في ليلة شديدة القُّرّ, كانت يداي ترتعشان بشدة وأنا أمسك بالقلم, ونبضات قلبي في تسارع شديد, وبدأت سَحْنة وجهي تتغير, ويسيطر على فكري شبح اسمه الخوف, وحينما تشعر بالخوف الشديد تتيه كل الأفكار والمعاني, كأنك بين يَدَيْ سَبُعٍ ضارٍ لا يرحم, لا تستطيع أن تسوق عبارة واحدة في سياق سليم, تاهت المفردات وتاهت معها مخيلتي في التصوير والتشويق والإبداع, بات خاطري –تلك الليلة- وكأنه لأول مرة يفكر بكتابة مقال, وبات القلم يَتَرنَّح بين أصابعي كالمخمور, فلم أَعُد قادرا على التعبير عن ما في نفسي. كان الوقت حينها الثانية صباحا وضوء الغرفة الصادر من شمعتي الصغيرة خَافِتٌ جدا, لا يكفي سوى رؤية الحروف التي تخطها بَناني, المفروض –حسب نظام الوالي- أن أكون في هذا الساعة في مرقدي, وإلا فإنني سأرحل لجهات الاستجواب والمساءلة والعقوبة. بحذر شديد أحاول أن لا يظهر شيء من شخصي للمناوب الطوّاف بجانب بيتي فيلمح حركتي, فيعرف أني لم أنم بعد, وكفى بها من تهمة, لأن أمير المؤمنين من حرصه علينا وحبه المفرط لنا يسيّر كل ليلة عيونا في السحر ترعى مصالحنا, وتسهر على أمننا. نحن ألان في عهد ما بعد الثورات, بعد أن أصبحنا أحرارا من شيوخ قبائل صنعاء وحجة وتعز و..و.., لم يعُد علَمُهم عَلَمُنا, ونشيدُهم نشيدنا, لم نَعُد نرَ ذلك الحشد العريض الذي يظهر كل صباح بعد الفجر مباشرة متسلحا بالمجارف والمطارق ونحوها أمام فندق المسيلة, خَلَتْ الممرات من البساط الزرق, وتطهرتْ إذاعة المكلا التي لازالتْ تسكن في مبناها الشايب الأثري العريق, من ذكر حاكم صنعاء وربعه, نظفنا شوارعنا وممراتنا وأعمدة الإنارة من صوره, استبدلناها بصور السيد الحبيب البيض, رفعنا صوره في كل عمود إنارة – ولا أدري ما علاقة الأعمدة باسم علي- وفي مداخل مكاتب الوزارات والمدارس والجامعات وحتى شركات المزايدة الخاصة, هو ألان أميرنا, وحق علينا أن نعظِّم أميرنا فقد عاد من غربته, بعد شَوقٍ وَوَلَهٍ لنا, كنا بدونه كأيتام تعصف بهم الحاجة والعوز, ذقنا الأمرين من شيوخ قبائل صنعاء, واليوم ها نحن ننعم بكنفه وبحراس السحر في حاراتنا. أعود لحالتي, لازلت قارّا بجانب شمعتي الصغيرة, أكتب مقالا عن التطوير والتنمية والتقدم الذي يتقادم بسرعة أكبر من حركة عقارب الثواني, لازال الخوف يتملكني, والحذر الشديد يسيطر عليّ, حتى أتممتُ مقالي مع بزوغ الفجر كأنما هي ولادة متعسّرة, ترقبتُ شروقَ شمسِ ذلك اليوم بأحَرِّ من الجمر, هرعتُ مسرعا صوب مقرات صحف النشر, تتملكني نشوةٌ غامرة, ويعلوني زَهْوٌ طاغٍ بمقالي التليد, لأن النت-المخلوق العجيب-, يشكو من عللٍ مزمنةٍ من مصدره, فهو بحاجةٍ لساعاتٍ حتى يصعد من الدور السفلي إلى عندي في الدور العلوي, وسيحتاج مقالي لرحلة سفر طويلة يمُرُّ خلالها على عدة مرافق مسؤولة حتى يَقرَّ في موقعه الإلكتروني, فقلت لنفسي لِمَ لا أختصر الطريق؟