مرة أخرى ينجلي المشهد اللبناني عن ثلاث حقائق كبيرة: الحقيقة الأولى أميركية – فرنسية – غربية بصورة عامة خلاصتها ان المحكمة الدولية الخاصة بلبنان حالة قائمة ولن تلغى، كما أن اي عنف يمارس في لبنان لن يبطل مفاعيلها. الحقيقة الثانية لبنانية خلاصتها أن لبنان الطائف واتفاق الدوحة والسلم الأهلي يعيش على حد السيف والقرار الاتهامي المرتقب بين أسبوع وآخر قد ينسف الكثير من معادلات الاستقرار الوطني. والحقيقة الثالثة لبنانية – اقليمية مفادها ان المسعى السوري – السعودي لتجنيب لبنان تداعيات القرار جدي ومتواصل، وهو نافذة الأمل (الوحيدة حتى الآن) للخروج من المأزق، في حمى السجالات السياسية القائمة حول المحكمة وما بعد القرار، والهدنة الأخيرة التي سجلها مجلس الوزراء الأخير مجرد «هدنة» وليست حلاً، وما بعد الأضحى قد لا يشبه ما قبله. وفي انتظار القرار وما بعده يبدو لبنان محكوماً بالشلل- أو بعدم الاستقرار على الأقل- على أمل أن تصل المعجزة التي تسمح له بالتقاط أنفاسه. بكل بساطة، انه الشلل الحكومي والنيابي والمؤسساتي على كل الاصعدة. شلل على مستوى مجلس الوزراء المهدد باللاانعقاد مرة اخرى، اذا هو لم يحسم مسألة احالة ملف شهود الزور الى المجلس العدلي، وشلل على مستوى الحوار الوطني الذي تعطل حتى اشعار آخر... وشلل على المستوى النيابي لأن المجلس غارق في السجالات المالية والسياسية على حساب الكثير من المشاريع المجمدة والمسائل الخدماتية المهملة. ثم انه «شلل ملغوم» على المستوى النفسي وعلى كل الأصعدة يمكن تلمسه في الانطباع السائد حول لبنان في دول الجوار الاقليمي، كما في الإطار الأوسع، وخلاصته أنه بلد مرصود على احتمالات التفجير كافة. على «ايقاع» هذا الشلل تطل عطلة الأضحى وبعدها عيد الاستقلال وكأنهما الفصل الأخير في الهدنة القائمة بين «فريق المحكمة» الذي يصر على الحوار كما على الاستقرار والعدالة معاً، و»فريق إلغاء المحكمة» الذي يعتبر اي قرار اتهامي جزءاً من الصراع القائم بين المقاومة والمجتمع الدولي، اي بين المقاومة والقوى المناوئة لها في اسرائيل كما في الغرب. والأمين العام ل»حزب الله» السيد حسن نصر الله كان في منتهى الوضوح، في خطابه الأخير (مساء الخميس الفئات) بمناسبة «يوم الشهيد) اذ قال: يخطئ من يراهن مجدداً على الأميركيين، أكرر، يخطئ... هؤلاء الأميركيون عندما كانوا في عز قوتهم يقتحمون ويهددون ويشنون الحروب تركوكم وخذلوكم. اليوم وهم يتراجعون ويتقهقرون، وهم ضائعون وتائهون، ماذا يمكن أن يقدموا لكم؟ قبل أن يضيف: أضعتم كل الفرص حتى تستقيم الأمور، وما زلتم تضيعون، لكن ما زال هناك فرصة. حاكموا شهود الزور ومن صنعهم ومن فبركهم، عوض أن تقدموا لهم الحماية بتلفيقات قانونية وقضائية و»سوالف» من هذا النوع. من يُرِد الحقيقة ومن يُرِد العدالة يحاكم شهود الزور وصانعيهم. الى أن يضيف: أمام اللبنانيين الآن فرصة ذهبية لانقاذ بلدهم مما يخطط له الأميركي والاسرائيلي... وهناك مسعى سعودي – سوري. أنتم اللبنانيين أمام خيارين وعليكم أن تختاروا: إما أن تسلموا بلدكم لفيلتمان وكلينتون وسوزان رايس وكوندوليزا رايس وديك تشيني وكيسنجر، او ان يكون لدينا كلبنانيين ارادة عزم وشجاعة لأن نجلس ونتصارح بالحقيقة ونتعاون مع السوري والسعودي للوصول الى معالجة. في الوقت نفسه حرص نصر الله مسبقا على أن يبدد ما سماه «وهماً» وهو ان يقبل بأي اتهام من جانب المحكمة الدولية. أبداً، قال، لن نقبل بأي اتهام... ما حدا يقرب صوبنا، نحن لسنا متهمين. ماذا يعني هذا الكلام؟ إنه يعني، بكل وضوح، أن لبنان الذي شهد قبل اتفاق الدوحة اعتصاماً في قلب بيروت، يعود اليوم الى هذا الاعتصام ولو بشكل مختلف: تعطيل كل المؤسسات بدءا بتعطيل الحوار ومجلس الوزراء، في انتظار أن يتلاقى اللبنانيون على فتح ملف شهود الزور (قبل صدور القرار الاتهامي) لمحاكمة المحكمة قبل أن تبدأ المحاكمة، والازمة بهذا المعنى مفتوحة على كل التطورات الممكنة والاحتمالات الدراماتيكية... حتى اشعار آخر. لماذا هي مفتوحة؟ لأن الموقف الأميركي، والغربي بصورة عامة، الذي يصر على استمرار المحكمة لا يحتمل اي لبس او اجتهاد، وفي حديثها الاخير الى الزميلة «النهار» كانت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية قاطعة اذ قالت: يجب ان يدرك «حزب الله» أن اي لجوء الى العنف في لبنان يتعارض كلياً مع مصالح لبنان ومصالح الشعب اللبناني ومصالح الولاياتالمتحدة، ويجب عليهم ان يعلموا ايضاً انه اذا كان هدف العنف هو وقف المحكمة فإن هذا لن يتحقق. والسؤال: الى اين يمكن ان تذهب الأمور، وما سر الاجتهادات التي نشرت في الفترة الأخيرة والتي تتقاطع على أن القرار الاتهامي الذي يمكن ان يصدر بين يوم وآخر، هو بمثابة التمهيد الطبيعي لمواجهة كبرى لأن اسرائيل باتت مهيأة لحرب جديدة مع لبنان. مسؤول فرنسي عاد من جولة شملت «شمال اسرائيل» اي الجليل المحتل قال ان الاسرائيليين ابلغوه انهم باتوا جاهزين لاحتمالات الحرب في اي لحظة بعدما استكملوا في الاشهر الاخيرة استعداداتهم العسكرية والمدنية، وان البنى التحتية والملاجئ في «شمال اسرائيل» خصوصا في المستوطنات المحاذية للحدود مع لبنان باتت محصنة. واستطرد الزائر ان إجماعاً بات يسود الجيش الإسرائيلي بقدرته على خوض الحرب ضد «حزب الله»، متى قررت القيادة السياسية ذلك سواء من العسكريين الذين كانوا رأس الحربة المعادية لأي عملية عسكرية أو القيادة نفسها. ويقول غادى آيزنكوت، رئيس الجبهة الشمالية في إسرائيل بحسب الزائر الفرنسي: لن تلاحظ الولاياتالمتحدة، ولا الدول التي تشارك قواتها في اليونيفيل، حشد الاحتياطي الإسرائيلي ولا التحركات العسكرية الكبيرة إلا بعد بدء الحرب، ويعني ذلك أنه لن يتسنى لها الوقت للقيام بمساعٍ دبلوماسية وقائية تقنع إسرائيل بالعدول عن الحرب. جاء ذلك بعدما أجرى “حزب الله” في الأيام الأخيرة أضخم مناورة عسكرية في تاريخه شارك فيها الآلاف من عناصره، وامتدت على مدى ثلاثة أيام، حسبما أوردت معلومات صحفية. وسبق ذلك قيام نحو خمسين ألف جندي إسرائيلي بالمشاركة في مناورات واسعة وكبيرة في الجولان ثم في الجليل المقابل للحدود مع لبنان، وبقاء غالبية هذه القوات في هذه الأماكن حتى بعد انتهاء المناورات. وكان مصدر امني لبناني قد اكد خلال الشهر الفائت وجود حالة تأهب في صفوف الجيش, وعناصر حزب