مصرع وإصابة 20 مسلحا حوثيا بكمين مسلح شرقي تعز    وفاة أربع فتيات من أسرة واحدة غرقا في محافظة إب    مايكل نايتس يكشف ل«العين الإخبارية».. كيف دحرت الإمارات «القاعدة» باليمن؟    تتويج الهلال "التاريخي" يزين حصاد جولة الدوري السعودي    مقتل "باتيس" في منطقة سيطرة قوات أبوعوجا بوادي حضرموت    جدول مباريات وترتيب إنتر ميامي في الدوري الأمريكي 2024 والقنوات الناقلة    لهذا السبب الغير معلن قرر الحوثيين ضم " همدان وبني مطر" للعاصمة صنعاء ؟    مصادر سياسية بصنعاء تكشف عن الخيار الوحيد لإجبار الحوثي على الانصياع لإرادة السلام    نادي الخريجين الحوثي يجبر الطلاب على التعهدات والإلتزام بسبعة بنود مجحفة (وثيقة )    لو كان معه رجال!    ميليشيا الحوثي تجبر أعضاء هيئة التدريس وموظفي جامعة صنعاء بتسجيل أبنائهم بالمراكز الصيفية    أبناء القبطية ينفذون احتجاج مسلح أمام وزارة الداخلية الحوثية للمطالبة بضبط قتلة احد ابنائهم    الحوثيون يسمحون لمصارف موقوفة بصنعاء بالعودة للعمل مجددا    الدوري الايطالي ... ميلان يتخطى كالياري    مفاجأة وشفافية..!    عاصفة مدريدية تُطيح بغرناطة وتُظهر علو كعب "الملكي".    الدوري المصري: الاهلي يقلب الطاولة على بلدية المحلة    القوات الجنوبية تصد هجوم حوثي في جبهة حريب وسقوط شهيدين(صور)    "هذا الشعب بلا تربية وبلا أخلاق".. تعميم حوثي صادم يغضب الشيخ "ابوراس" وهكذا كان رده    الحوثيون يطورون أسلوبًا جديدًا للحرب: القمامة بدلاً من الرصاص!    فوضى عارمة في إب: اشتباكات حوثية تُخلف دماراً وضحايا    أفضل دعاء يغفر الذنوب ولو كانت كالجبال.. ردده الآن يقضى حوائجك ويرزقك    بلباو يخطف تعادلًا قاتلًا من اوساسونا    كوابيس أخته الصغيرة كشفت جريمته بالضالع ...رجل يعدم إبنه فوق قبر والدته بعد قيام الأخير بقتلها (صورة)    إطلاق سراح عشرات الصيادين اليمنيين كانوا معتقلين في إريتريا    بعد فوزها على مقاتلة مصرية .. السعودية هتان السيف تدخل تاريخ رياضة الفنون القتالية المختلطة    أطفال غزة يتساءلون: ألا نستحق العيش بسلام؟    الاحتجاجات تتواصل في الحديدة: سائقي النقل الثقيل يواجهون احتكار الحوثيين وفسادهم    شاهد:ناشئ يمني يصبح نجمًا على وسائل التواصل الاجتماعي بفضل صداقته مع عائلة رونالدو    احتكار وعبث حوثي بعمليات النقل البري في اليمن    مصر تحمل إسرائيل مسؤولية تدهور الأوضاع في غزة وتلوح بإلغاء اتفاقية السلام    بالفيديو...باحث : حليب الإبل يوجد به إنسولين ولا يرفع السكر ويغني عن الأطعمة الأخرى لمدة شهرين!    المبيدات في اليمن.. سموم تفتك بالبشر والكائنات وتدمر البيئة مميز    هل استخدام الجوال يُضعف النظر؟.. استشاري سعودي يجيب    سلطة صنعاء ترد بالصمت على طلب النائب حاشد بالسفر لغرض العلاج    توقعات بارتفاع اسعار البن بنسبة 25٪ في الاسواق العالمية    اليمن يرحب باعتماد الجمعية العامة قرارا يدعم عضوية فلسطين بالأمم المتحدة مميز    قل المهرة والفراغ يدفع السفراء الغربيون للقاءات مع اليمنيين    القيادة المركزية الأمريكية تناقش مع السعودية هجمات الحوثيين على الملاحة الدولية مميز    أمين عام الإصلاح يعزي رئيس مؤسسة الصحوة للصحافة في وفاة والده    مثقفون يطالبون سلطتي صنعاء وعدن بتحمل مسؤوليتها تجاه الشاعر الجند    هناك في العرب هشام بن عمرو !    قوات دفاع شبوة تضبط مُرّوج لمادة الشبو المخدر في إحدى النقاط مدخل مدينة عتق    هل الموت في شهر ذي القعدة من حسن الخاتمة؟.. أسراره وفضله    اكلة يمنية تحقق ربح 18 ألف ريال سعودي في اليوم الواحد    في رثاء الشيخ عبدالمجيد بن عزيز الزنداني    الذهب يتجه لتحقيق أفضل أداء أسبوعي منذ 5 أبريل    بسمة ربانية تغادرنا    بسبب والده.. محمد عادل إمام يوجه رسالة للسعودية    عندما يغدر الملوك    قارورة البيرة اولاً    رئيس انتقالي شبوة: المحطة الشمسية الإماراتية بشبوة مشروع استراتيجي سيرى النور قريبا    ولد عام 1949    بلد لا تشير إليه البواصل مميز    الرئيس الزُبيدي يطّلع على سير العمل بوزارة الخارجية وشؤون المغتربين    الدين العالمي يسجل مستوى تاريخيا عند 315 تريليون دولار    وزير المياه والبيئة يبحث مع اليونيسف دعم مشاريع المياه والصرف الصحي مميز    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صاحب برنامج «سري للغاية» يسري فودة يكتب في حلقات مثيرة (الطريق إلى القاعدة)
نشر في الوطن يوم 25 - 05 - 2008

حتي بعد مرور أكثر من سبع سنوات، لاتزال قصة الحادي عشر من سبتمبر القصة الأم التي تلد لنا كل يوم قصة جديدة، من أفغانستان إلي العراق، إلي لبنان، إلي بؤرة الصراع في الشرق الأوسط، إلي قوانين مكافحة «الإرهاب»، إلي مواجهات دينية ومذهبية إلي إيران، إلي مناهج التعليم إلي مصادر الطاقة، إلي رغيف الخبز إلي عالم تغيرت ملامحه بين يوم وليلة.
في قلب هذه القصة الأم يقع الصحفي الوحيد في العالم، الذي استطاع الوصول إلي العقول المدبرة لما يسميه تنظيم القاعدة «غزوة مانهاتن» يسري فودة، نجم قناة الجزيرة، صاحب برنامج «سري للغاية»، يخص لأول مرة صحيفة عربية هي (المصري اليوم ) بسلسلة من المقالات، يشرح فيها علي مدي عشرين حلقة كيف انتهي به الحال إلي قضاء 48 ساعة في أحد المنازل الآمنة لل«القاعدة»، يصلي وراء منسق عملية الحادي عشر من سبتمبر، رمزي بن الشيبة، ويقتسم البيض المسلوق مع رئيس اللجنة العسكرية لتنظيم القاعدة، خالد شيخ محمد.
الوطن يعيد نشر الخمس الحلقات الاولى:
الطريق إلى القاعدة «1» دعوة إلى المجهول
ذات صباح، في الأسبوع الأول من شهر أبريل نيسان 2002، دق هاتفي المحمول، بينما كنت أهم بالدخول إلي مكتبي الجديد، لم أكن قد استقريت بعد في المكاتب الجديدة لقناة الجزيرة في لندن التي تقع مباشرة علي الضفة الجنوبية لنهر التيمس، لكنني كنت مستمتعاً بمغازلة هذه الحقيقة الساخرة: إنني أستطيع الآن من مقعدي أن أري بكل وضوح، عبر النهر العتيق، النوافذ القابضة للمبني الغامض الذي يقبع أمامي مباشرةً علي الضفة الشمالية ولا يحمل رقماً ولا عنواناً ولا تجد له أثراً علي أي خريطة. يسمي فقط «بيت التيمس»، لكنه في الواقع مقر الذراع الداخلية لجهاز الاستخبارات البريطاني MI5.
