22 عاما وأنا أعمل في مجال الصحافة ، لا تخلو وزارة إلا ودخلتها وتوغلت في تفاصيل أعمالها ، وغطيت إعلاميا مئات الندوات والمؤتمرات والورش والدورات لمختلف القطاعات السياسية والاقتصادية والتنموية وفي المجال الإنساني والحقوق والحريات ، وشاركت في التغطيات الاعلامية ميدانيا في العديد من المحافظات .. وكان ومايزال شغفي التعرف على الشخصيات والقيادات ليس بالتعريف عن نفسي أو خلق علاقة مع أحد ما ، او التودد لأحد ، إنما من خلال حرصي للإطلاع على مجريات العمل في هذه الوزارة أو تلك وقياس مدى المصداقية بين القول والفعل ، وتراني أجهد نفسي للخوض في تفاصيل مجريات العمل في دهاليز وأروقة مؤسسات الدولة حتى شاب راسي في سن مبكرة.. ولأني أتبع إعلام الدولة فدوري ينحصر في إبراز المنجزات( الإيجابيات) بينما جوانب القصور او الفشل او الفساد وهشاشة العمل في مرافق الدولة فليس من اختصاصنا وفق السياسة الاعلامية لبلدنا وبقية الدول ، لكنني كنت ومازلت احرص على إبراز الإيجابيات ،بينما جوانب القصور والفساد تجدني ادونها كملاحظات واطلع المسؤول الأول في الجهة المعنية عليها ، ومن هنا تبدأ معرفتي بمدى مصداقية المسؤول مع واجباته في خدمة الناس والمجتمع ، بغض النظر عن حجم ومقدار المسؤولية لأن الميزان عادل ومنصف حتى وإن كانت (مثقال ذرة ) . إن تقلد المسؤولية ليس بالأمر الهين ، وليس ميدانا لإثبات النجاح من الفشل ، المسؤولية الحقة ليست مغنم ولا مغرم كما يردد البعض ، إنها قيم ومبادئ وأخلاق متجذرة نشأت وترعرت عليها ، فإن كنت بعيدا عن ذلك فتكون عبدا لهواك وللكرسي الذي سيحرقك آجلا أو عاجلا ، وإن كنت عبدا لله وخادما لبلدك ومجتمعك فسوف تروض الكرسي وتجعل منه عبرة لمن لايعتبر ، بالأخلاق والحلم والصبر ومعاملة الناس بالحسنى واللين وإشاعة العدل والحق.. انقلكم هنا إلى محافظة ذمار للحديث عن لقطات عاجلة وسريعة عن شخصية المحافظ محمد البخيتي ، هذا الإنسان الاستثنائي الذي لفت انتباهي إلى خصال ومزايا لم أشهدها في إنسان طوال حياتي وليس فقط خلال مسيرتي المهنية .. توجهت إلى محافظة ذمار صباح يوم امس الأحد 6 ديسمبر للقيام بالتغطية الإعلامية لافتتاح مشروع المحطة المركزية لإنتاج المياه ، كان مقررا قبل كل شئ عقد اجتماع قصير في مبنى مؤسسة المياه يضم مسؤولي الأطراف المعنية ، وكعادتي احرص ان احتل الكرسي في نهاية الطاولة لأكون وجها لوجه مع المسؤول الأول الذي سيرأس الاجتماع كي أتمكن من تدوين التفاصيل . بعد دقائق وصل المحافظ البخيتي وجلس في المقعد الذي يفترض ، قاعة الاجتماع برغم صغرها لكن اصوات الحضور كانت مرتفعة ، بينما كنت أحدق في وجه المحافظ (كعادتي مع الجميع ) وبعد خمس دقائق تقريبا جاء من يقول له لنذهب نواصل ( عملنا أو إجتماعنا ) حتى يصل بقية المشاركين في الاجتماع ، فرد عليه المحافظ ( كما تريدون ) وغادروا القاعة ومن ثم لم ينعقد الاجتماع لكون مدير عام المؤسسة طه الهندي قدم للجميع على الهواء الطلق في فناء المؤسسة شرحا عن تفاصيل المشروع ومكوناته وووالخ . برغم أن هناك من كان جالسا بجانب المحافظ عن يمينه وشماله ، لكن انظاره كانت متجهة بثبات نحو الطاولة وكان صامتا ، فتوغلت ببصري نحوه فرأيت في وجهه تقاسيم وتجليات كمن يتعبد بخشوع ، رأيت في وجهه ( مسحة إيمانية ) لم ألمحها في أحد غيره ، حتى تفاصيل جلسته على المقعد ظهرت بهيئة متواضعة ومختلفة عن الجميع ، وحينما غادروا القاعة تأملت في وقوفه ومشيته وخطواته ، وكان أكثر تجليا .. انا من النوع الصعب في تصدير الحكم عن الآخرين ، ولن تجد مني أي رأي عن شخص ما ، احتاج إلى شهور كي تتبلور لدي فكرة وانطباع عنه ، لكنني اليوم أمام إنسان لم يسبق لي التعرف عليه ، لكنه يأسرك بهدوئه وصمته وورعه وتواضعه ، فعادت بي الذاكرة الى تفاصيل أول خطاب له عقب تعيينه محافظا لذمار (الذي انتشر