تقع سلطات قيرغيزستان المؤقتة بين مطرقة العنف العرقي الدامي في الداخل وسندان الضغوط التي تمارسها ضدها الدول الجارة في منطقة آسيا الوسطي وطموحات القوى الكبرى المتصاعدة جراء موقعها الإستراتيجي. فمن ناحية ، تنظر الدول المجاورة بعين الإرتياب الى الإنتفاضة الشعبية التي إندلعت في قرغيزستان وتوجت بسقوط الرئيس كرمان بك باكييف في 7 نيسان الماضي ، كما يستدل عليه بوضوح من مسارعة كازاخستان بإغلاق حدودها المشتركة مع قيرغيزستان من جانب واحد. الى ذلك يشير محلل سياسي اانه "لا ينبغي إستبعاد ما يتردد عن أن الروس لهم يدا في التحريض على النزاعات العرقية بغية تبرير إرسال قوات منظمة معاهدة الأمن الجماعي للبلاد. وهذا من شأنه أن يكون مفيدا بالنسبة لروسيا من المنظور الجغرافي السياسي". ويبلغ تعداد قيرغيزستان 5,4 مليون نسمة من بينهم 000,756 من الاوزبك الذين يتركز معظمهم في المنطقة الجنوبية. وحمل إندلاع الإضطرابات العرقية فيها سلطات بشكيك إلي إرسال القوات المسلحة لإخمادها. لقد ارتفعت حصيلة اعمال العنف العرقية التي اندلعت في قرغيزستان منذ الاسبوع الماضي الى 170 قتيلا واكثر من 1700 جريح بحسب حصيلة رسمية ، واقفلت اوزبكستان حدودها بعدما تدفق اليها عشرات الاف اللاجئين الفارين من المواجهات. فيما اتهمت الحكومة المؤقتة نجل الرئيس المخلوع بتنظيم المواجهات التي وصفتها الاممالمتحدة بأنها كانت منسقة. ووصل اكثر من 100 الف لاجىء غالبيتهم من النساء من اقلية الاوزبك الى اوزبكستان المجاورة منذ بدء اعمال العنف الجمعة في جنوب هذه الجمهورية الصغيرة الواقعة في آسيا الوسطى ، كما اعلن نائب رئيس الوزراء الاوزبكي عبد الله اريبوف ، مشيرا الى اغلاق الحدود. وفي جنيف قدرت اللجنة الدولية للصليب الاحمر عدد اللاجئين الذين وصلوا الى اوزبكستان بحوالى 80 الف شخص. واعلنت وزارة الصحة القرغيزية امس ان حصيلة الضحايا بلغت 170 قتيلا في اعمال العنف التي جرت خصوصا في اوش وجلال اباد ، اضافة الى 1762 جريحا. غير ان هذه الحصيلة مرشحة للارتفاع اكثر بكثير لا سيما وان العديد من الاوزبك الذين لجأوا الى اوزبكستان المجاورة اكدوا انهم رأوا جثثا متناثرة على قارعة الطريق المؤدية الى الحدود بين البلدين وان هناك جثثا اخرى على الطرقات في اوش. وقالت امرأة عجوز تدعى مارهابو فرت من المعارك وتقيم في احد المخيمات انه "على الطريق باتجاه الحدود ، كانت جثث النساء المتفحمة تنتشر في كل مكان ، ومصفحات لنقل الجند تطلق النار علينا". واكد آخرون ان الجرحى الاوزبك يخشون الذهاب الى المستشفيات في قرغيزستان. وقال لاجئ اوزبكي يدعى عصام الدين قطبدينوف 27( عاما) "يرفضون ادخالنا المستشفيات ويقولون انها مخصصة للقرغيز فقط" ، مؤكدا ان "هناك الف قتيل في اوش لوحدها". من جهة اخرى اعلن مسؤول قرغيزي ان ماكسيم باكييف نجل الرئيس المخلوع كرمان بك باكييف والملاحق من قبل الانتربول اوقف فور وصوله الى بريطانيا. وقد فر باكييف