علي الخط كان صوت لم أتعرف عليه «السلام عليكم يا أخ يسري.. أنا فاعل خير». أتي صوت عطوف بلسان عربي فصيح عبر خط رديء موحياً لأول وهلة بأن صاحبه علي درجة من التدين، ثم لم يدخل في مقدمات كما هي غالباً عادة المتصلين من العرب، «نرجو أن يكون قد خطر ببالك أن تعد برنامجاً خاصاً للذكري الأولي» لم يشرح أي ذكري يقصد، لكنه مضي سريعاً، «إن كان الأمر كذلك فإن في استطاعتنا أن نمدك بشيء خاص، سري للغاية».
لم يمض أكثر من عشرين ثانية تقريباً قبل أن يطلب «فاعل الخير»، الذي قررت بعد ذلك، تسهيلاً للأمور، أن اسميه «أبوبكر»، رقم جهاز الفاكس الخاص واستأذن في قطع الاتصال.
تدافعت الأفكار في ذهني وأنا أحدق في الهاتف المحمول الذي سكت فجأة، مفسحاً المجال لصمت مطبق. يبدو شكله الآن في عيني غريباً. كثيرون من مشاهدي قناة الجزيرة تكرموا قبل ذلك باقتراح أفكار لبرنامجي التحقيقي «سري للغاية»، بل إن بعضهم تطوع بإعداد بحوث كاملة عن موضوعات بعينها توافق طبيعة البرنامج.
غير أن معظم الاقتراحات، جاء قبل ذلك، إما بالاتصال المباشر عن طريق أناس يعرفون أنهم يعرفون يسري فودة، أو عن طريق عنوان البريد الإلكتروني المعلن عنه بعد كل حلقة من حلقات البرنامج، أو عن طريق رقم الفاكس المعروف، أو حتي عن طريق الاتصال الهاتفي علي أرقام الجزيرة في الدوحة أو مكتبها في لندن.. لم يحدث قبل ذلك أن اتصل بي شخص لا يعرفني علي رقم الهاتف المحمول دون أن يقول لي في البداية «إن الصديق الفلاني هو الذي أعطاني رقمك الخاص» قبل أن يمضي فيما اتصل من أجله.
هذه المرة استطاع هذا «الفاعل الخير» أن يثير فضولي دون أن يتحدث عن أي شيء تقريباً. لكن الغريزة الصحفية داخلي ألقت بي إلي إطراقة طويلة عميقة، وأثارت من التساؤلات أكثر مما أثارت من الإجابات. لقد سألني أبوبكر إن كنت أفكر في إعداد برنامج خاص للذكري الأولي، وأنا الآن أخمن أنه ربما كان يقصد ذكري الحادي عشر من سبتمبر الآتية في غضون خمسة أشهر. ولكن، ما عساه ذلك الشيء الخاص الذي قال إنه يمكن أن يمدني به في المقابل؟ كيف يمكن لي أن أثق ب«فاعل خير» هكذا بهذه البساطة؟ لقد كان التأكد من مدي مصداقية أبوبكر مسألة صعبة و مخاطرة ملفوفة بالحساسية في آن معاً، لكنني قمت علي أي حال باتصال أو اثنين للوقوف بطريقة هادئة علي ما إذا كان أحد ما علي علم بما يحدث! لم تكن تحليلات بعض من هؤلاء الذين كانت لهم خبرة مباشرة مع تنظيم القاعدة، علي درجة كبيرة من الفائدة علي أي حال.
بينما كنت في انتظار الاتصال التالي من أبوبكر، حدثت مصادفة ساخرة. مساء تلك الليلة اتصلت بي صحفية تعمل في شبكة دولية شهيرة للأخبار التليفزيونية كي تطلب مني خدمة. «هل لديك بالصدفة رقم هاتف لأحد أعضاء تنظيم القاعدة؟» تساءلت الصحفية قبل أن تستطرد بلهجة جادة، «إننا نريد أن نتعرف علي رد فعلهم في النشرة المقبلة بشأن بعض التقارير». كنت أظن حقاً أنها تمزح، فاقترحت عليها ساخراً أن تتصل برقم 192 (الاستعلامات الهاتفية لشركة الاتصالات البريطانية)!! لولا أنها لم تكن تمزح.
لم تكن هذه الصحفية، للأسف الشديد، استثناءً بين كثير من الصحفيين الغربيين، الذين خانتهم المعرفة الموضوعية لخلفيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر. بالنسبة لهم جميعاً، أو يكاد، بدا الأمر كله أحادي الجانب ذا وجه واحد: الحادي عشر من سبتمبر، بن لادن، الإسلام، العرب، أفغانستان، الشرق الأوسط، الإرهاب، كلها محتويات تنتمي إلي سلة واحدة، ومن ثم إلي تقرير صحفي واحد.
لأسباب كثيرة منها هذا السبب استحوذت قناة الجزيرة علي سمعة دولية. لكن هذه السمعة الدولية، عندما أدركت الجزيرة أدركتها للأسباب الخاطئة. لقد أصيب كثيرون في الغرب، خاصةً في الولايات المتحدة الأمريكية، الذين يعرفون قليلاً أو لا يعرفون شيئاً علي الإطلاق عن الشرق الأوسط و/أو الإسلام، بصدمة المفاجأة عندما علموا في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر أن قناة «عربية»، قناة «مسلمة» تسمي «ال - شيئاً ما» هي التي ستقوم وحدها بتغطية أخبار الحرب التي كانت إدارتهم تستعد لشنها علي أفغانستان. قليل جداً منهم كان علي علم بأن شبكة الأخبار الأمريكية CNN قد عُرض عليها قبل ذلك بشهور عدة العرض نفسه الذي عُرض علي قناة الجزيرة، لكنها لم تر حينئذٍ في أفغانستان مكاناً يستحق التغطية.
رأته بعد ذلك بعد فوات الأوان. وقليل جداً منهم استطاع، أثناء الإعداد لما سُمي «الحرب علي الإرهاب»، أن يقاوم جملةً من التساؤلات العنصرية السخيفة: «هل يستطيع العرب أن يستخدموا كاميرا تليفزيونية؟ هل يستطيعون حقاً ربطها إلي طبق فضائي كي يرسلوا إشارة في الهواء؟ بل هل يمكن أن يكون لديهم صحفيون؟! وكان هذا - للأسف - من حسن حظي كصحفي عربي يعيش في لندن، فتابعت عملي في هدوء، دون جلبة».
اضطررت إلي الانتظار أربعة أيام، قبل أن يلفظ جهاز الفاكس رسالة مطبوعة من ثلاث صفحات، تعلو أولاها بالخط العريض عبارة «بسم الله الرحمن الرحيم». تحتها بخط أصغر: «الخطوط الرئيسية للبرنامج المقترح، سري للغاية.. صانعو أحداث سبتمبر يتحدثون».
كان من الواضح أنها أتت من أبوبكر، رغم أنها لم تحمل توقيعاً ولا رقماً لجهاز الفاكس الذي أُرسلت منه ولا تاريخاً. ولم يكن من الواضح أيضاً إن كانت الرسالة المنمقة من بنات أفكار أبوبكر أو أنه كان مجرد وسيط، لكنّ مؤلفها لم يضع وقتاً في مقدمات أو افتراضات جدلية. كانت الرسالة ببساطة مشروعاً عملياً لفيلم تسجيلي مكون من جزءين احتفالاً بالذكري الأولي لأحداث الحادي عشر من سبتمبر.
كانت هناك نبرة إملائية بين السطور، تشتمّ من خلالها رائحةً لكاتب سيناريو أو مخرج يعتز بأفكاره، ويريد لها أن تترجَم كما يراها هو بتفاصيلها و منحنياتها علي البرنامج، كما يقترح المؤلف، أن يبدأ في جزءه الأول بصور «الأخوة التسعة عشر» مصحوبةً بصوت «الشيخ» (أسامة بن لادن) يلقي أبياتاً من الشعر:
أيقظتم التاريخ بعد رقاده ...
