعد اللحظة التاريخية التي حرص الرئيس السابق : علي عبدالله صالح على تأكيدها و حضورها كجزء من وعوده الحازمة في ملف أزمة لم نستشرف مطلقاً نواياها و تأويلاتها ، و مكث أغلب الصحفيين في تمجيد بطولة غير مستحقة لشباب مدفوعين الأجر و النوايا تربطهم إيديولوجيا متحولة ساعدت في هدم قيمً متفاوتة بعميق ضمائرنا . اقتناص الفرصة التاريخية مأثورة جُبل عليها الرئيس السابق كما كان يحلو لفارس السقاف وصف خطواته الفارقة في علامة الزمن و تقدمه المستمر بخطوات عن أفكار التقليديين و حواة المناصب و المشارب .. و لما كان شاب كمثلي خرج إلى الدنيا و "صالح" رئيسه فأتيحت له الفرصة العابرة كسحاب الله اقتناص لحظة الحضور و التواجد في تاريخ أكبر من التاريخ .. يوم تسليم السلطة الطويلة لرئيس منتخب شعبياً وفق آلية انتخابية لا يمكن التشكيك في قوتها و استثنائيتها و بما جعل الخروج الآمن لرجل في حجم : صالح خروجاً مرفوع الرأس كما تحدث .. و ظهر بإصراره اليوم .. تاركاً السلطة لرئيس آخر شدد عليه و انتخبه قبل أن تصوت له ملايين الناس في انتخابات توافقية دمرت أوهام الانقلاب .. و أسطورة القبيلة التي تصنع الزعماء و القادة و أرجعت الأمر و الرأي و الولاية إلى يد الشعب الذي إن خرج محتجاً و حاداً فليس ثم طريق يسلكه لتغيير رئيسه و قائده سوى صناديق الاقتراع ، و عليها و بها و لأجلنا فليتنافس المتنافسون . كانت الرؤوس كثيفة أمامي .. و صوت الرئيس الجديد يملئ فراغ القاعة في دار الرئاسة التي جئناها ضيوفاً فرحين .. و مقبلين مشاركين في شهادة يوم عظيم كهذا الذي لم نألفه عربياً أو يمنياً .. لم أطق صبراً .. نهضت من مقعدي الأحمر .. و تحركت .. اقتربت .. لأشاهد الرئيسين معاً .. .. مشاعر الجميع منطلقة واضحة و مقروءة .. احتشد الوزراء السابقون و وزراء المؤتمر و التحالف الجدد ، و نواب الشعب المؤتمريين ، و أمامي كان : يحيى محمد عبدالله صالح .. سعيداً مبتسماً يحوم حوله المصورون و الناس لالتقاط الصور التذكارية العزيزة سعادة بهذا الحدث الراسخ .. و التسليم السلمي للسلطة مسنوداً بإرادة لا يمكن التشكيك فيها .. و قبولاً شعبياً لن يطيق بائعي الوهم معه صبراً . غياب محمد سالم باسندوة .. شكل مأساة شخصية لا ترقى به إلى مصاف القيادة النوعية ، و إن بكى لأجل الحصانة و المبادرة .. فابتعاده عن مشهد التسليم و التوديع .. ينكئ جراح التساؤلات عن مدى ارتباطه المعلن بقوى الشر التي منحته ترشيحها و تحكمت فيه فصار رئيساً لنصف الوزراء فقط و مملوكاً لشخص أثرى حياته بأموال التهرب الضريبي .. و نفقات الخيانة الخارجية . تعملق سؤال الغياب في محاولتي الحثيثة و تجاوزي الصعب للحشود الكثيفة مقترباً أكثر من الرئيس السابق رفعت يدي في الهواء تحية . لكنه كان محاطاً بابتسامات مرهقة .. و أمنيات وداعية حزينة .. لم أستطع الاقتراب أكثر و الحصول على صورة تذكارية كما خططت لذلك . كنت أول الخارجين متتبعاً أثر الرئيس السابق الذي غاب خلف باب خشبي كبير أوصده مرافقوه و حراس الرئاسة .. وجدت نفسي في صالة كبيرة بها صور عديدة تعرفت إليها : إنها قاعة الاجتماعات التي كثيراً ما عقدت فيها اجتماعات مجلس الدفاع الوطني .. و قد خلت من صور الزعيم : صالح الكبيرة .. و حلها مكانها صوراً رسمية للرئيس الجديد ، و كان على المساند الخشبية أوان معدنية مفتوحة تتوزع فيها أنواع شتى من الكيك المحلى و عصير البرتقال .. اقتربت من صورتين كبيرتين للرئيس السابق و هو يقف خلف رئيس وزرائه الأسبق عبدالقادر باجمال – شفاه الله – لحظة توقيع اتفاقية ترسيم الحدود اليمنية السعودية .. و حولهما لفيف من الوزراء و الأمراء السعوديين . مر من أمامي : نبيل العربي .. و بجواره أشخاص آخرين .. ابتلعت لساني الذي يفر مني دائماً حين نوى أن يعاتبه على موقفه المتحيز بحق سورية .. مما جعله في موقف ضعيف ما كان ينبغي له أن يكون كذلك .. كان نحيلاً بصورة لافتة .. و عجوزاً .. يلبس بذلة سوداء أنيقة .. رحبت به بلا مصافحة .. فالتفت مبتسماً . د. علي مجور ظهر بقسماته الجادة و وجهه المثخن بجراح النهدين الغادرة .. صافحته مسرعاً .. كان يلبس قفازين خشنين و بدا طويلاً على عكس ما توقعته .. و وحيداً مطرقاً كان يخطو : يحيى الراعي .. تعمدت أن أبتسم له و عرفته بنفسي مصافحاً .. فرحب بتؤوده .. و مضى . سلطان البركاني كان يمضغ علكة و يرتدي جاكتاً يتحدث مع لفيف من السفراء الخليجيين .. و عند الباب وقفت خلف الدكتور الإرياني في زحام الخروج من البوابة الخشبية محمياً بأيدي : عادل قائد الذي يقاربه حجماً و طولاً .. فيما كان : مطهر المصري النحيل المبتسم بصوته الأجش يجري حواراً مع زعفران المهنا بكل ضخامتها . خرجت حيث الحشود تطوف .. راعني التهام أواني البوفيه المفتوح في فناء دار الرئاسة بسرعة موحشة ، بما يجعلك و أنت المواطن الوحيد بين جمع المشهورين النافذين عسكريين و مدنيين الاعتقاد بأن هؤلاء المفترسون لم يجدوا قيمة إفطار الصباح .. بلعت رغبتي و لعقت سخطي .. و بجوار حلة معدنية تشكو الفراغ وجدت صديقي النبيل : ناصر الربيعي مراسل الأهرام ويكلي و الجولف نيوز بصنعاء ، و الأستاذة نور باعباد التي تفرست ملامحي و قالت : هل تشتغل في الإعلام ؟ أجبتها بالتأكيد ، أما حمود منصر فصعقني حين ضحك أول ما رآني و هو يتساءل عن غزو الصلع اللعين الذي بات فاضحاً و واضحاً .. آثرت مواصلة الحديث مع ناصر الربيعي .. فسرنا معاً .. نتجول في الفناء الأخضر الواسع .. و رأينا باباً ضخماً يُفتح و إليه تحرك البعض أمامنا فحسبنا أن ثم مراسم أخرى خلفه .. فتتبعنا .. مررنا بجوار مسبح راكد .. مليء بالأتربة يبدو ألا أحد استخدمه منذ عام تقريباً (!!) .. ثم ظهر طابور قصير .. كان الرئيس المنتخب يقف هناك أمام مبنى الاستقبال الخاص لمصافحة مهنئيه . تقدم الطابور سريعاً و كان في بدايته .. و لم يكن خلفنا سوى ثلاثة أو أربعة أشخاص أذكر منهم : نبيل الباشا عضو مجلس النواب ، و رجل يمشي على عكازين . أما البقية فمنهمكون في مراسم الالتهام الطاحن لموائد الإفطار المحلى بكيك الرئاسة . اقتربت من الرئيس الجديد و فجأة رفع المصور الفوتوغرافي كاميرته .. كانت يده متعبة من كثرة التركيز و التقاط الصور .. حان دوري .. و المصور لم يزل غير مهتماً بي .. فلوحت بيدي اليسري ضجراً لألفت انتباهه .. و حسناً فعلها .. صافحت الرئيس مهنئاً .. و صافحني .. كفه الصغير كان ناعم الملمس . من بعيد كنت أشاهد جموع المهنئين .. اقترب السفير الأميركي بصنعاء يصافح صديقي ناصر تحدثا معاً .. ثم صافحني .. كان حازماً و شديداً رغم ابتسامته المفتوحة .. و مظهره الذي يبدو كأنه من صعايدة أميركا . ذهبت مع ناصر الصديق الطيب .. و لم نحبذ فكرة العودة عبر حافلات النقل الجماعي إلى جامع الصالح .. خرجنا راجلين .. ثم افترقنا في جولة السبعين .. و هناك وجدت أصدقائي الثلاثة : يحيى و حامد و نزار .. أين أنتم ؟ .. بادلوني ذات السؤال . و لم يجب أحدنا الآخر .!! و ماذا بعد .. كان الغداء فاخراً .. و لهذا قصة أخرى .. يجب أن تروى . و إلى لقاء يتجدد . [email protected]