عندما كنت طفلا ألعب في الوادي أشعر أنني صغير أمام الجبل الشاهق، لكن عندما أعتلي رأس الجبل أشعر أنني أكبر منه، وعندما أعتلي رأسه أشعر أن الساحات في بطن الوادي أوسع من قدرتي على اجتيازها، وعندما أهبط إليها أرى أنني أستطيع أن أجوب جنباتها برجلي الصغيرتين السريعتين من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، والنتيجة التي وصلت إليها بعد أن كبرت قليلا أن قدرات الإنسان لا حد لها، وأن رأسه الذي يتفجر بالدم لمجرد أن يدقه حجر صغير في الجبل يستطيع بدوره أن يجرح الجبل وأن يدكه بالتفكير السليم، وعندما دخلت الجامعة وقرأت في درس النحو الشاهد المشهور: كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل الذي يتماثل معنويا مع البيت المشهور: يا ناطح الجبل الأشم برأسه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل أيقنت أن الشاعر الجاهلي (الأعشى) مسكين، وأن رأس الإنسان يستطيع أن يوهن الجبل أضعافا مضاعفة. وكما كنت أقطع الطريق في الجبل أو في ساحات الوادي، كان عليّ بعد أن كبرت أن أقطع طريقا نحو الدراسة، وطريقا آخر بعد ذلك نحو الحياة، وفي كل الطرق التي عبرتها كنت أمازح وأتفكّه، فأتخلص من هموم التعب إلا طريقا واحدا هو طريق هذا البلد الذي بدا لي غريبا لعدة أسباب، أولا: أنك لا تشعر أنك تقطع فيه مسافة معينة، وثانيا: أنك لا ترتفع فيه، وثالثا: أنك لا تستطيع أن تمزح فيه ولا أن تتفكه لتجديد طاقتك. هو طريق واقف إذن.. كانت وحدة الوطن تبدو أمامنا واسعة كالمساحة، عالية كالجبل فنراها بوضوح، ثم تضاءلت حتى غدت شيئا صغيرا، ثم تضاءلت فلم نعد نعثر عليها حتى في أنفسنا، ثم تضاءلت حتى رأيناها من الكلمات الأضداد في المعجم كالجون التي تعني الأبيض والأسود، والوحدة تعني الاجتماع كما تعني الانفراد، ثم تضاءلت فصارت في نظرنا من الكلمات ذات المعنى السلبي، ثم تضاءلت حتى صارت تتنافر عمليا إلى أقاليم متعددة قابلة للزيادة. في تلكم الأثناء خرج إلينا من رجالنا شيخ كبير، تفاءلنا به، لكننا كلما خطونا نحوه بالملايين بدا أشبه بالواقف، هل عدنا إلى الوقوف مرة أخرى؟ نلوّح بأيدينا وأعلامنا، ونرفع مطالبنا بصوت عال، ونضرب بأرجلنا على الأرض، ونتحرك، ولكن الطريق في ما يبدو لا تتحرك! وخرج إلينا أخوته كل منهم يحمل في حضنه طفلة صغيرة، يزينها له الجيران، وإذا ما سألنا أحدهم عن طفلته نفث علينا من تعويذاته السياسية السوريالية، فنحن فنانون بالفطرة، وهذه ميزتنا أننا فنانون وشاعريون، وكم أضلنا الفن والشاعرية!. البناء يتكون.. ولكن اللوحات السوريالية أكثر من البناء، نتحرك حركات دائرية ليس في رقصاتنا الفنية حسب، وإنما في رقصاتنا السياسية والإعلامية أيضا، ليتنا حتى كطائرة الهيلو كبتر تتحرك مروحتها حركات دائرية، لكنها تتقدم إلى الأمام ولو ببطء، ولعل ثمة من استثمر هذا، وهم منا! كالطيور الجوارح تسعد بموت البشر حتى تأكل من جثثهم وتعيش عليها! مازلت أؤمن بحكمتي الأولى أن الإنسان يستطيع أن يدك الجبل..