وقد أقسموا بالله أن جهادهم
سيمضي ولو تحدي كسري و قيصر
يعقب ذلك، وفقاً للسيناريو المقترح، «قولة بوش عن الحرب الصليبية»، في إشارة إلي التصريح الخطير للرئيس الأمريكي عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، الذي قال فيه بالحرف الواحد: «إن هذا نوع جديد من ... نوع جديد من الشر، وقد بدأ الشعب الأمريكي يفهم، إن هذه الحملة الصليبية، هذه الحرب علي الإرهاب ستستغرق وقتاً».
يؤدي ذلك بدوره، كما تقول الرسالة، إلي «تحليل تاريخي لمراحل الصراع بين المسيحيين و المسلمين» يقوم به عدد من الباحثين هم: «د. فهد محمود محمد شاكر، د. عبدالعظيم الديب، د. عبدالحليم عويس، د. جمال عبدالهادي». لم يعرف عن أي من هؤلاء الباحثين انتماء إلي تنظيم القاعدة أو غيره من تنظيمات، مثلما لم يعرف عنهم استعداد المشاركة في برنامج من هذا القبيل بناءً علي ترشيح من هذا القبيل، وهي الحقيقة نفسها التي تنسحب علي «د. عبدالله النفيسي وعبدالباري عطوان ود. محمد عباس ود. سعيد مسفر» الذين رشحهم كاتب الرسالة للحديث عن «دخول أمريكا المنطقة وجرائمها التي ارتكبتها ضد الشعوب».
ورغم طموحها، فإن الرسالة التي كُتبت علي الكمبيوتر بشكل منظم دقيق أظهرت بين سطورها عقلاً فاهماً لآليات العمل الإعلامي وظروفه، فقد كانت سهلة ومباشرة و مرتّبة، ثم كانت من بعد ذلك مغرية. «هذا الموضوع لم يسبق لمحطة فضائية أن قامت به من قبل بشكل موسع و متكامل»، ألقي كاتب الرسالة إلي قارئها بجزرة في الفقرة الأخيرة: «وسنوافيك بعناوين أشخاص و مراكز يمكنكم الاتصال بهم لإنجاز الجزء الثاني من البرنامج، في حال توافر استعدادكم لعمل هذا التحقيق.. و تقبلوا جزيل الشكر والامتنان».
القرار الآن متروك لي.
الطريق إلى القاعدة «2» الكرة تتدحرج
كان قد مضي علي الأحداث الدامية في نيويورك وواشنطن حوالي سبعة أشهر حتي وصول تلك الرسالة ممن بدأت أفهم أنه أحد وسطاء تنظيم القاعدة، ولم يكن أحد بعد قد أعلن مسؤوليته عن مقتل أكثر من ثلاثة آلاف شخص.
ورغم أن الإدارة الأمريكية أصدرت حكمها مباشرةً علي بن لادن، مثلما أعدت الحكومة البريطانية لائحة ادعاء ضده، فإن دليلاً واقعياً دامغاً، من نوع ذلك الذي يمكن له أن يصمد أمام محكمة، لم يقدم للناس. لكنّ غياب مثل ذلك الدليل لم يردع الولايات المتحدة عن التحرك علي أية حال؛ فبعد أقل من شهر شن الأمريكيون هجومهم علي أفغانستان وخلعوا حكومة طالبان التي كانت تستضيف بن لادن.
صحيح أن زعيم القاعدة، أسامة بن لادن، لم يدخر وسعاً في امتداح «عمليات الثلاثاء»، ولا في الدعاء إلي الله عسي أن يتقبل «أبطالها» بين الشهداء، لكنه لم يعلن أبداً مسؤوليته المباشرة ولا مسؤولية تنظيم القاعدة عن تلك العمليات. وحتي هؤلاء الذين اعتقدوا - أو تمنوا في قلوبهم - أن يكون رجال بن لادن هم حقاً الذين جعلوا حكام أعتي دولة في العالم يدورون حول أنفسهم، وجدوا من الصعب استيعاب أن بشراً من جلدتهم خططوا ثم ناموا ثم استيقظوا كي ينفذوا أضخم عملية «إرهاب» تحفظها ذاكرة التاريخ حتي الآن وأكثرها تعقيداً.
لكنّ أحداً لم يكن قد سمع شيئاً من أسامة بن لادن لشهور، رغم أن طيفه كان يحلّق طول الوقت في أرجاء غرف الأخبار في كل مكان علي وجه الأرض. كيف أستطيع إذن، وبأي منطق وسط هذه الأجواء أن أتأكد من أن هذه الدعوة المبطنة التي حملتها رسالة الفاكس قد أتت منه أو من أحد رجاله؟ كيف أستطيع أن أقطع الشك باليقين، إنها ليست هي الأخري «خديعة كبري»؟
في ذلك المساء عدت إلي منزلي في وسط لندن وفي جيب سترتي الداخلي ثلاث ورقات خفيفة وفي ذهني جبل ثقيل من الأفكار. كان أمراً مغرياً دفعني بين لحظة وأخري إلي التفكير في أن أحكي ما حدث لبعض الأصدقاء، لولا أن حفيف الإغراء أتي ملفوفاً في كثير من المخاطرة.
ولم يكن لوصولي إلي هذا الإحساس المتناقض سوي معني واحد: أنني أميل الآن إلي تصديق أن تنظيم القاعدة يريد فعلاً أن يضع بين يدي شيئاً غير عادي، وأنني أميل الآن إلي فتح يدي، وأنه إذا كان لذلك أن يحدث فلا بد له من أن يحدث في هدوء.
لم يكد يحين وقت الاسترخاء والتفكير العميق حتي مزق رنين هاتفي المحمول صمت المنزل. أبو بكر؟! لم يظهر علي شاشة الهاتف رقم المتصل. ربما يكون هو. إذا كان هو الذي يتصل الآن من باكستان فلا بد أن الساعة لديه الآن تقترب من الثانية صباحاً.
«ما رأيك في الحضور إلي إسلام آباد؟» تساءل الصوت البعيد الذي انتخبته أذناي من بين ضوضاء خط رديء قبل أن يستطرد مباشرةً: «سنتأكد من الترتيبات ومن أنه لن يصيبك إن شاء الله مكروه ومن أنك ستعود بما تريد».
بدأت الكرة إذن في التدحرج. أحد ما في مكان ما اتخذ قراراً بعينه، وإذا لم أقتنص فرصتي الآن فربما لن تعود أبداً. «طبعاً، بكل تأكيد، إن شاء الله»، جاء ردي سريعاً وأنا أعلم أن أبو بكر لن يستطيع البقاء علي خط الهاتف لأكثر من ثوان معدودة. «بمجرد حصولي علي تأشيرة دخول ستجدني إن شاء الله من الصابرين».
قطع أبو بكر اتصاله فجأةً دون أن يخبرني إلي أي مكان سيكون علي أن أتوجه في إسلام آباد، وهل سيكون هو أم أحد غيره في انتظاري وفي أي ساعة من أي يوم. لكنّ الكرة كانت علي أية حال قد بدأت في التدحرج، وكان لا بد من العبور أولاً علي جسور أخري قبل الوصول إلي جسر إسلام آباد.
لم يكن الحصول علي تأشيرة دخول إلي باكستان مسألة صعبة علي مواطن مصري مسلم يحمل جواز سفر بريطانياً، ويعمل صحفياً مع قناة الجزيرة المحبوبة في ذلك البلد الإسلامي.
ورغم أن قنصلية باكستان في لندن تريد دائماً التأكد من غرض الزيارة فقد كان لدي غرض وجيه يدعوني إلي العودة إلي البلد الذي زرته آخر مرة قبل أشهر معدودة وعلم جميع مشاهدي قناة الجزيرة بتلك الزيارة. كان تحقيقي الصحفي «الطريق إلي معسكر أشعة إكس» في شأن أسري طالبان والقاعدة في جوانتانامو في كوبا، الذي صُوّر جزء منه في باكستان، قد لقي استحساناً كبيراً لدي مشاهدي الجزيرة، ومن ثم كان من السهل تصديق أن الموضوع يستدعي متابعة لإنتاج جزء ثانٍ حول مصير الأسري وصدي ذلك في العالم الإسلامي.
