يأبى ديسمبر حضرموت إلا أن يستعيد وهجه ويطاول أكتوبر الجنوب وسبتمبر الشمال رغم محاولات كلا الطرفين وأده وطمس أثره في التاريخ النضالي الوطني، ليس الحضرمي وحسب بل كذلك الجنوبي . ففي ديسمبر سنة 1950، شهدت حضرموت هبة شعبية كبرى انطلقت في مدينة المكلا طالب فيها الشعب الحضرمي بتعيين وزير حضرمي من بني جلدتهم، وخرجت الجموع كما عبر عنها المؤرخون " تعبر عن مدى وعي الناس وفهمهم لمطالبهم ومسئولياتهم، مسيرة مدنية تمثل البعد الحضاري تنظيمًا ودقة مع كثرة الجموع البشرية وامتدادهم على طول شارع المكلا الرئيسي مع أنها المسيرة الأولى التي حدثت هناك " . تلك الهبة التي لقيت عنفًا من قبل الدولة أسفر عنه عدد كبير من الشهداء الحضارم لم يكن بعدها النضالي والوطني مقتصرًا على حضرموت وحسب، بل له بعده الجنوبي أيضًا اعترفت به صحف جنوبية كان أبرزها صحيفة ( النهضة ) العدنية التي علقت على هذا الحدث في عددها (57) الصادر بتاريخ 4/1/1951 بقولها : " في لحظة واحدة من لحظات الزمن الخاطفة قفز اسم المكلا إلى المكانة الأولى بين أخبار الجنوب والعالم العربي، واستحالت المكلا الجامدة المكبلة بأغلال الجهل والاضطهاد جذوة من نار الوطنية وشعلة حمراء من شعل الحرية والكفاح والدم، وأصبح أهل المكلا قومًا غير القوم الأولين، أصبحوا المثل الأول للجنوب في الكفاح من أجل الحقوق الوطنية الصريحة، أصبحوا أساتذة الوطنية لشعب الجنوب العربي … علموا الجنوب العربي كيف ينتقل بالدم هذا من دور الكلام والنشر إلى دور التنفيذ والعمل فلا يجب أن ينسى الجنوب هذا الدرس الدموي الهائل وإلا فستظل حياته منسية أبد الدهر، هذا هو الدرس الذي يمكن أن نخرج به من قصة أول مظاهرة من نوعها في حضرموت بل والجنوب بإماراته وسلطناته ومحمياته ". لكن للأسف نسي الجنوب العربي تلك المبادرة الأولى لحضرموت، وذلك الدرس الوطني لهبة 27 ديسمبر وتجاهلوه، فصارت حياته ثم هويته منسية، واحتفوا بما يعرف بثورة 14 أكتوبر المصطنعة من الجانب ( اليمني / الشمالي ) وهي في الأساس لم تكن موجهة للمحتل الأجنبي بل لزعزعة أركان دولة الجنوب العربي الاتحادية التي تتم حينها أربع سنوات من عمرها، لتليها نكسة نوفمبر 67 ذلك اليوم الذي يستحق تفاعلاً مع ما ذكرته الصحيفة العدنية أن يسمى يوم النسيان الأكبر والغفلة الكبرى . والعجيب أن نرى ما يسمي نفسه اليوم بالحراك الجنوبي يحتفي بتلك المناسبتين السوداويتين ويستمر في تجاهل هبة ديسمبر ذات البعد الوطني الحقيقي، ومن ثم يعيد إنتاج جنوب قديم آسن رغم أنف من يظن أنه يدعو من مثقفينا إلى جنوب جديد لا نعرف له عنوانًا ولا هوية، وأخشى أن يتكرر اليوم ما جرى بالأمس .