كانت فترة من أسوأ الفترات وبالرغم من قصرها حوالي شهرين فإنها كانت أبشع شيء في حياتنا إنها الحرب التي اندلعت بين الأشقاء في الوطن الواحد وكل واحد منا يكره الحرب بما تحمله من دمار وهلاك وخراب لكنها فُرضت علينا وهذه إرادة الله قد قَضَتْ بذلك فلا رادَّ لقضائه . عزمت شقيقتي هي وزوجها وأبناؤها السفر إلى (.....) موطن زوجها وكان ذلك في الأيام الأولى للحرب وخوفاً من انتشارها ووصول الجنود إلى قلب المدينة وما يتعرض له سكانها من نَهْب وسَلْب وهَتْك للأعراض .. فقد تركت لنا مفاتيح منزلها ذي الدورين للاعتناء به ورعايته وبَقِيَتْ غرف البيت كاملة مفتوحة ولنا حرية التصرف بها وكنا بين الحين والآخر نذهب إلى منزلنا الذي لا يبعد كثيراً عنا ونلقي نظرة عليه ثم نعود إلى هذا البيت الذي كنا نأكل وننام فيه ولأن أختي تملك مكتبة صغيرة من الروايات العربية والروايات المترجمة وكذا مجلة العربي ومجلة الدوحة ومجلة طبيبك الخاص وفي غرفة من غرف واحدة من بِنْتَيْها اللتين كانتا تدرسان في كلية ( .....) فقد وجدتُ كتبهما قد تناثرت على الطاولة وفي أرض الغرفة وعَثَرْتُ على كُتَيِّب يحمل عنوان "يا ابنتي"(1) لمؤلفه علي الطنطاوي ورحتُ أقلبه فوجدتُ فيه شيئاً يشدني إلى قراءته وقرأتهُ في جلسة واحدة وفيه نصح للفتيات المقبلات على الحياة يعظهن هذا الرجل الذي بَلَغَ الخمسين من عمره (حينما كتب مقاله هذا) فهو يوجه كلمة صريحة بحكم سنه ومن خلال تجاربه ويدعوها في هذه الكلمة أن تهتدي إلى باب الإصلاح الذي هو أمامها ومفتاحه بيدها فإذا آمنتْ بوجوده وعملتْ على دخوله صَلِحَتْ الحال، فيقول لها صحيح أن الرجل هو الذي يخطو الخطوة الأولى في طريق الإثم لا تخطوها المرأة أبداًَ ولكن لولا رضاكِ ما أقدم ولولا لينكِ ما اشتد أنتِ فتحتِ له وهو الذي دخل فيقول لها في ختام الكتيب وهذا هو الحق فلا تسمعي غيره واعلمي أن بيدك أنتِ لا بأيدينا معشر الرجال بيدكِ مفتاح باب الإصلاح فإذا شئتِ أصلحتِ نفسكِ وأصلحتِ بصلاحكِ الأمة كلها . ففي هذا الكتيب الكثير من النصائح والتحذيرات أرجو أن يقرأه كل واحد منا وأن يستفيد مما جاء فيه وأن يعمل على نصح أخواته وبناته حتى تستقيم أخلاقنا. وقد استأثرتُ بهذا الكُتَيِّب وحملته معي إلى بيتي وكأنني عثرتُ على شيء ثمين وبَقِيَتْ أفكار هذا الكتيب في ذاكرتي وأعجبتُ بما جاء فيه من نصح وإرشاد وتحسرتُ على هذا الزمن الذي ندرتْ فيه النصيحة والتوجيه السليم وغدت كأنها مثلبة وتركنا الآخرين يسيئون التصرف في الأماكن العامة دون ردع منا وهذا ما جعلهم يتمادون في أفعالهم وشَجَّع َعلى انتشار التصرفات غير الأخلاقية في أوساطنا وغدا السَّواد الأعظم إذا نصحته لا يقبل النُّصح وكأنك عَيَّرْته بشيء يمس ذاته. ومضت الأيام ووضعت الحرب أوزارها