ولأنني لم أكن متأكداً من خطط أبو بكر فقد طلبت أن يشمل التصوير معظم أرجاء باكستان بما فيها منطقة الحدود مع أفغانستان. ولدرء ما تبقي من شكوك - ربما داخل نفسي أنا أولاً - طلبت من القنصل الصحفي المساعدة في ترتيب لقاء مع وزير الداخلية الباكستاني، معين الدين حيدر. «كذبة بيضاء» لم تضر أحداً، خفف من وقعها نصيحة الرسول - صلي الله عليه وسلم- بالاستعانة علي قضاء الحاجة بالكتمان.
دون جلبة صدرت تأشيرة دخول مزدوجة عن قنصلية باكستان في لندن في التاسع من أبريل/نيسان 2002. وبعد سبعة أيام وجدت نفسي في مطار دبي في انتظار طائرة الخطوط الإماراتية المتوجهة إلي إسلام آباد. قبيل إقلاعها اتصلت بأمي في مصر كي أطمئن عليها، وأخبرها أنني ربما أزورها في غضون أسبوعين. تعودت هي لسنوات طويلة ألا تسأل أين أنا أو ماذا أفعل، وتعوّدت أنا علي أن كل ما لديها لي هو الحب والدعاء. لكن المشكلة كانت تكمن فيما عساي أقول لرئيسي المباشر في العمل.
كان المدير العام لقناة الجزيرة وقتها، محمد جاسم العلي، يثق بي ثقةً عمياء؛ الأمر الذي دفع بمرارة إلي حلقومي وأنا «أكذب» عليه أثناء تلك المكالمة الهاتفية التي تعمدت أن تكون قصيرة.
كان الأمر أخطر من أن يذكر علي الهاتف، ورغم أنه - كعادته - لم يكن لدي «أبو جاسم» في تلك اللحظة سوي الأمنيات الطيبة بالتوفيق والسلامة، فقد استغرقه الأمر دقيقةً أو دقيقتين - بعد ذلك بنحو شهرين - قبل أن ترتسم علي وجهه ابتسامة المتفهم.
ويا لها من لحظة! في تلك اللحظة علي أية حال لم أكن أستطيع أن أقرأ في بطاقة السفر وعلي شاشات المغادرة إلا كلمة واحدة أو كلمتين: «القاعدة في انتظاري».
وصلت إلي مطار إسلام آباد في الساعات الأولي من صباح الأربعاء، السابع عشر من أبريل/نيسان 2002، كي أجد في استقبالي مدير مكتب الجزيرة في العاصمة الباكستانية، أحمد زيدان. كان أحمد يعلم أن «الإخوة» يعدون شيئاً ما لزميله الزائر، لكنّ ذلك كان كل ما كان يعلمه، ولم يسأل.
هيأت له خبرته في المنطقة أن يتوقع أن «لقاءً هاماً» كان يلوح في الأفق، رغم أن أياً منا لم يكن يدري تماماً كنه الخطوة التالية عندما أنزلني أحمد في فندق متواضع قرب مكتب الجزيرة.
أستمتع الآن بحمام ساخن كنت في حاجة ماسة إليه. أتمدد علي السرير أقرأ كتاباً عن كيفية العناية بالحدائق المنزلية. أطلب طعاماً إلي الغرفة. آكله. أتمدد علي السرير لمزيد من القراءة. أتململ. أفتح جهاز التليفزيون. ثلاث قنوات، لا غير، كلها محلية. لغة الأوردو تشبه كثيراً اللغة العربية. الجو حار. أدير جهاز تكييف الهواء. لا يعمل. أحاول النوم. لا أستطيع. فجأةً يبدأ جهاز التكييف في العمل من تلقاء ذاته. ضوضاء. يبدأ صبري في النفاد. ها أنا الآن في إسلام آباد تلبيةً لدعوة من شخص لا أعرفه للحصول علي شيء ليست لدي أدني فكرة عنه في مكان وزمان لا يعلمهما إلا الله. هل هناك حماقة أكثر من ذلك؟!
انتظار شيء ما أمر صعب، وانتظار المجهول أمر لا يحتمل، لكنّ الله مع الصابرين. هكذا بدأت أسلّم قيادي رويداً لسيناريو رسمه لي أحد ما في مكان ما.
مرت الآن علي في ذلك الفندق اثنتا عشرة ساعة ولم يحدث شيء بعد. كم من المفترض أن أبقي قبل أن أعترف لنفسي بالفشل؟ يومين؟ ربما. أو ربما ثلاثة أيام علي الأكثر، أعود بعدها أدراجي إلي حيث لا سبيل مرة أخري إلي أن أسلم ذقني إلي مجهول.
بينما أنا كذلك دق الهاتف. اختطفته فإذا صوت أبو بكر واضح جلي هذه المرة. «حمدالله علي السلامة». لم ينتظر رداً، بل استطرد قائلاً: «خذ طائرة المساء المتوجهة إلي كراتشي غداً». كان هذا كل ما في الأمر، وعندها فقط بدأت أسمح لنفسي بتصديق احتمال أن «خبطة» صحفية قد تكون فعلاً في انتظاري. يعلمون الآن أنني في باكستان، وأنني قد التزمت بما يخصني في أول اتفاق، وأنني من الآن فصاعداً أضع نفسي راضياً بين أيديهم.
الطريق إلى القاعدة «3» القبلة الطويلة قبل النوم
كان قد مضي علي الأحداث الدامية في نيويورك وواشنطن حوالي سبعة أشهر حتي وصول تلك الرسالة ممن بدأت أفهم أنه أحد وسطاء تنظيم القاعدة، ولم يكن أحد بعد قد أعلن مسؤوليته عن مقتل أكثر من ثلاثة آلاف شخص.
ورغم أن الإدارة الأمريكية أصدرت حكمها مباشرةً علي بن لادن، مثلما أعدت الحكومة البريطانية لائحة ادعاء ضده، فإن دليلاً واقعياً دامغاً، من نوع ذلك الذي يمكن له أن يصمد أمام محكمة، لم يقدم للناس.
لكنّ غياب مثل ذلك الدليل لم يردع الولايات المتحدة عن التحرك علي أية حال؛ فبعد أقل من شهر شن الأمريكيون هجومهم علي أفغانستان وخلعوا حكومة طالبان التي كانت تستضيف بن لادن.
في مطعم إيراني في إسلام آباد لم أقتسم مع زميلي مدير مكتب الجزيرة في إسلام آباد، أحمد زيدان، في تلك الليلة إلا أقل التفاصيل. كان لأحمد أن يكون الشخص الوحيد الذي يعلم وجهتي في الليلة التالية، وكانت نصيحته لي أن أنزل في فندق ماريوت Marriott في كراتشي و أن ألتزم بتعليماتهم.
حتي ذلك اليوم من أبريل/نيسان عام 2002 كانت قد انتشرت في أرجاء العالم كله علامات الاستفهام كما تنتشر النار في الهشيم. تساؤلات في تساؤلات لا تلد أمام تعقيدات الحدث وغياب الحقائق إلا نظريات المؤامرة. في تلك الأيام لم أستطع استيعاب سيل متدفق من رسائل البريد الإلكتروني والعادي والفاكس والمكالمات الهاتفية والرسائل الهاتفية التي تدفقت علي مكاتب قناة الجزيرة تقدم تفسيرات مختلفة لما سماه رجال القاعدة فيما بعد «غزوتي واشنطن ونيويورك».
استطاع كاتب فرنسي وسط ذلك أن يلتقط صدي المزاج العام في الشرق والغرب فضمن لنفسه ثروة صغيرة عندما زعم أن عمليات الحادي عشر من سبتمبر كانت من تدبير الإدارة الأمريكية نفسها. عندما التقينا به في باريس دافع تييري ميسون بشراسة عن نظرية «الخديعة الكبري».
