لم يعد لنا شيء نفعله سوى ترقُّب الفجائع وانتظار سقوط الضحايا لنشارك في التشييع.. نتبلَّد أمام نشرات الأخبار وعناوين الصحف، التي أصبح لونها الأحمر معبِّراً عن الدموية التي تجتاحنا صباح كلَّ يوم. لم يعد هناك ما نتذكَّره من بهجة، ونحن نمرُّ في كلِّ شارع فلا نرى سوى صور الشهداء مُلصقةً في زجاج السيارات، ولا نسمع سوى أخبار الاغتيالات والانفجارات، وتصريحات القاعدة، وكذب السَّاسة. من يتذكَّر أيام طفولته، خضرة قريته، رائحة خبز التنُّور، رعي الغنم، أعياد الطفولة.. كان الناس مرحين ويضحكون باستمرار، وحين يلتقي الأصدقاء في مقيل يتبادلون النكات.. الآن حين يسألك أحد هل سمعت آخر نكتة، يتبادر إلى ذهنك آخر قتيل تم اغتياله.. الطائرات دون طيار أحدثت الكثير من المجازر الرهيبة في بعض المحافظات، على مرأى ومسمع من الدولة.. ورغم هذا لم تخرج مظاهرة واحدة تستنكر وتطالب بإيقاف القتل العبثي والتدخُّل الأمريكي.. أصبحنا نستقبل أخبار الموت ببلادة منقطة النظير، ولم تعد صور الدماء والضحايا تحرِّك فينا شيئاً.. هذه الطائرات الأمريكية القاتلة جعلتنا ننسى الكثير من الذكريات الجميلة.. من يتذكَّر الطائرات التي كانت تحوم فوق صنعاء وتنثر الشِّكْليت والبالونات والحلوى؟ أصبحنا نتخدَّر بخطابات ووعود نؤمن في قرارة أنفسنا بأنها كاذبة.. وأصبحنا نهتف لأيِّ مخادع يدغدغ عواطفنا بحبِّ الوطن، ونحن نوقن أن بداخله كومةً من العمالة.. نتعرَّض، دون وعيٍ، لمحو الذاكرة والذكريات، ويتم ترويضنا على القبول بالقُبح الذي كنا نستنكره فأصبحنا نضع له درجات متفاوتة لنُمسك بأخفِّ الضررين!! أرادوا محو الأغاني، والرقصات الشعبية، وزيارات القبور، وإقامة الموالد، والقبول بالآخر، والتعايش، ليحلوا محلها فتاوى القتل والتكفير وأناشيد الشهادة والجهاد.. هل بقي فينا شيء لم تستحوذ عليه البَلادَة؟