, وأرسله بنفسي لإحدى صحفنا اليومية التي لازالت بمسمياتها الثورية القديمة, ولَمْ يتم استحداث صحفٍ جديدة بعد, ولا أدري عن السبب !!. وصلْتُ أخيرا, مرَّ رئيسُ تحرير إحدى صحفنا الوطنية على مقالي في لحظةٍ أسرعُ من طرف العين, وقال لي والنظارة تدلَّتْ حتى استقرت على حافة أرنبة أنفه كأنها تتشبث بها من السقوط, ورماني بعينين جَاحِظتين كأنما هما حبّتان رُمّان, قال بنبرة جهورية: لَمْ تذكر الأخ الرئيس المناضل في مقالك إلا ثلاث مرات فقط, وهذا مخالف تماما لسياستنا وشروط النشر في صحيفتنا, ثم رمى به إليّ على مد يده وانشغل بأوراقه. ذهبتُ للغرفة المجاورة وعلى بابها لوحة صغيرة حَوَتْ اسم صحيفة أخرى, وإذا بالرد نفسه, ثم الغرفة الثالثة ثم الرابعة, حتى كلَّتْ قدماي وتعبتا, وجلست في مَمَرٍّ صغيرٍ على كرسي نصفه قد ذهب مع الزمن وبقي النصف الآخر يحمل جسدي المنهك, فتحتُ مقالي أقلِّبُ طَرفيَّ فيه, وأحصي الصلوات والتبريكات والتسليمات التي ضمَّنتُها مقالي على الوالي, وإذا بها فعلا لم تبلغ النصاب الشرعي للنشر, يالله ما أبخلني؟!!. عدتُ لبيتي بعد أن خاب مسعاي, وألقيت بمقالي المنبوذ في درج مكتبي الصغير, ورميتُ بجسدي على سريري. وبينما أنا شارد الذهن, أسبح في فكرة مقال آخر, وكم عدد الصلوات التي سأحشرها فيه؟, وأين سيكون مكانها؟, وهل يشترط أن تكون في كل سطر أم فقرة؟, وهل أجمع بين الصلاة والسلام عليه أم أكتفي بإحداهما؟ وإذا ببابي يُقرع قرعا وبطريقة غير معتادة, قطع عني سياق تفكيري, زَأَرَ فيَّ القارعُ : نريدك أن تأتي معنا فورا لمكتب المراقبة الإعلامية للمنشورات. يا الله !!. خرجتُ بعد أن وضعت ثوبي على جسدي الذي تملكته الرعْشة, حتى أنه لم يستطع تحمّل الرداء, وارتفعتْ دقات قلبي, ووصل مدى صوتها لأذني, وأنا أُتَمْتِم: اللهمَّ سلِّمْ اللهمَّ سلِّمْ, حوالينا ولا علينا, من عليٍّ والينا, وصلنا للجهة المذكورة, وإذا برجل كأني رأيته في ثمانيات القرن الماضي, يرتدي بِزة عسكرية عليها نجوم ورسوم, بعضها على كتفيه, وأخرى متدلية من جهة صدره, لم أعرف إلى ما ترمز, ولم ألحظ اللوح الصغير المتدلي فوق بابه, يقطن زاويةً في نفس العمارة التي كنت أسعى بمقالي بين غرفها, فاجأني مباشرة, أين مقالك؟ قلت له: أي مقال. قال: الذي كتبته البارحة. قلت: تركته في البيت, فأخرج لي ورقة من دولابه وقال لي أهذا هو؟ قلت : نعم ! ولكن كيف وصل إليك؟ قال هذا ليس من شأنك؟ ثم أردف قائلا: لقد ارتكبت خطأ إعلاميا قاتلا, تعاقب عليه لتطاولك على ذات أمير المؤمنين, زادت رعشة جسمي أضعاف ما كانت عليه, وخفق قلبي الضعيف بخفقان أكثر من ذي قبل, خشيت عليه مما يسمونه نوبة صدرية أو قلبية, وبدأ لساني كأنه ينطق بغير إرادتي, وتصبب العرق من جسمي, ثم قاطعني قائلا: ولولا رحمة مولانا وشفقته, لكنت الآن مع الحوت الأزرق, لقد عفا عنك أمير المؤمنين بعد أن قرأ مقالك. الحمد لله!! خرجَتْ من جوفي وكأنها لأول مرة تصعد منه. عدتُ لبيتي, وكسرتُ قلمي, وحرقتُ أوراقي, ولو أملك لنزعتُ عقلي ورميتُ به مع أوراقي حتى لا يعمل, وأعلنتُ توبتي حينها من جريمة القلم, وجلستُ أتابع نشرة الأخبار الوحيدة في تلفازي, والتي لم تخلو منها صور أمير المؤمنين علي سالم البيض قدس الله سره.