ما أن قضمت قليلاً من قطعة "قفوعة"- نوع من الخبز- حتى بدأت الفتيات في الفصل بالصياح: فاطر، فاطر، فاطر.. وسخرن مني لأني آكل في رمضان. وعندما وصل الخبر لأمي شدت شعري حتى كادت تنزع فروة رأسي وهي تؤنبني، وأصبحت كل يوم تفتش شنطة كتبي "وهي لم تكن سوى كيس قماش" لئلا أكون أخذت معي أكلاً للمدرسة! المسلمون يصومون، وأمي تتوقف عن الطبخ، وتغدينا بخبز وقهوة، وتحذرنا في كل مرة من الأكل في الشارع. وكنت دائماً أقول مع نفسي: نحن يهود مادخلنا من رمضان.. لكنني فهمت في سنوات أخرى أن ذلك من باب احترام مشاعر الآخرين. كنت استمتع عصراً بالذهاب الى "المقشامة" القريبة حيث يأتي ناس كثيرون لشراء "البقل" ويحدث مزاح وكلام ظريف استمتع لسماعه. ومع اننا يهود كان معظم الجيران المسلمين يرسلون لنا أكل من فطورهم، وكنت افرح لما يكون بينه "قديد" أو "رواني"..وكنت استغرب لماذا لا يرسلون لنا لحم بين الأكل.. حتى اخبرتني أمي بأنهم يعرفون أن اليهود لا يأكلون اللحم إلا الذي يذبحه العيلوم! كان الناس يسهرون في رمضان واصوات المساجد لاتنقطع، وصنعاء تبقى في حركة حتى وقت الفجر، ويسمح لنا اهلنا بالبقاء في الليل خارج البيت نلعب. كانت الحياة جميلة، ورغم أن الناس كلهم تقريباً بسطاء ليسوا اثرياء لكنني كنت اشعر انهم مرتاحون وراضون بعيشتهم، وكرماء جداً.. وقلما كانت تحدث خصومات بين الناس، وحتى عندما تحدث يتسامحون في نفس اليوم وتعود الحياة طبيعية.. لذلك كنت كلما أحدث صديقاتي عن اليمن أجدني أكرر كلمة (اليمن غير)، حتى جعلن منها موضوع مزاح، فأجدهن ونحن منهمكات بحديث عن العمل يقولن: "اليمن غير يا ست نجاة"!!!!! ربنا يحفظها ويحميها .... فاليمن غير كل العالم...
*- يهود "ريدة" فارون من حرب صنعاء إلى فيضان "عمران" حتى قبل 300 عام لم يكن في محافظة عمران أي يهود، لكن اشتعال الأزمات السياسية والحروب في صنعاء دفع بالكثير من الأسر اليهودية للنزوح الى منطقة "ريدة" بعمران حيث تولى مشائخ القبائل حمايتهم وتعهدوا بأمورهم المعيشية، حتى تدبروا في وقت لاحق أعمالاً في الزراعة، وحرف أخرى كالحدادة، والخياطة، وصياغة الفضة. في 1859م زار المؤرخ "جاكوب سابير" عمران وقدر عدد اليهود فيها بحدود المائة وعشرين أسرة، يقودهم الحاخام سليمان التانيمي، وتحدث عن وجود "معبدين". لكن في 1900م اجتاحت الفيضانات مناطق عمران، وتدفقت السيول نحو مساكن اليهود فهمدت وجرفت معظمها، وقتلت أكثر من (40) يهودي، في أكبر كارثة تلحق بيهود اليمن. وفي 1948م عندما بدأت الهجرة ضمن عملية "بساط الريح" هاجر من ريده ما بين (550-600) يهودي ، فيما فضلت عشرات الأسر البقاء في اليمن، فنزح بعضها باتجاه "صعدة" ليزاولون اعمالا حرفية هناك، فيما بقي آخرون في عمران وما زالوا فيها حتى يومنا هذا، لكن تناقصت أعدادهم كثيراً جداً، بحيث لم يعد اجمالي عدد اليهود في اليمن سوى ما بين (220-250) فرداً.