انشغل كتابنا ومثقفونا بالهجوم على أعضاء لجنة صياغة الدستور, اهتموا بالقرار الجمهوري رقم 27 المتعلق بتشكيل اللجنة، ولم يهتموا بالقرار الجمهوري رقم 26 المتعلق بتحديد آلية عملها, وتسابقوا على مجاملة بعضهم كل يُرشح اسم الآخر, غير مدركين أن الآلية سحبت البساط من الجميع بغض النظر عن الاسم والكفاءة. قد نختلف أو نتفق حول قدرات وإمكانات أعضاء اللجنة ومدى ملاءمة بعضهم لأداء تلك المهمة من عدمه, لكن ما لا يمكن لنا أن نوافق عليه هو "فرمان" الرئيس هادي بشأن تحديد آلية عمل اللجنة, ذلك القرار أشبه ب"المكرمة الملكية" منه إلى قرار يهدف إلى صياغة عقد اجتماعي يقتضي التوافق بين أهم مكونات المجتمع المتواجدة على الأرض لا المجتمعة في فنادق الخمسة نجوم.
يَظهر الرئيس هادي في القرار كمن يعوض عدم تمكنه من السيطرة على الواقع, وتحجيم مراكز القوى, ووقف تآكل الدولة لحساب المجموعات المسلحة, فيعوض كل ذلك عبر التفنن في السيطرة الهستيرية على العالم الافتراضي "النصوص".
عند اطلاعنا على القرار الجمهوري رقم 26 وتحديداً الفصل الأول من والمعني بالأهداف والمبادئ سنصاب بصدمة, حيث أن الرئيس ألزم اللجنة بقرارات لجنة الأقاليم التي فصلها وقرر عنها بناء على مزاجه ومزاج بعض مراكز النفوذ في الداخل، ومراكز نفوذ دولية وشركات نفطية كتوتال الفرنسية, فقد نصت المادة 2 على التالي: "يجب أن تُفضي عملية صياغة الدستور إلى إعداد دستور جديد للجمهورية اليمنية كدولة اتحادية مؤلفة من ستة أقاليم وفقا لتقرير لجنة تحديد الأقاليم".
جعل الرئيس من مخرجات لجنة الأقاليم دستوراً لا يجوز الخروج عنه مع أن اللجنة لا شرعية مطلقاً لها, فالتصويت عليها في جلسة مؤتمر الحوار باطل قانوناً, ولا أحد يعرف إلى اليوم كم عدد الذين وافقوا عليها, وأغلب القوى على الأرض لم تعترف بمخرجاتها وعلى رأسها أكثرية ساحقة من أبناء الجنوب والحوثيين والاشتراكيين والمستقلين وكل النخب المثقفة والأكاديمية تقريباً عدا نخبة البلاط.
أوجب الرئيس على اللجنة تنفيذ متطلبات شركة توتال التي استوعب فخامته مصالحها في مخرجات لجنة الأقاليم ضارباً عرض الحائط بمصالح أبناء الجنوب في المحافظة على إقليم جنوبي واحد, ومكرساً واقع الحروب التي تعصف بالشمال على الأرض عبر تفصيل الأقاليم على معايير مناطقية مذهبية, وعازلاً أماكن الثروة في الجنوب وفي الشمال عن بقية أبناء الشعب ليكرس حرباً مستقبلية بين الأغنياء والفقراء.
لم يكترث الرئيس بالقضايا التي بدأت تظهر على السطح في الجنوب كالقضية المهرية, وخطورة إلحاق شبوة بحضرموت ليحرم أبناء أبين ولحج والضالع وردفان وعدن من خيرات الجنوب, ولا يبقى لهم إلا شجرة العلب وثمرة "الدوم" كثروة وطنية.
لم يفكر الرئيس في الخزان البشري الهائل المنتمي لإقليم الجند، والذي قد يُفجر الإقليم في حال عودته إذا لا قدر الله ودخلت الأقاليم في صراعات، وحروب نتيجة لهذه الهرولة نحو تقسيم اليمن إلى دويلات تحت يافطة "أقاليم" تطبيقاً لخارطة الطريق لمشروع الشرق الأوسط الجديد.
