لم تتضح بعد نتائج الزلزال الذي وقع قبل ثلاثة أيام في جزيرة هاييتي، لكن يبدو أنه يفوق في نتائجه وقوته إعصار تسونامي الشهير الذي وقع قبل خمس سنوات، فالمصادر الإخبارية نشرت صباح أمس أن عدد القتلى تجاوز المائة ألف وأن الجرحى والمشردين تجاوزوا الثلاثة ملايين، أي حوالي ثلث سكان الجزيرة المنكوبة بالزلزال وبتاريخها أيضا، فهذه الجزيرة التي كانت وادعة في البحر الكاريبي حولها الفرنسيون عام 1626 إلى مزرعة هائلة سخر للعمل فيها ملايين العبيد الذين جلبوا بالقوة من أفريقيا، لا يتحدث أحد اليوم عن تلك الأحداث البشعة، ولعلها أبشع ما حدث في التاريخ الإنساني عندما جلب عشرات الملايين من أفريقيا بالقوة وحولوا إلى عبيد، بل إن فرنسا أجبرت حاكم زنجبار العربي على إلغاء مرسوم أصدره السلطان لإلغاء الرق عام 1823، وخاض العبيد ثورة طويلة ضد الفرنسيين استمرت 13 سنة (1790 – 1804) انتهت باستقلال الجزيرة، وصار العبيد الذي يشكلون أغلبية سكان الجزيرة حكاما لها، وشكلوا مع الزمن لغة هاييتية خاصة، ولكن الجزيرة ظلت فقيرة بائسة، يشتغل معظم سكانها بالزراعة، وتعيش فيها أيضا جالية عربية بدأت بالهجرة إليها منذ منتصف القرن التاسع عشر من حضرموت وسورية ولبنان، ثم فلسطين. وقد ابتليت هاييتي بالعنف والخروج على القانون، فوقع فيها انقلاب عسكري عام 1991، ودبت الفوضى منذ عام 2004 ، عندما هرب الرئيس أريستيد إلى المنفى، وأعاقت حالة الفوضى الخدمات الأساسية وحالت دون وصول المساعدة الإنسانية إلى الضعفاء، ونتيجة لارتفاع الكثافة السكانية في هاييتي وانهيار البنية التحتية فيها، فقد أصبحت عرضة على نحو خاص لتأثيرات الكوارث الطبيعية كالفيضانات والانهيارات الطينية والأعاصير، وتعاني هايتي من أعلى معدلات وفيات الأطفال الرضع ودون الخامسة من العمر والأمهات، وتنتشر فيها أمراض السل والملاريا والإيدز، ويفتقر معظم السكان إلى الخدمات الصحية الأساسية، ويهرب سنويا ألفا طفل من الجزيرة إلى خارجها، وغالبا ما يتم ذلك بموافقة ذويهم، ولا يلتحق بالمدارس أكثر من نصف الأطفال في سن الدراسة، ويعمل حوالي ألف طفل في العصابات المسلحة المنتشرة والمتمكنة في الجزيرة، وكأن العالم (المتقدم) مايزال مصرا على الانتقام لثورة العبيد التي وقعت قبل مائتي سنة، فالعبيد يجب ألا ينتصروا كما يعلمنا فيلم سبارتاكوس، وتتحالف الطبيعة اليوم مع الفقر في مشهد يفوق التخيل، من الدمار والجثث الملقاة في الشوارع، والانهيار التام للمباني والمرافق.
الهاييتيون المساكين الذين نجحوا في الحفاظ على دينهم الأصلي "الفودو" يبدو أن إلههم هو أيضا مسكين مثلهم، فالأرواح التي يعبدونها ليست سوى أرواح العبيد المضطهدين والمقهورين لا تصلح أبدا لمواجهة الفقر والمرض والزلازل والاستعباد، فأي روح ستحل في أجساد الراقصين في الطقوس الدينية في هاييتي؟