نظرية أخري، شاعت بوجه خاص في المملكة العربية السعودية، كانت قد انبثقت أساساً من حقيقة أن أحد مشاهدي برنامج «سري للغاية» قد التقط بعين حادة مشهداً من الفيلم الأمريكي The Long Kiss Goodnight «القبلة الطويلة قبل النوم» يصور أحد ضباط مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI و هو يشرح لعدد من زملائه رؤيته لعملية سرية:
- 1993، تفجير مركز التجارة العالمي، هل تذكرون؟ أثناء المحاكمة زعم أحد المفجِّرين أن وكالة الاستخبارات المركزية CIA كان لديها علم مسبق. (يضحك ساخراً ثم يستطرد) الدبلوماسي الذي أصدر له تأشيرة الدخول كان ضابطاً في وكالة الاستخبارات المركزية. ليس الأمر بالمستحيل تصديقه أنهم هم الذين مهدوا الطريق لعملية التفجير لمجرد تبرير الحصول علي زيادة في الميزانية.
أتقول لي إنك ستقوم بتزييف شيء إرهابي لمجرد أن تحصل علي بعض الأموال من الكونجرس؟
- حسناً، لسوء الحظ يا سيد هينيسي، ليست لدي فكرة عن كيفية تزييف مقتل أربعة آلاف شخص ولذلك نحن مضطرون إلي تدبيرها بشكل حقيقي، وبالطبع سنلقي باللوم فيها علي المسلمين.
منحت حقيقة أن هذا الفيلم أُنتج في هوليوود قبل سنوات من وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر ثقلاً للمؤمنين بنظرية المؤامرة، شرقاً وغرباً، في اعتقادهم أن فكرة التفجيرات برمتها ولدت في أمريكا داخل أذهان أمريكية. «بن لادن لم يكن ليستطيع القيام بذلك»، يقطع لنا إدوارد إسبانوس، أحد أبرز كتاب مجلة Electronic Intelligence Review (EIR) ، «فلقد كانت عملية سرية في غاية التعقيد بحيث كان لابد لها من أن تُفعل من داخل الولايات المتحدة»، و الهدف؟ «الهدف كان في غاية الوضوح.. جر الولايات المتحدة إلي حرب شاملة في الشرق الأوسط، إلي صراع حضارات، وإلي حرب ضد الإسلام».
وفيما انتشرت علي الإنترنت نظريات مبنية علي حقائق تاريخية كهذه تبحث في الدوافع في ظل غياب معلومات عن الوقائع، لم يكن من الواضح أي موقف سيتبناه «المتهم الأول» من الهجوم. اختلف الموقف في عيني بين ليلة وضحاها عندما وجدت نفسي في باكستان. لقد فتحت لي القاعدة نافذة لم تفتحها لأحد قبلي، وأنا لا أدري لماذا، غير أن فكرةً بعينها، بعيداً عن تفاصيل الرسالة التي وصلتني من أبوبكر، كانت تنبض حيةً من بين السطور: لأول مرة يعبر أحد ما من داخل تنظيم القاعدة عن قلقه من محاولات حرمان الإخوة «الشهداء» من حقهم المكتسب.
لم أستطع النوم وأنا أدرك أن الأمر قد تعدي نقطة اللاعودة، لماذا اختاروني في المقام الأول؟ لماذا ينبغي عليهم أن يتكبدوا مشقة إحضار صحفي من لندن، بما يكتنف ذلك من مخاطر، بينما كانوا يستطيعون دعوة زميلي الذي يمثل القناة التليفزيونية نفسها علي بعد أمتار منهم؟ ولماذا لا يلجأون إلي أي من هؤلاء الصحفيين الآخرين المعروف عنهم التعاطف مع الحركات الإسلامية؟
لم أجد إجابة.. من الآن فصاعداً علي فقط أن أركز علي أمني الشخصي، العودة إلي المنزل سالماً قفزت فجأة فأصبحت علي قمة الأولويات، إذا استطعت أن أحقق ذلك فإن أي شيء آخر أعود به سيكون فقط «إضافة» جيدة. «من الحماقة العبثية أن تتصيد قصة كبيرة ثم لا تعود بها»، هكذا كان المراسل الحربي لتليفزيون هيئة الإذاعة البريطانية، مارتن بل، ينصح زميله الصغير الغض، يسري فودة، عندما عمل هذا إلي جواره أيام حرب البوسنة.
في ذهني لاتزال صورة مراسل صحيفة وول ستريت جورنال Wall Street Journal الأمريكية، دانييل بيرل، الذي كان اختُطف في كراتشي أواخر شهر يناير/كانون الثاني 2002 وقُطع رأسه من جذوره. كانت جثته الممزقة إرباً إرباً قد وُجدت قبل أسبوعين من وصولي مدفونة في إحدي رياض الأطفال في كراتشي.
في اليوم التالي عدت إلي مطار إسلام آباد كي ألحق بطائرة مزدحمة كانت في طريقها إلي الجنوب - إلي كراتشي. علي متنها أطلقت أفكاري العنان مرةً أخري لنفسها، هل يمكن أن يكون علي الطائرة أحد ما يعرفني وأنا لا أعرفه؟ هل يمكن أن يكون ذلك فخاً أطير إليه بمحض إرادتي؟ دانييل بيرل ذهب أيضاً إلي هناك بمحض إرادته، من الأسلم أن أتصرف وكأنني تحت المراقبة علي أي حال، وأن أدقق في كل التفاتة.
ولكن، ما الذي عساه يضطر بن لادن وأناسه أن يتكبدوا هذه المشقة كلها لاختطافي؟ ماذا يمكن أن يكسبوا من وراء إيذائي؟ دانييل بيرل، علي أي حال، لم يكن مثلي مسلماً، بل كان يهودياً، وكان في عيون ذابحيه صهيونياً ابن صهيوني وغد، ولم يكن بيرل قد تسلم دعوة إلي لقاء ذابحيه، بل إنه هو الذي كان يسعي إليهم، وعندما أدركوا هم ذلك اختطفوه وجعلوا منه عبرة.
كان يريد أن يصطاد فاصطيد، وهؤلاء لا يحبون أن يكونوا في موقع الفريسة المنتظرة، بل في موقع الصائد الذي، مثلما قرر أن يذبح من يتعقبه، قرر أيضاً أن يصطاد صحفياً بعينه كي يتحدث إليه، أو هكذا أردت لدي وصول الطائرة إلي كراتشي، أن أصدق.
انطلقت خارجاً من مطار قائد العزم كي أضع نفسي في سيارة أجرة، وقد بدأت أقنع نفسي باستنتاج أن هؤلاء الذين وجهوا دعوة إلي لن يكسبوا الكثير من وراء إيذاء «أخ مسلم» يعمل للقناة التليفزيونية العربية الوحيدة تقريباً التي تتجرأ علي انتقاد الأنظمة العربية، وتؤمن بتغطية الحدث من جميع جوانبه حتي إذا كانت بعض الدوائر الغربية لا ترتاح إلي أشرطة القاعدة.
ثم ألم أقم أنا نفسي قبل أسابيع قليلة بانتقاد الإدارة الأمريكية نفسها لطريقتها غير الشرعية في التعامل مع من تسميهم «المقاتلين غير الشرعيين» من أسري طالبان والقاعدة في جوانتانامو بكوبا؟ وفيما كانت حرب الرئيس الأمريكي بوش، علي ما يصفه بالإرهاب، منصبةً في تلك المرحلة علي اغتيال سياسي معنوي قبل اقتلاع عسكري عملي لصوت إسلامي متشدد، وجدت راحةً في استنتاج أن هؤلاء ربما قد أدركوا أنهم الآن في حاجة إلي التعاطف أكثر من حاجتهم إلي التحدي. وحين يحدث ذلك تنشأ الحاجة إلي الإعلام والإعلاميين.
من الأفضل إذاً أن أفكر بشكل إيجابي؛ فمن الواضح أن الرجل الذي دعاني إلي قطع آلاف الأميال من لندن إلي كراتشي كان معنياً بأن تتاح للقاعدة فرصة جيدة للحديث والشرح. لابد من أنه كان قد علم لدي تلك المرحلة أنه حتي إذا كان ثمة من أُعجبوا بجرأة الفأر الذي «هرس» قدم الفيل فإن كثيرين لم يعجَبوا بطريقة «الهرس».