وعدنا إلى مزاولة حياتنا اليومية ومارسنا أعمالنا المعتادة وعدنا إلى شراء الصحف المحلية والمجلات العربية التي كنت أشتريها وأقرأها مع الأستاذ والأديب الراحل عبدالله فاضل فارع 15/12/1926 -14/4/2008م . فقد قرأتُ للشيخ علي الطنطاوي في الصفحة الأخيرة من مجلة المعرفة السعودية الشهرية العدد (49) يوليو 1999م (وهو نفس الشهر والعام الذي توفي فيه) مقالة عنوانها (في الفندق) فقرأتها بشغف وانتظرتُ حتى ألتقي أستاذي/ عبدالله فاضل فارع وأحدثه عن أسلوب هذا الرجل الذي أعجبتُ به من قَبْل بكتيبه "يا ابنتي" واسترسل الأستاذ في الحديث عن شخصية الشيخ علي الطنطاوي أنه سوري الجنسية وقد عَمِل في مقتبل حياته قاضياً وهو ألثغ وله برنامج كان يبث من السعودية مدته خمس دقائق وقد جمع بين صفة العالِم والأديب وله أسلوب جميل في عَرْض أفكاره ووجهة نظره. وقرأت له أيضاً في نفس المجلة موضوعاً آخراً تحت عنوان "سَهَر الأولاد" العدد (87) أغسطس 2002م تناول فيه كيفية التعامل مع الأبناء في التخلص من السهر وهي عادة مزعجة للآباء والأمهات وتُرْهِق الصِّغَار وقد طَلَبَ من زوجته أن تتماسك لكون العلاج شديداً فوافقتْ على الفور ولم تكن تخالفه الرأي وكانت ابنته عَنَان كلما غلبها النوم عَمَدَ إلى هَزِّهَا حتى تستيقظ وتمر ربع ساعة وتعود إلى النوم وهكذا كان يفعل معها "حتى صارت تتوسل إليَّ وتُقبِّل يدي أن أدعها تنام وأنا أقول لها بدم بارد: - لا، السهر أحلى، ألا تحبين السهر، حتى قالت: - لا، لا أحبه، لا أحبه، بَدِّيْ أنام . وانطلقتْ تبكي. وبَرِئَتْ البنت من عِلَّة السهر، من تلك الليلة". وخلال زيارتي المعتادة للمكتبات الخاصة في منطقة كريتر مرة أو مرتين في الأسبوع (الاثنين والخميس) وجدتُ بعضاً من مؤلفاته البالغة عددها 24 مُؤْلَّفاً وكنتُ كل مرة أشتري دفعة من هذه المكتبة ودفعة من مكتبة أُخرى . وقد قام حفيده مجاهد مأمون ديرانيَّة بجمع مقالاته المبثوثة في الصحف العربية وكذا أحاديثه المذاعة من الإذاعة السورية أو من إذاعة مكةالمكرمة التي لم يتمكن من جمعها ونشرها في كتاب وكذا البحث بين أوراقه القديمة ونَشْر ما لم يُنْشَر وقد أصدر حتى الآن سبعة كتب إضافية . وقد قامت دار المنارة للنشر والتوزيع جُدَّة بإعادة طباعة كتبه منذُ أول كتاب له أبوبكر الصديق 1935م حتى آخر كتبه ذكريات علي الطنطاوي في ثمانية أجزاء 1985 – 1989م .. وقد أخرجتها كاملة في تجليد فاخر وطباعة أنيقة وورق ناعم ومريح للعين . لقد عشتُ مع كُتُب الشيخ علي الطنطاوي أياماً وليالي ممتعة من حيث أسلوبه الجميل بفصاحته وبيانه وجرأة آرائه وانتقاده الشديد . أما عن مصير الكُتَيِّب فلقد فرحتُ عندما وجدته كمقالة منشورة في كتابه "صُوَر وخواطر " الطبعة الخامسة 2003م فعدتُ به إلى أهله .