نحن اليوم مع قامة سامقة وروائي وقاص ..أنه الأستاذ العزيز/ صالح باعامر الذي أثارت أعماله الأدبية تفاعل ورؤى مختلفة .. سأحاول في هذه المقابلة أن أتجاوز المألوف واقتحم عالمه .. وأبدأ بالسؤال التالي : *آخر رواية كتبتها هي " إنه البحر " التي لاقت الثناء الكبير من قبل النقاد وكبار الأدباء والكتاب بشذرات مما كتبوه ونشروه أو قالوه بمناسبة الاحتفاء بصدورها . كيف يتحدث الكاتب باعامر عن رحلته القصصية والروائية البحرية ؟ (ج) أنا لم أجرب امتطاء البحر من أجل العمل ، لكني طالما شققت البحر بجسدي الصغير مع أقراني ، فلقائي به يتم عن قرب أي من فوق الشاطئ نتعاطى الكر والفر مع أمواجه المتدافعة والمتراجعة .. لكني توحدت به وجدانياً وروحياً وأحببته وهجست به هجساً ابتدأ معي منذ الطفولة ولم لا وأنا أصابحه وأماسيه كأي واحد من أبناء قصيعر البلدة المتوحدة به والمنغمسة فيه ، متخذاً من رماله وشواطئه الناصعة بحراً أمخر فوقه بسفينتي الورقية أو التي أصنعها من صفيح التنك وأبحر بها إلى موانئ ومرافئ ومدن وهمية معوضاً نفسي عن افتقادي له بالدخول في أعماقه وعدم العمل فوقه إرضاءً لوالدي البدوي القادم من وادي العين في الخمسينيات من القرن العشرين . كانت قصيعر تحتضن العشرات من السفن الشراعية مثلها مثل مدن وقرى حضرموت وتحديداً المكلا والشحر والحامي والديس الشرقية وروكب وبروم .. حينذاك كانت قصيعر قرية تتهيأ لتنحو منحى البلدة والتحديث : المدرسة ، النادي ، التعاونية . مع دخول نجم "الدلو" تُدفع السفن من اليابسة إلى مياه البحر لتجهيزها وإعدادها للإبحار إلى عدن أو المكلا أو أرخبيل سقطرى أو جزيرة زنجبار بشرق أفريقيا أو الهند . كان البحر هو المفعل للحياة في ساحل حضرموت الذي من فوقه يرتحل الرجال إلى عوالم أكثر تطوراً .. البحر هو الفضاء الذي من خلاله احتك المهاجر الحضرمي بثقافات أكثر ثراءً .. وإذا كانت الأنهار في بلدان أخرى أوجدت مكاناً تُبنى فوقها حضارات فإن بحر العرب خلق انتعاشاً تجارياً وثقافياً من خلال ما يأتي به القادمون من ثروات لاستثمارها ومن أموال لإنفاقها لتحريك الساكن في التجارة والتعمير ثم ظهرت التعاونيات السمكية التي تساعد الصيادين لتحسين أدوات إنتاجهم وظهر النادي الرياضي الاجتماعي الثقافي وفرق الفنون الشعبية والتمثيل والمسرح والفنون التشكيلية واستخدمت السيارة بدلاً من ركوب الجمل أو الحمار .. كل ذلك حدث بتأثير الذاهبين والقادمين إلى مدن أكثر تقدماً وتطوراً مثل عدن وشرق إفريقيا والهند . وكانت حادثة القصر والمظاهرات التي طالبت بوجود سكرتير وطني محفزاً لتعاطي السياسة فأقيمت المجالس البلدية والقروية .. وبدأ النهوض وكان البحر المحرك للقادم والمنشط لحركية الحياة . لقد منحتني قصيعر حب البحر ، وبحر العرب كان ولا يزال هو همزة الوصل بين آسيا وأفريقيا وأوروبا . حبي للبحر ارتقى إلى حد الحب الصوفي .. إلى جانب انتصاري للمرأة التي احتلت حيزاً مهماً في فضاء هذا الحب باعتبار المرأة المعادل الموضوعي لقيام حياة وعلاقة متوازنة مع الرجل . هذا الحب الذي أسس جماليات انطلقت منها كتاباتي وإبداعاتي عموماً من خلال تعميق النظرة إلى الحياة والكون والإنسان ، واختراق جمال المكان والإنسان وقبحه . *ثمة قصص وروايات كتبتها أو قرأتها ربما كانت قريبة منك وجدانياً .. عبرت عما تبتغي ، ماهي القصة أو الراوية التي حظيت باهتمامك ؟ ج : كل ما قرأته أو كتبته ، حظي باهتمامي : المقالة الأدبية ، الخاطرة ، القصة القصيرة والقصيرة جداً . كل ذلك اهتممت به وعمقت به تجربتي ونظرتي ، اللحظة لا أستطيع تحديد بصورة جازمة القصة أو الراوية التي قرأتها أو كتبتها لأقيس مدى التماهي بمقياس المسطرة لكن هناك أمراً مهماً وهو مدى تطور قراءاتي ، تجدني أقرأ رواية أو مجموعة قصصية لأي كاتب محلي أو عربي أو أجنبي أو أعتني بقصة أو رواية لأكتبها . الشيء المهم عندي هو تطوير ملكتي الفنية ، أكتب تقنيات سردية متجددة لينعكس ذلك فيما أكتب ، فأجدني أخلق لغتي ومفرداتي الخاصة بي فيما أكتب وتجد ثمة جديد يختلف فنياً وتقنياً مشكلاً حالة متقدمة بالنسبة لمسيرتي القرائية والكتابية . مثلاً كتبت ( حلم الأم يمني ) في 1983م التي اعتنت بثيمة الانتصار للموضوع لأني آنذاك لم أنفك بعد من النزعة اليسارية والانحياز إلى البطل الإيجابي بتأثير ما سمي بالواقعية الاشتراكية . وهذا شيء طبيعي ، فهكذا تأتي المحاولات الأولى .. ثم جاءت مجموعة ( دهوم المشقاص ) عام 1993م لتشكل تجربة أكثر تطوراً وتقنياً ثم ( احتمالات المغايرة ) 2002م والتي أُعدُّها نقلة متقدمة لكل ما صدر لي من قصص . كذلك الحال ل ( حين نطق القصر ) أو ( بعيداً عن البروتوكول ) 2005م أما النقلة النوعية هي صدور رواية الصمصام 1993م ورواية المكلا 2004م وأخيراً رواية ( إنه البحر ) 2013م فكل رواية من الثلاث تغاير الأخرى لغة وفناً وتقنية وخيالاً ، وكل آليات السرد من أسطرة وميثولوجيا و فنتازيا . مع وجود الثيمات التي تتوازن فنياً ، محاولاً تقديم فناً وليس موضوعاً حسب . *يقولون أن البيئة تؤثر في الكاتب الذي يقوم بترجمة الواقع من خلال مخاطبته الشرائح الاجتماعية باللغة التي تفهمها في محاولة محاكاة نفسيتها بأسلوب يجعلها قريبة من قصصه ورواياته .. ما مدى تأثير البيئة فيما تكتب ؟ (ج ) البيئة تلعب دوراً مؤثراً فيما يكتبه الكاتب لكن على الكاتب أن لا ينقل ما يحدث كما هو وإلا لما قدم فناً .. الكاتب يتأثر فنياً فيقدم جماليات من خلال اللغة ، والمكان له تأثير باعتباره فضاءً متخيلاً يشكل الكاتب لوحاته الفنية ومشاهده وشخوصه في أعماله فالبيئة هي المادة الأولية التي بإمكان الكاتب أن يشكل منها ما شاء فنياً وإبداعياً . البيئة هي المكان والناس والتقاليد والعادات والثقافة والفن والاقتصاد والسياسة والاجتماع … الخ . *هناك أزمة بين الكاتب والقارئ تتمثل في عزوف القارئ عن القراءة بعد تراجع الكتاب الورقي واستعيض عنه بالكتاب الرقمي .. قد يتساءل سائل : لم الكاتب يجهد نفسه مادام مزاج القارئ ميالاً للكتاب الإلكتروني ؟ ما هي وجهة نظركم ؟ (ج) : أعتقد أن الكتاب الورقي هو الأصل وهو المؤصل والمؤسس للثقافة الحقة والأدب الجاد .. وهو الذي أنشأ أولئك الأدباء والكتاب الذين تغذوا ثقافة وعلماً وحياة أكثر رقياً وتألقاً وروحاً إنسانية من خلال الكتاب الورقي ، وإذا كان الكتاب الإلكتروني صار يميل إليه الشباب فلن يكون له السيادة على الأقل خلال هذا القرن لكن بإمكان القارئ أن يستفيد من الاثنين . بالنسبة لي أجد متعة عند تناول القلم والإمساك به ليضاجع الورقة لتتولد الكلمات وانتقاء مفردات بعينها ليتخلق المولود كاملاً ومكتملاً . حتى اللحظة لا أدري أن أحد صار كاتباً أو شاعراً أو ناقداً كبيراً من خلال قراءته أو كتابته بواسطة الكمبيوتر . فثقافة تأتي عن طريق الإنترنت لوحدها هي ثقافة غير عميقة . والإبداع الذي يولد من خلال الكمبيوتر هو كالولد الذي يأتي من خلال التلقيح الصناعي ، فربما يأتي جيل من هذا النوع . مع الكتاب الورقي تجلس الساعات الطوال دون أن يتعب جسدك أو نظرك فتعاطيك معه يغدو حاراً وعميقاً .. أما الكتاب الرقمي لا تستطيع الجلوس أمام جهاز الكمبيوتر أكثر من ساعات قلائل لا يتم خلالها متعة التخيل والتماهي مع جماليات وعوالم ورؤى وأخيلة ، يقيناً سيحد منها جهاز الكمبيوتر . لذة الكتابة والقراءة هي التي تأتيك وأنت تتصفح الورقة بعد الورقة والإمساك بأصابعك الثلاثة القلم ليتم توحد العناصر المشكّلة لميلاد ولادة وتشكل الإبداع . *هل صحيح أن المبدع يعاني من التجاهل ؟ وأنه لا يجد من يهتم به بعد أن يفني حياته من أجل المجتمع .. كيف ترى ذلك ؟ (ج ): ثمة صراع بين الذي ينظر إلى المبدع بأنه حالم ويدعو إلى أشياء من الخيال وأنه لا يقدم شيئاً ذا فائدة .. بل إن البعض يعد مبدعي الرواية والشعر والقصة بأنهم يقدمون أشياء مضرة بالمجتمع لاسيما تلك التي تدعو حسب قولهم إلى الانفلات الأخلاقي مثل المطالبة بالحرية .. حرية الرأي ، حرية المرأة ، حرية الإبداع وحرية البوح الذي يغاير المألوف . هذا إلى جانب الصراع المزمن بين الحاكم والمسئول من جهة وبين المبدع الذي يتجاوز (حدوده) الذي يطالب بالمغايرة . لذا يتم تجاهل المبدع الحقيقي الذي يسعى إلى تحقيق البديل الأفضل ويكون الاهتمام حينئذٍ بالموالي للحكم لذا أطلق على المبدع الحقيقي بالمتمرد أو الصعلوك .. إلى جانب ذلك ثمة من يخلق هوة بين العلم والأدب على اعتبار أن العلم هو الذي يوجد المنجز المادي الحضاري المتمثل بالاكتشافات العلمية التي تخلق المادة التي ينتفع بها الإنسان مادياً أما الأدب فهو في نظرهم مجرد خيال .. دون أن يدرك هؤلاء أن الأدب هو المبشر بالمخترعات والاكتشافات ، وما الخيال العلمي إلا أحد مظاهر فائدة الأدب ، وقد تكون فائدته التعبيرية تأتي متأخرة لأن الأدب والثقافة لا يؤثر على الأجيال مباشرة إنما يأتي التغيير متأخراً وهذا ما نشاهده في بلادنا وتأثير الشباب في الحياة العامة الآن ماهو إلا نتاج طبيعي لدور الثقافة والأدب الذي كان يُقدم في الستينيات والسبعينيات من ق 20 فجيل التسعينيات والعقد الأول من الألفية الثالثة يختلف عن الأجيال التي سبقت وهذا بتأثير الثقافة التي تلقاها قبلئذٍ . نواصل الرحلة مع الروائي والقاص الأستاذ صالح باعامر في الحلقة الثالثة كي نتطرق للمزيد من انجازاته في مجال القصة والرواية .. انتظرونا .