ولابد من أنه أدرك أنه إذا كان يريد لحركته الانتقال من مرحلة النشاط العنيف إلي مرحلة من الوجود السياسي، فإن عليه أن يتحدث عن الأسباب، وأن يشرح الدوافع وأن يحدد الأهداف، سواء من الناحية الدينية أو من الناحية السياسية. وحين يحدث ذلك تزداد الحاجة إلي الإعلام و الإعلاميين.
قبل دقائق من وصول السيارة إلي فندق ماريوت دق الهاتف، كانت لدي أبو بكر تعليمات جديدة: «اطلب من السائق أن يغير مساره إلي فندق ريجينت بلازا Regent Plaza. كان الماريوت أقرب مما ينبغي إلي القنصلية الأمريكية في كراتشي، وكان يرتاده كثير من الدبلوماسيين وأعضاء البعثات الأجنبية، مثلما شرح أبوبكر فيما بعد، بالصدفة البحتة أو بغيرها، كانت واجهة الماريوت بعد أسابيع قليلة مسرحاً لانفجار سيارة مفخخة أودت بحياة أربعة عشر شخصاً، من بينهم أحد عشر مهندساً بحرياً فرنسياً كانوا يساعدون سلاح البحرية الباكستاني.
الطريق إلى القاعدة «4» سيغفر لك الله
أنا الآن في كراتشي، باكستان، في أبريل/نيسان ،2002 بناء علي دعوة ممن أظن أنه أحد وسطاء تنظيم القاعدة. كانت النصيحة من أحد زملائي في إسلام آباد أن أنزل في فندق ماريوت، وكنت الآن علي بعد دقائق معدودة منه عندما اتصل وسيط القاعدة الذي سميته «أبو بكر».
كان مسار السيارة، الذي تغير بناءً علي تعليمات أبو بكر، يغريني بالتفكير في المسار الذي اتخذه قبل سبعة أشهر أحد المشتبه في ضلوعهم في التخطيط لعمليات الحادي عشر من سبتمبر. ففي الثالث من سبتمبر/أيلول 2001 كان سعيد بحاجي، الذي اقتسم المسكن نفسه في هامبورج مع محمد عطا ورمزي بن الشيبة، يحلق لحيته قبل أن يودع زوجته في طريقه إلي باكستان بحجة المشاركة في ندوة عن تكنولوجيا الكمبيوتر.
نزل في مطار إسطنبول الدولي فلحق برحلة الخطوط التركية رقم 1056 المتوجهة إلي مطار قائد العزم الدولي في كراتشي. من المطار قصد بصحبة رجلين آخرين إلي فندق إمباسي Embassy ، حيث بات ليلة واحدة. في الصباح دفع حوالي 30 دولاراً ثم اختفي. تلاشي نهائياً من الوجود، علي الأقل حتي كتابة هذه السطور.
كان مسار السيارة، الذي تغير بناءً علي تعليمات أبو بكر، يغريني بالتفكير في المسار الذي اتخذه قبل سبعة أشهر أحد المشتبه في ضلوعهم في التخطيط لعمليات الحادي عشر من سبتمبر. ففي الثالث من سبتمبر/أيلول 2001 كان سعيد بحاجي، الذي اقتسم المسكن نفسه في هامبورج مع محمد عطا ورمزي بن الشيبة، يحلق لحيته قبل أن يودع زوجته في طريقه إلي باكستان بحجة المشاركة في ندوة عن تكنولوجيا الكمبيوتر.
فندق شبيه - وإن كان يقع في شارع فيصل الأكثر ازدحاماً وضوضاء - يحمل لوحة جانبية مضيئة، عليها اسمه باللغة الإنجليزية، ريجينت بلازا، بدا أصغر و أقل احتراماً مما يوحي به الاسم. لكن الأكثر لفتاً للانتباه كان حجم الإصلاحات التي كان يشهدها مدخله وواجهته. توقفت أمامه سيارة أجرة، نزل منها رجل في أواسط الثلاثينيات يبدو كرجل أعمال عربي في زي غربي.
قصد إلي موظف الاستقبال، وقدم جواز سفره البريطاني، طالباً غرفة مريحة لفترة غير معلومة؛ إذ إن ذلك - كما قال للموظف - سيعتمد علي «إتمام بعض الصفقات التجارية». لم يكن «رجل الأعمال هذا» سوي يسري فودة، ولم يكن في وسع موظف الاستقبال إلا أن يرحب بهذا النزيل النادر دون أسئلة.
بعد حوالي نصف الساعة كانت الغرفة رقم 322 مسرحاً لأول لقاء لي بأحد أعضاء تنظيم القاعدة. هرولت من الحمام عندما سمعت دقةً علي الباب. وعندما فتحته وجدت أمامي رجلاً طويلاً أسمر اللون في منتصف العمر، يبدو عربياً وإن كان يرتدي الزي الباكستاني التقليدي (سروالا وقميصا).
لم ينتظر الرجل دعوةً وإنما اندفع مباشرةً داخل الغرفة وهو يغلق الباب في الوقت نفسه. لم يمد يده للتصافح، ولا خدّه لتبادل القبلات، بل همّ بعناق من ذلك النوع المنتشر بين السودانيين: مد ذراعه اليمني إلي كتفي اليسري، وعانقني يميناً وشمالاً. غير أن هذا الصوت، الذي عاش في أذني للأسابيع القليلة الخالية، لم يبد فيه كثير من ملامح اللهجة السودانية المميزة.
كان من الصعب تخمين ما إذا كان انتقاله سريعاً من لهجة عربية إلي أخري يعود إلي رغبته في إخفاء جذوره، أو إلي احتمال اختلاطه لفترة طويلة بعرب ذوي أصول مختلفة. مما بدا، يمكن لأبو بكر، أن يكون يمنياً مثلما يمكن له أن يكون سودانياً أو مصرياً أو سعودياً أو حتي صومالياً.
رغم أن عينيه، لأول وهلة، كانتا زائغتين في أرجاء الغرفة المختلفة وتفاصيلها كان ثمة إحساس فوري بالثقة بيننا. وحتي بعد دقائق معدودة، عندما طلب أبو بكر إن كان يمكن أن يستخدم الحمام، لم أتشكك كثيراً مثلما هي عادتي إذا حدث شيئ كهذا في إطار تحقيقاتي الصحفية. كان أبو بكر فعلاً، كما بدت هيئته، في حاجة ماسة إلي حمام. دعوته بلطف ثم سألته إن كان أيضاً في حاجة إلي طعام. رد أبو بكر علي الفور: «نعم، من فضلك، إن لم يكن ذلك بالشيء الثقيل، وجزاك الله خيراً».
بعد حوالي عشرين دقيقة خرج أبو بكر من الحمام، طالباً مني أن ألتحق به لصلاة العشاء. قام أبو بكر بدور الإمام، لكنه كان سريعاً خاطفاً في صلاته بشكل ملحوظ. اختبأ الرجل في الحمام عندما وصل خادم الغرف بالطعام: حساء العدس ورغيفين بلحم الدجاج. بينما بدأ يلتهمها جميعاً في وقت واحد كانت لدي فمه الممتلئ أولي المفاجآت. «الشيخ أبو عبد الله (بن لادن)، حفظه الله، من أشد المعجبين بقناة الجزيرة.» التقطت الخيط سريعاً وألقيت بأول طعم: «ولكن كيف يشاهدها الشيخ الآن ولا أحد يدري أين هو؟».