اهتمامات الرئيس تعكس اهتمامات دول شركات النفط ووكلائها المحليين فقط, لذلك عزل محافظتي الجوف ومأرب في إقليم واحد, حتى تتمكن الشركات من حماية استثماراتها ويتمكن النافذون من أخذ نصيبهم دون وجع رأس, وترك قبائل الشمال تتناحر، فيما يكتفي هو بدور الوسيط, وحصر خزان الجند البشري الهائل كماً ونوعاً عندما جعل أقصى أمنية لسياسييه هي: الصراع على منصب رئيس إقليم الجند بعد أن وصل أحد أبنائه في فترة من الفترات إلى رئاسة جمهورية اليمن في الجنوب.
وبالنظر إلى الفقرة رقم 2 من المادة الثانية والتي تنص على أنه: "تؤخذ في الحسبان وجهات النظر المتعلقة بمسودة الدستور والتي قد ترفع إلى لجنة صياغة الدستور من قبل الهيئة الوطنية للرقابة على تنفيذ مخرجات مؤتمر الحوار..." فإننا أمام استخفاف واضح بأعضاء اللجنة ودورهم حيث أن الرئيس هددهم ضمناً في هذا النص بأن مسودة الدستور قد ترفع من الهيئة الوطنية إذا لم يلبوا رغبات جلالته –نسبة إلى "جلالة" التي يخاطب بها الملوك وليس إلى جلال ابن هادي-, ويجب أن نضع مئة خط تحت جملة "قد ترفع" لأنها تعني أنها قد لا ترفع أيضاً, وكله بحسب المزاج ومدى طاعة أعضاء اللجنة وخنوعهم للتوجيهات ومقارنة مهاراتهم في الخضوع بمهارات أعضاء الهيئة الوطنية المزمع إنشاؤها.
كما أن القرار احتوى على بند يُلزم اللجنة بإحالة القضايا التي لا تحصل على نسبة ال75% عند التصويت عليها إلى الهيئة الوطنية, وبما أن اللجنة مُفخخة بأكثر من 50 % يوالون الرئيس فإنه يمكنهم عرقلة أي قرار لا يلبي رغبات فخامته, والذي لا نخشى منه بقدر خشيتنا ممن يقفون وراءه, سواء "حمران العيون" في الداخل, أو "ذوي العيون الزرقاء" من الخارج.
كما أن القرار مدد عمل الأمانة العامة لمؤتمر الحوار إلى ما لا نهاية كمكافأة لهم على حسن السيرة والسلوك تجاه زعيم دار الرئاسة، ومن يقفون وراءه, بل وكلفهم بالترويج لمخرجات الحوار وتجريع المواطنين فوائدها –على المستوى النظري- وأباح لهم استخدام وسائل الإعلام الرسمية والمال العام دون تحديد أي سقف, والخلاصة فساد مالي تحت عنوان: "إرحبي يا جنازة فوق الأموات".
وفي الأخير أجاز رئيس الفصل –رئيس الجمهورية- لنفسه معاقبة التلاميذ –أعضاء اللجنة- بالفصل في أي وقت وبناء على عبارة مطاطية يعجز أي خبير قانوني عن فك طلاسمها والمنصوص عليها في المادة رقم 23: "يتوجب على أعضاء اللجنة التصرف بشكل لائق وباستقامة في كافة الأوقات والابتعاد عن كل ما يُعتقد بأنه قد يؤدي إلى التأثير على عملهم في اللجنة...".
وخول رئيس الفصل نفسه بطرد التلميذ المُشاغب عبر نص المادة رقم 24: " يقوم رئيس الجمهورية –رئيس الفصل- خلال أسبوع واحد... بإصدار قرار بفصل عضو اللجنة –التلميذ المُشاغب- المعني...".
يا الله يا شطار يا حلوين اجتمعوا وصيغوا لنا الدستور, واللي حيشاغب يرفع أيديه عند السبورة.
وممنوع الكلام أو الشكوى أو نقل المعاناة أو القضايا الخلافية أو الفضائحية أو الضغوط التي قد تمارس عليهم إلى الرأي العام بنص المادة رقم 25: " لا يجوز لأعضاء اللجنة الإدلاء بتصريحات عامة حول مضمون أعمال اللجنة ولا يجوز أيضاً تسريب أي وثائق أو معلومات حول أعمال اللجنة...", وكأنهم يصيغون دستور المافيا الإيطالية!!
هل شاهدتم مهزلة –لجنة- كهذه تُكلف بوضع عقد اجتماعي لبلد يحترم نفسه؟؟!!