يقال إن الإنسان يرى عند الموت أكثر لحظات حياته عاطفةً وحميمةً. يراها بوضوحٍ شديد، بالصوت والصورة، على هيئة مشاهد بصرية خاطفة أو سيل صور وأصوات وذكريات تتدفق عشوائياً في ذهنه لثوان معدودة قبل أن ينطفئ كل شيء وتسوّد الشاشة. لست واثقاً ما إن كان المصور التلفزيوني "حسن الوظائف" قد خطر بباله يوماً أن الصورة التي يركض من أجل تصويرها محتملاً ثقل كاميرا تصوير ديجيتال على
كتفه ستكون هذه المرة صورته هو وأنها المرة الوحيدة التي لن يشعر بخوف أو قلق وهو يرى الكاميرا تسقط من يديه مطمئناً إلى أن أحداً لن يجرؤ على معاتبته أو لومه على تحطمها وفقدان الصور.
ولطالما أحسست بروحه تتردد باستمرار على حي جامعة صنعاء القديمة لمعرفة المكان الذي جاءت منه الرصاصة الغادرة. يا إلهي ما أسوأ أن يقتل المرء دون أن يعرف من غريمه. إنها تورث حقداً وفضولاً يثقل الروح إلى يوم القيامة!
بخلافه لم يكن الزميل الصحفي "جمال الشرعبي" يحمل كاميرا تصوير ولا يرتدي سترة كالتي يلبسها عادةً المراسلون الحربيون في فلسطين أو العراق والذين يعملون لدى وكالات أنباء محترمة تهتم بكادرها وتخاف عليه. كان واقفاً يحدق، بفضول صحفي، باتجاه السور المشتعل أمامه عند جولة المركز الإيراني سابقاً، الشهداء حديثاً، بينما كانت رصاصة جانبية، أو ربما من الخلف، تفتت جمجمته وترسله إلى العالم الآخر. لقد وقع فجأة على الإسفلت الذي مشى عليه بقدميه قبل قليل.
يقلقني التفكير حول ما إن كان جمال قد استعرض في مخيلته ذلك الفيلم القصير المجمع من تشظيات الذاكرة والذي يشاهده الإنسان عند موته عادة أو أثناء احتضاره؟ لا أظن. ذلك أن رصاصة القاتل لم تمهله ولا حتى لحظةً كيما يستعد أو يبلع ريقه. لم يكن لديه الوقت الكافي لطلب أمنية أو إرسال إشارة عصبية إلى ابنته وزوجته على اعتبار أن أفكار الإنسان أيضاً عبارة عن موجات كهرومغناطيسية كموجات إرسال واستقبال الاتصال اللاسلكي إن لم تكن أحدث.
لقد قتل جمال دون أن يتاح له كما لمعظم ضحايا جمعة الكرامة -أما وقد استهدفوا برصاصة قاتلة في الرأس- التماس طلب من المخرج كي يتيح له سقوطاً سينمائياً مؤثراً وبطيئاً كسقوط حمزة بن عبد المطلب، أو عبد الله غيث، في فيلم الرسالة. كان موته أسرع من ترميشة عين أو ضغطة زر لمبة النيون وإن لم يسلبه ابتسامته الراضية التي تؤكد صدق مقولة عبد الملك بن مروان عن "قتيل هو أقوى من قاتله"!
لدي يقين وسابق خبرة بوجود اتصال قوي، على هيئة "واير لس"، بين الأحياء والموت. وافكر وأنا أرى وسامة نزار هائل سلام ووقفته الواثقة في الكرب الكبير الذي ينتاب الشهداء وهم يرون، من خلف زجاج برزخي شفاف، ما آلت إليه تضحياتهم على مذبح التسويات. إنهم يتقلبون الآن في قبورهم كمن جفاه النوم!
لأرواحكم ولجميع شهداء اليمن خلال العام والنصف الماضي السكينة والراحة الأبدية