الله, وقوات الطوارئ الدولية العاملة في الجنوب (يونيفيل). وأشار المصدر إلى أن حالة الاستنفار تأتي بعد زيارة الإسرائيليين إلى مزارع شبعا ووصولهم إلى الحدود مع لبنان. وأوضحت المصادر ذاتها أن عناصر حزب الله وضعت في حال جهوزية عالية في الجنوب، بعد الكلام الذي أطلقه قائد ما يسمى لواء الجليل في جيش الاحتلال الإسرائيلي يوسي بيخار عن أن جيش الاحتلال أعد خطة لاجتياح الجنوب والقضاء على حزب الله، مشيرا إلى أن عناصر الحزب تنفذ استنفارات ليلية في الجنوب، تخوفا من أي اعتداء إسرائيلي. احتمالات المواجهة الثالثة او الحرب الثالثة اذاً قائمة وسط هجمة اعلامية اميركية – اسرائيلية جديدة على سوريا، تنبش ملف البرنامج النووي السوري المزعوم مرة اخرى على خلفية الاحداث والتطورات التي تشهدها المنطقة بالتزامن مع تزايد السخونة في المشهد السياسي اللبناني بسبب القرار الاتهامي المرتقب وملف شهود الزور. وقد توقف الامين العام لحزب الله في خطابه الاخير حول احتمالات الحرب، واستشهد ببعض ما ورد في مذكرات جورج بوش ليؤكد ان الرئيس الأميركي السابق اوقف حرب 2006 من اجل انقاذ اسرائيل. وأضاف: لقد أخطأوا في تقدير قوتنا، كما اخطأوا في حساباتهم الاخرى، والمقاومة لن تقبل او تسلم بأي اتهام لاي من مجاهديها او قيادييها ايا تكن التهويلات والتهديدات والضغوط، ويخطئ من يتصور اننا سوف نسمح بتوقيف او اعتقال احد من مجاهدينا، واليد التي سوف تمتد الى اي منهم ستقطع. المفارقة يبقى انه في زحمة السجالات والتصعيد اللفظي، والبحث عن مخارج تسووية لملف شهود الزور تعيد النبض الى المؤسسات الدستورية اللبنانية، سجلت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان مفاجأة ثانية (الاولى كانت الإفراج عن الضباط اللبنانيين الأربعة في 29 نيسان/ ابريل 2009)، تمثلت في قرار اتخذته غرفة الاستئناف في المحكمة التي رفضت بالاجماع الاستئناف الذي قدمه المدعي العام دانيال بلمار ضد القرار الصادر عن قاضي الاجراءات التمهيدية دانيال فرانسين، والمتعلق بطلب اللواء المتقاعد جميل السيد الاطلاع على المستندات التي استند اليها في احتجازه من قبل السلطات اللبنانية، معتبرة ان “المحكمة مختصة بالنظر في طلب السيد وخلصت الى ان لدى هذا الاخير اسبابا قانونية تجيز له تقديم طلبه الى المحكمة”. وقد لفتت غرفة الاستئناف الى ان “السيد يعتبر ان “السلطات اللبنانية احتجزته تعسفيا مستندة الى شهادات زور يزعم انها الآن في حوزة المدعي العام للمحكمة، قد طلب من المحكمة السماح له “بالاطلاع على هذه المواد الثبوتية حتى يتمكن من رفع دعاوى مدنية امام المحاكم الوطنية”. وختمت: “سيفصل قاضي الاجراءات التمهيدية في اساس طلب جميل السيد وبالتحديد في ما اذا كان يجوز له الاطلاع على المستندات التي يعتقد انها في حوزة مدعي عام المحكمة”. القرار الذي لم يثر اهتماما كبيرا في الوسطين السياسي والقضائي, اعتبرته جهات محايدة دليلاً آخر على استقلالية المحكمة، علما انه يخالف توجيهات الامين العام للأمم المتحدة بان كي مون الذي سبق ان وجه رسالة الى هذه المحكمة تؤكد على ان الوثائق التي جمعتها ملك للأمم المتحدة ولا يجوز التصرف