بهذه الحلقة نأتي على ختام حلقات الحوار مع الروائي والقاص صالح سعيد باعامر الذي زودنا بمعلومات قيمة تناولت قضايا أدبية وثقافية وتجربة حياة ، وأستاذنا العزيز يعد من الشخصيات التي عُرفت بالتواضع ودماثة الخلق وتقبل الآخر ، وللرجل دور بارز في نشر الكثير من الأعمال الأدبية لمجموعة غير قليلة من المبدعين في الساحة الحضرمية بحكم موقعه ومازال يؤمل منه نشر أعمال قابعة في ادراج بعض المبدعين الذين يراودهم حلم برؤية أعمالهم منشورة في كتب قبل أن يغيبهم الموت عن دنيانا : والآن أنتقل للسؤال عن : * الحكاية بين القصة القصيرة والمحزاة ؟ (ج ) لا يمكن أن نعتبر الحكاية أو ما نسميها في حضرموت (المحزاة) قصة قصيرة بالمفهوم الحديث لكن بإمكاننا اعتبارها من الممهدات والإرهاصات التي هيأت لظهور القصة القصيرة والرواية. وقد ظهرت القصة القصيرة بعد ظهور الرواية في الغرب وبما أن الرواية هي الأقدم فلقد كانت ترصد الأحداث التاريخية بدقة وبالتفاصيل وترسم الشخصية رسماً كاملاً ، شكلها ، لونها ، ملابسها ، قصيرة ، طويلة ، جميلة أم قبيحة .. وتغطي مراحل بحالها وقد صنف هذا النوع بالرواية التسجيلية .. من هذه الروايات :ذهب مع الريح ، البؤساء ، قصة مدينتين ، الإخوة كرامازوف . وقد سار على نهجها نجيب محفوظ في ثلاثيته بين القصرين والسكرية وقصر الشوك . وكذلك عبد الرحمن منيف في خماسيته (مدن الملح ) وحنا مينه في ثلاثيته : حكاية بحار والداقل والمرافئ البعيدة ، وتبعهم أدباء وكتاب كثر . والرواية ظهرت بادي ذي بدء في المدينة لذا سميت بنت المدينة . لكن حجمها أخذ يصغر بعد التحول الاقتصادي وظهور الطبقة البرجوازية ونهوض الرأسمالية وبروز الصناعة التي أخذت جهد كل الشعب ، لذا لم يعد متسعاً لقراءة الكتابات الطويلة بما فيها الرواية وانشغال الجميع بالعمل في المصانع واستغلال الرأسمالية جهد العمال _ الطبقة الأكثر اتساعاً _ . هذا الواقع الجديد أتاح المجال لظهور القصة القصيرة لاسيما بعد أن ظهرت الصحافة التي لم تقبل الكتابات الطويلة فظهر ما يسمى بأدب السندويتش . من هنا تضاءل دور الرواية واتسع دور القصة القصيرة وظهرت الإذاعة والتلفاز التي اعتنت ببث القصة القصيرة والمسلسلات الإذاعية والتلفزيونية . بينما الرواية غدت من اهتمام السينما وانكمشت الحكاية الشعبية المروية وظهرت وبشكل محدود للغاية مكتوبة في بعض الصحف المصرية مثل مجلة "صباح الخير " . إذن سحبت القصة القصيرة البساط من تحت الرواية في أواخر الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين . لكن الرواية استعادت دورها بالاستفادة من الإنجازات التي حققتها القصة القصيرة وخصوصاً الابتعاد عن الترهل والاعتناء باختصار العبارات والابتعاد عن وصف الشخصية بتفاصيلها . وظهرت الروايات التي اهتمت بتقنية تيار الوعي واللامكان واللازمان بل وتوظيف الأشياء من غير البشر كأبطال بدل من الشخصيات الإنسانية . وصارت اليوم اللغة من أهم سمات الرواية واللوذ إلى التشكيل اللغوي والتوازن بين المضمون وبين الشكل الفني بحيث تغدو الثيمة متشكلة فنياً وتقنياً .. بحيث لا يكون ملمحٌ أو مشهد على حساب آخر . اللغة هي سيدة الموقف في الرواية وأيضاً في القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً اليوم .. وكذلك الفضاءات والأحداث المتخيلة التي تحسبها حدثت فعلاً وهي لم تحدث بل تخييلاً . إذن ظهرت الرواية الحديثة من أحشاء الرواية القديمة وظهرت القصة القصيرة من أحشاء الرواية وظهرت القصة القصيرة جداً من أحشاء القصة القصيرة مثلما خرجت قصيدة التفعيلة من أحشاء القصيدة العمودية وقصيدة النثر من قصيدة التفعيلة وهكذا .. القصة القصيرة تتكون من خمسمائة كلمة ولا يزيد حجمها عن الألف كلمة ، بينما القصة القصيرة جداً من خمسين كلمة إلى عشرين أو أقل .. إن الكاتب