ليس من الشجاعة أن تنتقد مسئولاً أو وزيراً بعد خروجه من الوزارة. وليس من الشجاعة أن تنتقد حاكماً بعد أن تتأكد من انتقاله إلى العالم الآخر، أو بعد أن يتناهى إلى سمعك أنه غادر السلطة إلى غير رجعه. الشجاعة هي أن تقول كلمتك في هذا المسئول أو ذاك وهو مازال في منصبة، جالساً على كرسيه الدوار، يمارس السلطة بتعال وزهو، وأن تقولها في هذا الحاكم أو ذاك وهو في ذروة قوته، متربعاً على عرشه، ومن حوله كلابه وأدوات قمعه. بمعنى آخر، الشجاعة هي أن تقول كلمتك في وقتها، تقولها وأنت تدرك خطورتها، تقولها وأنت قلق وخائف وليس وأنت آمن ومطمئن. وحدهم المزايدون والمنافقون يبلعون ويحبسون ألسنتهم في مؤخراتهم، ويجلسون ساكتين، صامتين، مؤدبين، مؤيدين، حتى إذا أنقلب الوضع وتغير المسئول أو الحاكم سحبوها من مؤخراتهم إلى أفواههم، وراحوا يلعنون، ويشتمون، وينتقدون بأثر رجعي ويزايدون. أما الأنذال فهم أولئك الانتهازيون الذين يكشفون عن نذالتهم في الوقت المناسب. هؤلاء يكونون مع النظام، وفي صفه، وجزءاً منه، ومع الحاكم، يمجدونه، ويعظمونه، يمدحونه، ويدافعون عنه، ويشيدون بقدراته ومنجزاته ومعجزاته، بحكمته وقيادته، ويكشرون عن أنيابهم في وجه كل من ينتقده أو يعارضه، حتى إذا حدث أن لمحوا من بعيد سفينة نظامه تهتز وتترنح تحت ضربات رياح التغيير، وبدا لهم أن السفينة على وشك أن تغرق.. تقافزوا من فوقها كما تتقافز جرذان السفن والمراكب. لكن الجرذان الحزبية بمجرد أن تشعر بأنها في مأمن تلعن السفينة وتعدد عيوبها، وتشتم ربانها وتعدد عيوبه ومثالبه، وتبدأ بكيل المديح للربان الجديد.. تمدح سفينته، وتشيد بحكمته وبقيادته، وتلك هي شجاعة الجرذان.