ابتلع أبو بكر قضمةً أخري ثم أجاب مطمئناً: «لا تقلق يا أخ يسري. الشيخ أسامة، حفظه الله، حي يرزق وبصحة جيدة والحمد لله. ما يفوته يصله علي شرائط.» بعد إطراقة قصيرة شرع أبو بكر في انتقاد قناة الجزيرة، وكان علي أن أستمع بروح رياضية. «كيف يتأتي لكم أن تستضيفوا هؤلاء الصهاينة بينما لا تعطون للإخوة المجاهدين الذين وهبوا حياتهم لإعلاء كلمة الله والأمة ما يستحقون؟»
لم يرتح أبو بكر كثيراً لمحاولتي تجنب اختلاف في الرأي سابق للأوان بالتقاطي هاتف الغرفة، كي أطلب بعض الشاي. لكنني أجبت: «لا تنس أننا نتحمل كل يوم انتقادات لاذعة وضغوطًا شديدة بسبب قيامنا ببث شرائطكم، ورغم ذلك نؤمن بأننا نلتزم بشرف المهنة». لم يبد علي أبو بكر أنه اقتنع كثيراً، وإن كان قد أشاح بيده راضياً. انتهزتها فرصةً فاستطردت سائلاً: «بالمناسبة، من الذي كتب رسالة الفاكس التي أرسلتها إلي؟» لكن أبو بكر لم يكن ليجيب بشكل مباشر: «واحد من الإخوة.» مضيت في أسئلتي: «ولكن لماذا وقع الاختيار علي أنا بالذات؟» ابتسم أبو بكر ابتسامة الواثق وأجاب: «لقد تناقش الإخوة في هذا الأمر لبعض الوقت وهم يعتقدون أنك صحفي مهني يتمتع بسمعة طيبة». أطرق الرجل لحظةً قبل أن يلقي مفاجأة أخري:
«الشيخ أبو عبدالله، حفظه الله، طلب منا أن نأخذ روبرت فيسك (صحفي بريطاني يعمل لجريدة الإندبندنت (The Independent) إلي أم عبد الله (زوجة بن لادن)، وأن نأخذ يسري فودة إلي الإخوة».
وصل الشاي فيما كنت سعيداً بأن الرجل بدأ يفتح قلبه، لكن أبو بكر صبَّ الشاي في جوفه واقفاً وهو ينهي أول لقاء: «لا تقلق يا أخ يسري، ستعلم كل شيء غداً إن شاء الله». ولأن «غداً» كان يوم جمعة سألته إن كان يفضل أن يلتقي بي في مسجد بعينه. لكن أبو بكر كان له رأي آخر قاله بلهجة حاسمة: «من الأفضل ألا تتحرك من الفندق». استغربت متسائلاً: «ولكن ماذا عن صلاة الجمعة؟» وهنا أصدر أبو بكر ما يمكن وصفه بفتوي جاهزة: «سيغفر لك الله!».
كانت الساعة قد تعدت منتصف الليل عندما استأذن وسيط القاعدة، أبو بكر، تاركاً بين يدي تساؤلات أكثر من إجابات. لقد كانت تلك فتوي لم يسمع بها من قبل: (سيغفر لك الله!). من ذا الذي يظن أن لديه تفويضاً إلهياً يخوّله استثناء مسلم قادر من أداء أهم صلاة في الإسلام؟ ما لا شك فيه أن رخصة «الضرورات تبيح المحرمات» تبرز في أدبيات القاعدة، فأين ترتسم الحدود؟ ومن ذا الذي يحق له أن يرسمها؟ ومتي؟ وفي أي ظروف؟ إذا لم تكن الإجابة في وضوح الشمس لدي أصحابها قبل غيرهم فأي فارق إذاً بين منطق أبو بكر ومنطق جورج دبليو بوش الذي يقوم - باسم محاربة «أعداء الحضارة الغربية» - بتقويض دعائم الحضارة الغربية من أساسها عن طريق إرهاب الصحفيين، وسن القوانين العنصرية، واعتقال الناس دون تهمة إلي أجل غير مسمي؟ كيف يمكن لعادل أن يصدق أياً من الجانبين؟ كيف يمكن له أن يقرر ما إذا كان الذي يراد له أن يسمعه حقيقة، أم أنه كذب من أجل عيون الحقيقة؟
استيقظت صباح اليوم التالي في ذلك الفندق في كراتشي داعياً الله أن يجعل من يوم الجمعة، 19 أبريل/نيسان 2002، نقطة تحول في مسيرتي الصحفية لا نقطة تحول في حياتي. كان الظلام يكتنف رؤيتي بشأن ما عساه سيحدث بعد ساعات، لكنني استأنست طوال اليوم بين صلوات متكررة في غرفة الفندق والاستماع إلي تلاوة مباركة علي إحدي قنوات التليفزيون الباكستاني المخصصة للقرآن الكريم.
هذه المرة لم أكن في انتظار اتصال آخر من أبو بكر. لم يكن علي الآن سوي الانتظار حتي الخامسة مساءً، قبل أن أبدأ في تنفيذ التعليمات التي أخبرني الرجل بها قبل مغادرته ليلة أمس.
في الوقت المحدد تماماً خرجت بهدوء من الباب الخلفي للفندق إلي شارع جانبي، وأشرت بيدي طالباً سيارة أجرة. كانت تعليمات أبو بكر أن أتجنب السيارات المنتظرة أمام الفندق أو بالقرب منه. فعلت ذلك. بعد دقيقة أو دقيقتين توقفت سيارة كانت مسرعة فطلبت من سائقها أن يأخذني إلي عنوان بناية بعينها. عندما وصلت إليها صعدت إلي طابقها الثاني وانتظرت علي السلم.
مرت خمس دقائق ثقيلة قبل أن يصعد إلي رجل كثيف اللحية، باكستاني الملامح، حياني تحيةً إسلامية ثم قال لي بالإنجليزية: «لقد انتهيت لتوي من توصيل حماتي إلي منزلها، ونستطيع الآن الذهاب!» كانت هذه شفرة اتفق عليها معي أبو بكر.
الطريق إلى القاعدة «5» في عرين الأسد
قادني صاحب اللحية في سيارته إلي ميدان مزدحم، حيث توقف فجأة لشراء عصير مانجو. استغرب الصحفي داخلي وقد التزم الصمت تماماً حتي تلك اللحظة قبل أن أسأل بلهجة متأدبة: «هل تعتقد أن لدينا وقتاً لهذا؟» لكن الرجل رد هو الآخر بلهجة أكثر تأدباً: «لا يتعلق الأمر بما إذا كان لدينا وقت. هذه هي التعليمات وحسب يا أخي».
تعليمات! تعليمات مَنْ؟ مَنْ عساه يكون ذلك الذي كنت في طريقي إلي لقائه؟ ومَنْ عساهم يكونون هؤلاء «الإخوة» الذين تحدث عنهم وسيط القاعدة أبو بكر؟ كان صاحب اللحية أكرم قليلاً في كلماته من سماء الربع الخالي في الصيف.
كانت التعليمات أن أبقي داخل السيارة التي غرقت في حرارة كراتشي في مثل ذلك الوقت من العام. بينما أخذت أرشف عصير المانجو غادرني صاحب اللحية ثلاث مرات متجهاً كل مرة نحو صندوق مختلف للهواتف العامة. مر الوقت ثقيلاً ولم يخفف من وقعه سوي تدافع الأفكار سريعاً في رأسي. كانت لمحات لا تزال تنتابني، من لحظة إلي أخري، من زياراتي التي كان قد أجريتها، قبيل سفري هذا، إلي أهالي مَنْ يوصفون في الإعلام الدولي ب «الخاطفين».
يتمزق القلب وأنت تستمع في مرج البقاع إلي والد اللبناني زياد جراح ،الذي قيل إنه قاد الرحلة المختطفة رقم 93 لشركة الخطوط المتحدة United Airlines . في محاولاته اليائسة لتبرئة ابنه وعائلته في وجه عداوة غامرة من قبل الصحفيين الغربيين يتساءل الرجل أمامهم دامع العينين: «متعصبين؟! إحنا؟! متعصبين؟! تعالوا شوفوا بناتنا!!! تعالوا شوفوا بناتنا!!!» تنهمر دموع الكبرياء والكرامة من عيني الرجل وهو يجهش بهذا المنطق اليائس قبل أن ينصرف.