لهذا النوع من السرد رواية كانت أم قصة قصيرة أو قصة قصيرة جداً لابد أن يعتني بالفن ومن سمات القصة القصيرة جداً الدهشة والاختزال جداً وهي بدون مقدمة وتعتمد اللقظة السريعة وتنتهي بالمفارقة . هي فن مبهرٌ إذا أجاد الكاتب كتابتها وهنا نقدم نموذجاً يمكن أن يعبر عمّا نقصده : (( عاد إلى الوطن بعد حرب الخليج الثانية ، لم يجد عملاً ففتح له دكاناً بالمبلغ الذي اذخره في غربته فنافسته غيلان التجارة في السوق فتحول إلى متظاهر ثم إلى قائد سياسي ثم .. )) . "ثمان وعشرون كلمة" النموذج الثاني : (( كان يسير بتؤدة فلفت انتباهه فتية خمسة يقتعدون أمام ناصية الشارع الشبه مضاء .. اقترب منهم كانوا متحلقون حول حقيبة يد مهترئة .. تقدم نحوهم .. فأخفوا الحقيبة .. ابتعد قليلاً فأظهروها ، أخرج أحدهم لفافات بدت كالصاروخ ، قدم لكل واحد لفافة وأوقدوها وامتصوا دخانها ، وبخهم فازدروه ، نبههم إلى خطورة ما يفعلوه فهددوه ، أدبر وهو يتنفس رائحة نتنة )) "واحد وخمسين كلمة" *في هذه اللحظة تبدو لي وكأنك اتجهت إلى الرواية و نفضت يدك من القصة .. ولا ينازعك جنس آخر سوى السرد الروائي ؟ (ج ) القصة القصيرة هي الفن الأدبي السردي المحبب لدي ، فهو الفن الذي ابتدأت به مشروعي الثقافي والأدبي . إنني أعدها المعشوقة المدللة وأميرتي الصغيرة التي تأخذني لتنال مني ما تريد وفي أية لحظة .. تقتحم هدوئي ، تشاركني خلوتي ، تختار جلستي ، نوع قهوتي ، تعيشني وأعيشها في أي مكان وأي زمان ، تبعدني عن أصدقائي لأتفرغ لها ، توقفني في الشارع ، في السيارة ، في المنزل.. تنظر إليّ ، أبادلها النظر ، تراود قلمي ، استجيب .. يتصاعد التعاطي ، التشاكل ، التعالق ، يتشكل الجنين . تغيب ، تظهر ، تغيب ، تفعل ما تشاء .. أليست هي من أدلعها ؟!! تأتيني في صباحات بهية ترتدي حلة بنفسجية ، تهفهف ، تتقافز الحروف وتتطاير لتتجمع في كلمات وجمل وعبارات وفقرات أبسطها على الورق ويأتي المخاض ويبدأ الطلق ، فتظهر كائناً حياً على الورق .. الملامح ، الألوان هي التي أريدها . هكذا جاءت حلم الأم يمني ودهوم المشقاصي ، العيك العيك ، دندنة ، رقص على ضوء القمر ، أعود إليّ ، نطق القصر ، بعيداً عن البروتوكول ، احتمالات المغايرة . وغيرها العشرات من القصص القصيرة والقصيرة جداً .. فكيف بربك تقول لي أني نفضت يدي من هكذا معشوقة وأميرة دلوعة .. والتي لما تزل تكتبني وأكتبها فوق الورق وفي الفيس بوك أرسلها إلى من أحب ولمن يحب ؟! . *إذا كان لديك كل هذا الحب للقصة القصيرة فما الذي تبقَّى للرواية ؟ (ج) الرواية شيئاً مختلفاً وإذا كانت القصة القصيرة هي المعشوقة والأميرة الصغيرة فلم لا تتدلع عليّ ، إنها التجدد لأنها الشابة .. أما الرواية فهي الحبيبة الناضجة التي تهيئ لي سبب التأمل إلى العالم بعقلانية .. هي النهر الذي أمتطيه لأصل إلى ضفافٍ وضفاف وهي البحر الذي أصارعه لأصل ما أريد من الموانئ والمرافئ . الفارق بين العشيقة والحبيبة كالفارق بين المرأة الناضجة والصبية المدللة . المهم في الفن أن يضبط الكاتب المعادلة . *هل بإمكاننا أن نعرف الرواية التي تشتغل عليها هذه الأيام ويا ترى هل ستدور حول البحر؟ (ج) البحر هذه الأيام غاضب ، أمواجه تتلاطم بسبب الرياح التي تأتي في شهر يوليو .. ألا تعرف أن أبناء الساحل يسمون حال البحر هذه الأيام ب " التقافيل " أي البحر قد أقفل أبوابه أمام السفن وسيظل مقفلاً زهاء الشهرين ثم يبدأ "الفتوح" أي أن البحر قد فتح أبوابه للسفن .. كيف لنا أن نبحر في هكذا أجواء ونحن لا نقود سوى سفن شراعية . لذا الرواية القادمة ستدور بإذن الله في فضاءات اليابسة . لكنها لن تبتعد كثيراً عن شواطئ البحر .. إلى جانب أن ظروفي الكتابية تحديداً الروائية لا تتم بعد إنجاز رواية ما مباشرة بل بعد قراءات وتأملات .. كما هو الحال بعد إنجاز رواية الصمصام اهتممت بكتابة دهوم المشقاصي وبعيداً عن البروتوكول وحين نطق القصر ولم أصدر رواية المكلا إلا بعد بضع سنوات ، كذلك بعد رواية المكلا أصدرت قصص احتمالات المغايرة وفي 2013م رواية إنه البحر .. ولكن الرواية القادمة إن شاء الله لن أتأخر عنها كثيراً . *لو بقيت مغترباً ألن تستفيد ثقافياً أكثر من وجودك في المكلا ؟ (ج) الأجواء الثقافية أهميتها تأتي بعد توفر لقمة العيش ، فالثقافة جزء من البيئة ، والبيئة من أهم أعمدتها الأجواء الاجتماعية الاقتصادية والتجارية وحركة السوق والعمل .. هذه الأجواء هي التي توفر لك لقمة العيش ، أما الأجواء الثقافية فتأتي ثانية ، فإنك بادئ ذي بدء توفر حاجتك المادية بمفهوم الفكر الماركسي الذي هو فكر علمي تعتد به الجامعات والمراكز البحثية والدراسية والمجتمعات المتقدمة كمفهوم ديالكتيكي في تحليل الواقع ويخرج بنتائج للتطبيق باعتباره أحد العلوم الإنسانية .. إذن لقمة العيش أولاً . وهذا لم يعد متوفر لي في الكويت بعد إغلاق مجلة الطليعة .. وطالما لقمة العيش قد توقفت فلا يمكن البقاء والبحث عن عمل مثله مشابهاً للذي كنت فيه .. فالمجلات والصحف الأخرى لن تقبلني بالمرتب الذي أتقاضاه لأنني لازلت متدرباً ، ومجلة الطليعة سياسية نضالية ملتزمة بتوجهات التيار القومي ومن خلفها يحتاجون من يغطي ساحة الجنوب المشتعل بالثورة والكفاح المسلح ، لذا قررت العودة إلى حضرموت التي هي أحوج إلى شبابها وهي تكافح من أجل التحرير والاستقلال . عدت وعملت في المكلا متفرغاً سياسياً لصالح تنظيم الجبهة القومية لتحرير الجنوب ومهمتي كانت سياسية جماهيرية ثقافية ، توليت مسئولية إدارة نشاط الحلقات والخلايا المدنية وفي الوقت نفسه عضواً في الهيئة الإدارية للحزب العربي الإشتراكي أحد واجهات التنظيم المدني للجبهة القومية . في هذه الأثناء استخرجت ترخيصاً تجلى في مرسوم سلطاني بإعطائي ترخيصاً يقضي بإصدار صحيفة أسميتها ( النضال ) لكني لم أصدرها لتسارع الأحداث السياسية وتصاعد العمل الثوري المسلح في مناطق الجنوب الذي أدى إلى الاستيلاء على سلطنات الجنوب ومشيخاتها وإماراتها وعدن . فتم الاستيلاء على سلطنتي الدولة القعيطية والكثيرية صبيحة السابع عشر من سبتمبر 1967م . بقائي في الكويت كان لا مبرر له وملاذي لن يكون غير المكلا ومأواي حضرموت الحبيبة ، بعد اغتراب زهاء خمس سنوات أحسستها خمسة أشهر وكما قال الشاعر : بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ . *ألم تشعر بعد هذا المشوار الطويل بالتعب ؟ (ج)التعب لا يأتي لمن يدمن القراءة والكتابة وخدمة الوطن . القراءة غذاء للكاتب . والكتابة تنفيساً عما يختزنه ليخدم الأجيال والوطن ثقافياً . * إذن الصحة جيدة ولازالت لديك الهمة ؟ (ج ) (( عاد عزمي كبير إن سرت طلت السماء وإن غصت طلعت ماء ماشي عليَّ عسير )) . ………………………………………… قبل أن نطوي الصفحات ، نتريث قليلا لنقول كلمة حق في الروائي والقاص صالح سعيد باعامر حيث لحظت وأن أجري حواري معه بأنه كان غاية في الدقة بانتقاء مفرداته وسلاسة لفظه ، وكم كنت أود الاستزادة من الأسئلة طمعاً في المزيد من الاجابات ، ولكنه فضل الوقوف عند الحلقة السابعة حتى لا يحس القراء بالملل ( حد وصفه ) وأن يترك لغيره الفرصة ، كنت بمعيته في حلقاته السبع أسبر أغوار نفسه وأتحاور مع عقله محاولاً ابراز ما غاب عنا في مجاله الأدبي ، وكانت آخر مقابلتي معه في شقته المستأجرة قبالة ( المكلا مول ) للمعايدة وبرفقتي أخي الأستاذ صالح علي العطاس ، حيث التقطت لهما صورة تذكارية .. تعبر عن روح الأخوة الحضرمية الأصيلة . سنلتقي في الأسبوع القادم بالشخصية الأكاديمية المرموقة الدكتور عبدالله حسين محمد البار أستاذ النقد الأدبي بجامعة حضرموت ، كي نبحر معه في رحلة جديدة.. انتظرونا قرائي الكرام .