بها، فضلا عن انه سبق ان طالب كل الاطراف اللبنانيين بعدم التدخل في عمل هذه المحكمة. إلا ان جهات اخرى اجرت “قراءة ثانية” مختلفة في قرار غرفة الاستئناف ذهبت الى القول ان حرص المحكمة على تكريس صدقيتها باطلاق الضباط الاربعة ثم بالاستجابة لاستئناف جميل السيد، يعني ان القرار الاتهامي سوف يكون قاطعا لجهة اتهام العناصر المشتبه فيها او العناصر المتورطة، وسوف يوظف القرارات التي سبقته في هذا التوجه. اي توافق؟ تبقى اشارة لا بد منها، في مواكبة المشهد اللبناني، هي ان التوافق الاقليمي- الدولي (الأميركي – الايراني بصورة خاصة) هو الذي ضمن في الاسبوع الفائت اخراج العراق من النفق، بعدما اطمأنت دمشق الى الثوابت التي التزم بها رئيس الحكومة العراقي العائد نوري المالكي. وهذا يعني ان التقاطع السوري- السعودي- الايراني على حد ادنى من الثوابت يمكن ان يساعد لبنان على مواجهة الاعصار في الاسابيع المقبلة، او الحد من الاضرار التي يمكن ان تترتب على القرار الاتهامي. وكل شيء يدل على ان القيادة السورية تسعى الى توسيع معادلة ال”س. س” في مقاربة المشكلة اللبنانية، ومثلما ساعدت في العراق هي تستطيع ان تساعد في لبنان، والدليل انها قبلت بالمالكي نتيجة توافق اقليمي يؤمن الشراكة الوطنية وليس لكونه شيعيا او من دولة القانون او لأي سبب آخر، وهي تستطيع ان تذهب مع الايرانيين الى السعودية وتبحث عن تسوية تحت الخيمة الاقليمية المشتركة. بهذا المعنى هناك من يتحدث عن «مقاربة براغماتية» ممكنة في لبنان، إذا ما تأمنت لها التغطية الاميركية – الفرنسية المطلوبة. ورغم ان مقاربة الوضع العراقي تختلف عن مقاربة الوضع اللبناني، فإن الاطراف المعنية بالملفات اللبنانية تكاد تكون هي نفسها المعنية بالوضع العراقي، والآلية التي اعتمدت لحلحلة الازمة العراقية تصلح في اي حال لاخراج لبنان من النفق، بالتفاهم مع الاطراف الدولية المعنية. هنا يمكن القول ان الحلقة الافغانية قد تكون متاحة لشكل او لصيغة من التفاهم الاميركي الايراني، لكنها ليست كافية لتطبيع العلاقات، فهناك الملف النووي الايراني، وهناك ايضاً الوضع في لبنان، وعملية التسوية المتعثرة بين الاسرائيليين والفلسطينيين. ولا يخفي النظام الايراني سعيه الى التفاهم والحوار، وابرام الصفقات سواء مع الولاياتالمتحدة ام مع دول الاتحاد الاوروبي وسواها، وهو ما اعلنه قادة هذا النظام في اكثر من مناسبة، وفعلوه وطبقوه في السنوات الاولى لاحتلال افغانستان ولاحتلال العراق، والغاية من سعيهم هذا هو حصولهم على شرعية الاعتراف الدولي بنظامهم واحترام خياراته، وبالتالي وقف محاولات تغييره، واحترام الدور الاقليمي الايراني. مثل هذه التفاهمات تنعكس بالطبع على دور «حزب الله» في لبنان وموقعه في التركيبة الاقليمية، بقدر ما تنعكس على طبيعة المواجهة العسكرية المحتملة مع اسرائيل التي اعدت لحرب جديدة. لكنه من الواضح جداً ان التسويات الاميركية الايرانية في لبنان محكومة بالموقف السوري وان تسليم دمشق بتركيبة السلطة العراقية الجديدة يضمن لها ان تلعب اوراقاً اضافية في لبنان، رغم ان الاوراق التي تمسك بها كافية حتى الآن. نقلا عن الكفاح العربي ..