صوت وصورة عبر جروبات الواتس اب) ، كان خطابا عظيما لقائد عظيم أو خليفة أو مايشبه العظماء حتى انه اعتذر من رعيته عن قبول الهدايا أو المشاركة في الولائم (العزومه) ، أنا لم أؤمن بصدق كلامه حينها ، لكنني الان مندهشا ،هل يعقل ان يكون بيننا من يتقلد المسؤولية ويعلن للملأ بتفاصيل زهده .. غادرت القاعة الى حوش مبنى المؤسسة فكان هناك تجمعات صغيره متفرقه كلا مع رفاقه ومرافقيه وكان المحافظ البخيتي هناك في أحد أركان المبنى مع شخص اخر فقط ، الجميع ينتظرون وصول الممثل المقيم لليونسيف لافتتاح المشروع ، وانا كنت منشغلا مع فضولي أراقب عن بعد هذا الذي خاطب قومه بالقول الحق واللين ، حروف من ذهب نطق بها قلبه وليس مجرد زفرات لحروف وكلمات عابره ، ويا ترى كيف سيتعامل معه الآخرين أمام هذه الصراحة المطلقة التي ظهر بها والتي قل ماينطق بها الرجال والشجعان . انا اليوم أمام شخصية استثنائية ، إنسان تهابه وتحترمه من أول لقاء ، لا غرور ، ولا كبرياء ، لاعنجهية ، يقابل الجميع بابتسامات مشرقة وصادقة وتواضع لن يتكرر ، هذه القيم الإنسانية أولا قبل المسؤولية نحن نفتقدها كثيرا ولانضع لها أي اعتبار ، ( ربما لأننا لم نعتاد عليها ) ونجهل انها بداية الطريق للإصلاح وللنجاح ، ولتجسيد القدوة الحسنة ، ويجدر بأبناء ومسؤولي ذمار صغيرهم وكبيرهم أن يستثمروا هذا الصدق وهذه العفوية وثكلته أمه من يعتقد غير ذلك . حتى أثناء تناول الغداء احرص دائما في كل الاستضافات ان اجلس في اسفل الطاولة ، في هذه الأثناء الجميع ينتظرون قدوم المحافظ ومقعده في اعلى الطاولة ينتظره ، فالتفت لأرى من يجلس بجانبي يزاحمني هذه المره ، (فقد اعتدت ان يجلس بجانبي اسفل الطاولة مرافقي المسؤولين) واجد صعوبة في ابتلاع اللقمة احيانا من زحمة ( الأعفاط ) ، فإذا به المحافظ البخيتي يجلس هنا في اسفل الطاولة ، فوقفت لتوي من على الكرسي وخاطبته بالقول ( سيدي المحافظ ما الذي أقعدك هنا والجميع ينتظرونك هناك ) فرد علي بابتسامة عريضة ، فكبر في عيني أكثر واحترمته أكثر ، حينها قلت في نفسي ( لن يزاحمك ولن يعكر مزاجك احد يا منصور فكل هنيئا مريئا) ، وفجأة وجدت نفسي مضطرا لأداعب المترجم الخاص بالممثل المقيم لليونسيف ، وقد كانوا جميعا بجانب المحافظ ، فأثناء ترجمته للوجبات سمعته يترجم ( بنت الصحن) لكن بنت الصحن لم تكن على صحن من كبر حجمها اربع اضعاف إنما كانت على منسف( حصيرة) ، فقاطعت المترجم وقلت له كيف تقول انها بنت صحن وهي اليوم ليست بنت صحن ، فقال وايش اقول ، فرديت عليه ترجم له أنها ( بنت المنسف) فنظر نحوي ( بامتعاض) فتحاشيت فضولي وواصلت الأكل بصمت . بمجرد وصولي صنعاءالسابعة والنصف مساء اتصلت لأحد الزملاء الثقات بذمار وسألته عن المحافظ البخيتي ، فرد بأنه محافظ متواضع ، ودار بيننا حوار استمر 40 دقيقة و30 ثانية ، فتوافق بيننا الحديث على أن هذا الرجل استثنائي وليس فقط صفة التواضع ، إنما قد جمع بين كل الصفات المشمولة في ( الحياء من الإيمان ) ، فقررت ان اكتب لكم بأن الدنيا فعلا مازالت بخير . قبل سنوات انتقدني أحد أقاربي بأنني عكس الجميع ولايوجد معي حتى صديق واحد ، فكانت (غصة في قلبي ) فتوغلت أكثر في عزلتي وانطوائي ..واليوم فقط وددت لو أرد عليه بأن محمد البخيتي هو الصديق الذي لا يمل من صحبته . فهنيئا لمحافظة ذمار هذا المحافظ الاستثنائي الذي لن يتكرر وقد صدقكم بوعده ، وترك المجال متاحا امام الجميع دون إقصاء لأحد ، وقد جاء خادما للناس وليس متسلطا عليهم ، ولعمري مثل هذا لن يرأف بفاسد لم يغير من نفسه خاصة وقد منح الجميع الفرصة ، فالنزيه والكفؤ والمخلص في خدمته للأمة هو من سيزداد رفعة ، واعتقد أن الفرصة اصبحت الان مواتية كي تتحول مدينة ذمار إلى مدينة عصرية نظرا لموقعها الجغرافي الذي تنفرد به . هذا المقال موثق في الموقع الاخباري حشدنت