بعد الانتفاضة الشعبية التي وقعت في نيسان واسفرت عن مقتل 87 شخصا وتسببت بسقوط نظام والده الذي لجأ الى بيلاروسيا. وتتهم السلطات الجديدة ماكسيم باكييف بالفساد والمشاركة في تنظيم اعمال العنف التي شهدتها قرغيزستان منذ سقوط النظام السابق. وبدأت المجموعة الدولية حشد قواها في محاولة لاحلال السلام وارسال مساعدة انسانية. واعلنت الولاياتالمتحدة انها "على اتصال وثيق" مع قرغيزستان والاممالمتحدة ومنظمة الامن والتعاون في اوروبا وروسيا وانهم يدرسون "ردا دوليا منسقا" ، بحسب الخارجية الاميركية. وابدى الاتحاد الاوروبي استعداده لتلبية الاحتياجات الانسانية "الاكثر الحاحا". واعلنت مفوضية الاممالمتحدة العليا للاجئين انها سترسل "مساعدة وفريق طوارىء" الى افغانستان. وحذر مكتب الاممالمتحدة لحقوق الانسان امس من ان العنف في قرغيزستان بدأ فيما يبدو بخمس هجمات منسقة وأخذ طابعا عرقيا يمكن ان يخرج عن نطاق السيطرة. وصرح روبرت كولفيل المتحدث باسم نافي بيلاي مفوضة الاممالمتحدة السامية لحقوق الانسان بأن مكتبها جمع روايات شهود من بينهم موظفون بالمنظمة الدولية في جلال اباد واوش. وقال كولفيل في افادة صحفية في جنيف "لدينا مؤشرات قوية على ان هذه الاحداث لم تكن اشتباكات عرقية عفوية وانها كانت الى حد ما منسقة ذات أهداف وخطط لها بشكل جيد". وأضاف "يشير العديد من هذه التقارير الى ان الواقعة بدأت بخمس هجمات متزامنة في اوش نفذها رجال مسلحون يغطون وجوههم. بدا الامر وكانهم يريدون استثارة رد فعل". واندلعت اعمال العنف العرقية ليلة الخميس الماضي في اوش بين القرغيز والاقلية الاوزبكية. واقرت الحكومة الانتقالية انها تلقى صعوبات في السيطرة على الوضع في جنوب هذا البلد الواقع في آسيا الوسطى ، رغم التعبئة في الجيش واعلان حالة الطوارئ وفرض حظر للتجول والاوامر الممنوحة للقوات النظامية باطلاق النار من دون انذار مسبق. وتاريخيا تشهد العلاقات بين الاقلية الاوزبكية 15( الى %20 من الشعب) والقرغيزيين توترا ولا سيما بسبب التفاوت الاقتصادي. كما تنشط مجموعات مافيا ايضا في تلك المنطقة. فما الذي يحصل في قيرغيزستان.. يبدو ان القومية هي الأقوى في تلك "الآسيا" التي لم تجد نفسها بعد رغم انهيار الستار الحديدي. لم تأت أحداث قيرغيزستان الاخيرة من فراغ ، فهي دولة تعاملت بحذر مع كل المراحل التي تلت انهيار القطب السوفياتي في ، 1991 وتصرف بوعي في الكثير من المحطات. لم "تقترف" خطأ الاستغناء عن اللغة الروسية ، بل أعادت الاعتبار للغة القيرغيزية ، لم تشأ التضييق على الروس الذين وفدوا اليها في زمن السوفييت ، بل عاملتهم بسواسية أبناء البلاد. علمت بشكيك أن روسيا ما بعد 1991 مجهولة المعالم ، ولكنها لن تكون كالاتحاد السوفياتي ، فلا بدّ من الاحتفاظ بحد أدنى من العلاقات مع الدولة الجديدة ، كون القيرغيزيين بأنفسهم يدركون ماهيتهم وقدرتهم على ساحة آسيا الوسطى ضمن ما يمكن قراءته ب "نهج السياسة الواقعية".