لكنّ شيئاً علي وجه الأرض لن يقنع والد المصري محمد عطا بأن ابنه كان علي متن الرحلة المختطفة رقم 11 لشركة الخطوط الأمريكية American Airlines صباح الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. «لقد اتصل بي هاتفياً في اليوم التالي، يوم 12».. يقول الرجل ثم يستطرد، «كان ذلك في الصباح، وكان كعادته يطمئن علي صحتي وعلي ما إذا كنت قد أقلعت عن التدخين»، ورغم أنه لم يكن متأكداً من المكان الذي اتصل منه ابنه فإنه يقطع بأن «ابني بكل تأكيد إما موجوداً الآن حياً في مكان ما في أمريكا أو أنه تمت تصفيته من جانب الأمريكان».
و مما لا شك فيه أن غياب الأدلة والحقائق المحددة وعدم قيام أي طرف بإعلان مسؤوليته المباشرة عما حدث حتي بعد مرور ثمانية أشهر ساهم في إعداد تربة خصبة لنمو نظريات المؤامرة، خاصة بين العرب والمسلمين الذين ينظرون بعين الشك والحنق إلي سياسة الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل. أما اليوم فقد أضيف إلي ذلك قرف واشمئزاز من محاولات أمريكية لاستغلال مأساة إنسانية للنيل من المسلمين في أفغانستان والعراق وغيرهما.
لم تنحدر شعبية أمريكا في عيون العرب والمسلمين إلي مستوي أدني من ذلك من قبل. «بلطجي قلع هدومه ومشي في الشارع عريان و فيه ستات وماحدّش قادر يوقفه. هي دي أمريكا»، هكذا يلخص والد محمد عطا صورة «أعظم» دولة في عالم اليوم.
أخيراً، عاد صاحب اللحية من أحد صناديق الهواتف بتعليمات جديدة. المرحلة التالية مما لا بد أنه رحلة «تتويه» ستكون علي متن ما يسميه الباكستانيون «ريكشا» (تشبه التوك توك) إلي مكان لا بد من أن يبقي سراً. لقد بدأ الأمر يتجه نحو السخافة. صار كأنه مشهد من أحد أفلام الجاسوسية الرديئة. قادني السائق عبر شوارع وأزقة ملتوية خافتة الأضواء في رحلة غير مريحة وصل في أحد منحنياتها إلي طريق مسدود. لكنني علي الأقل بدأت أدرك لماذا وقع الاختيار علي كراتشي لترتيب هذه الدعوة.
هذه مدينة عشوائية، يسكنها اثنا عشر مليوناً، لا تنقصها مشاعر الحنق علي أمريكا، لا قبل الحادي عشر من سبتمبر ولا بعده. بها كثير مما يمكن وصفه بالأحياء «الآمنة» التي يقطنها ليس فقط ملايين المتعاطفين مع «أسامة» (هكذا يدعونه هنا باسمه الأول)، بل أيضاً آلاف من الأصوليين الذين جاهدوا في كشمير وأفغانستان والشيشان والفلبين وغيرها من النقاط الإسلامية الساخنة.
وصلت الريكشا فنزلت منها سريعاً دون حتي أن أودع صاحب اللحية. «لاهور؟!»، هتف به سائق سيارة صغيرة كانت تنتظر قرب المكان الذي توقفت لديه. كانت تلك كلمة السر التي همس بها في أذني صاحب اللحية عندما عاد من صندوق الهاتف العام. دلفت داخل السيارة فانطلق سائقها مسرعاً.
كان شاباً صغير السن ذا وجه عربي أليف وعينين يشع منهما الذكاء يرتدي قميصاً و بنطالاً عاديين. قدّم نفسه بلهجة فلسطينية: «أهلاً بالأستاذ. أخوك حسن». مد يده مصافحاً بحرارة و هو يقود سيارته بسرعة فائقة إلي خارج كراتشي، ثم استطرد: «عندي هدية لك». مد يده إلي درج يقع علي يمين عجلة القيادة واستخرج ما بدا أسطوانة ممغنطة ثم قال مبتسماً و هو يناولها: «هذه نسخة من برنامج الطريق إلي معسكر أشعة إكس. إنه الآن منتشر في كل مكان في باكستان بفضل الأخوة الذين ترجموه إلي الإنجليزية».
في طريق مظلم منعزل، علي بعد حوالي عشرة كيلومترات خارج كراتشي، توقف حسن بالسيارة فجأة إلي جانب سيارة بدت بغطاء محركها المفتوح كأنها معطوبة. خرج منها رجل آخر يرتدي زياً باكستانياً قام بعد قليل بمساعدة حسن في وضع عصابة علي عيني.
كانت العصابة من نوع طريف: كرتان صغيرتان من القطن الكثيف لُصقت كل منهما علي إحدي العينين ثم طُلب مني أن أضع فوقهما نظارة شمسية. كانت الفكرة بسيطة ذكية لولا أن أحداً كان يمكن أن يلاحظ التناقض في ارتداء نظارة شمسية في عز الليل. لكن الرحلة الحقيقية كانت علي أية حال قد بدأت لدي تلك النقطة.
بينما استلم الرجل الجديد الصامت عجلة القيادة منطلقاً في اتجاه ما، تملكني إحساس بأن هذا الاتجاه لم يكن سوي طريق العودة إلي كراتشي. كان الهدوء و الهواء الطازج في تلك المنطقة المفتوحة خارج كراتشي يتركان المجال تدريجياً لضوضاء ومزيج من الروائح عهدتهما أذناي وأنفي منذ وصولي إلي ذلك الميناء الباكستاني.
بعد مسار طويل مليء بالمنحنيات والمطبات توقفت السيارة. فتح الرجل بابه من الداخل ثم فتح بابي من الخارج هامساً بلغة عربية بلهجة آسيوية: «هل يمكن أن تساعدني في حمل هذا الصندوق؟» أحسست، بينما هممت بالخروج من السيارة، بطرف صندوق ورقي متوسط الحجم يسقط بين يدي فاستجمعت قوتي في ذراعي لاستقباله. لكن الدهشة عقدت لساني عندما لم أشعر بأي وزن يذكر. كان الصندوق الورقي فارغاً.
لم يكن ثمة شيء يستدعي المساعدة علي الإطلاق، لكنني استجبت للطلب دون أسئلة. فجأة، بينما قاد الرجل الطريق ممسكاً بالطرف الآخر للصندوق، أدركت عبقرية هؤلاء الناس: كانت تلك حيلة في غاية الذكاء كي تقود رجلاً معصوب العينين في الاتجاه الذي تريده دون أن تلفت الأنظار.
بعد حوالي خمس عشرة خطوة بدأ سلم طويل فيما استنتجت من صدي الصوت ودرجة الحرارة أنني الآن داخل بناية مدنية. خزنت في ذاكرتي إحساسي بصعود أربعة طوابق قبل أن ينجذب الصندوق من يدي وأسمع صوت جرس داخلي يدق بطريقة متقطعة. لا بد أن تلك هي اللحظة التي كنت أنتظرها من شهور.
فُتح الباب و شعرت بيدين تجذبانني إلي الداخل بسرعة قبل أن ينغلق الباب ورائي وتمتد اليدان كي ترفع الغمامة عن عيني. «كل شيء علي ما يرام الآن. يمكنك أن تفتح عينيك». تائهاً للوهلة الأولي وأنا أشعر بلمسات الطمأنة بدأت تدريجياً أميز أمامي خيالاً يميل إلي القصر ممتلئاً ذا لحية متوسطة الطول تميل ملامحه إلي العربية. تسارعت اللحظات الأولي لحظة بعد لحظة تترك إحساساً قابضاً لدي بأنني رأيت ذلك الوجه من قبل.
ثم فجأة نزل إدراكي علي كالصاعقة. إنه هو. إنه هو بشحمه و لحمه. إنه خالد شيخ محمد، المولود في الكويت قبل 38 عاماً، يقف أمامي مباشرة علي بعد نصف متر. كيف يمكن أن أنسي ذلك الوجه الذي «درست» صورته علي موقع مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI ؟ حتي قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر كان الأمريكيون قد رصدوا خمسة ملايين دولار في مقابل رأسه لتورطه المزعوم في انفجار مركز التجارة العالمي عام 1993 الذي بسببه يقضي ابن أخته، رمزي يوسف، عقوبة بالسجن مدي الحياة في أحد سجون أمريكا.
أنا الآن بين يديه، أم أنه هو الآن بين يدي؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.