يستخدم أضعف الضعفاء في اليمن لغة وأساليب احتجاجات «الربيع العربي» المناهضة للحكومة لمكافحة التمييز الذي تركهم على هامش المجتمع لقرون من الزمن. وانفجر تصفيق متقطع بعدما اعتلى رجل اسمر البشرة يرتدي قميصاً أرجوانياً متسخاً المنصة، وسعل بعصبية في مكبر الصوت في «ساحة التغيير»، وهي مركز الانتفاضة التي أسقطت الرئيس علي عبد الله صالح وأصبحت حالياً مكان تجمع شهير للنقاش السياسي. وقال نبيل المقطري وهو يوجه اصبعه إلى الحشد وصوته يرتفع غضباً إن التمييز «قننته الحكومة وتعامل معه الناس بصورة طبيعية. نحن عرب ومسلمون ومواطنون يمنيون مثلكم». وأضاف «لماذا يشعروننا بالدونية؟ لماذا نعامل كعبيد على هذا النحو؟ أتيت إلى هذه الساحة لأني أريد أن اشعر بالمساواة. وبدلاً من ذلك أجد التمييز في كل زاوية. هذه عنصرية في أبشع صورها». وقد ساعدت تجربة الإطاحة بصالح من السلطة بعد 33 عاماً على تنشيط بعض الجماعات اليمنية الضعيفة، ومنها الأقليات والنساء، وشجعها على محاولة تغيير مصيرها. لكن تفكيك الهياكل الاجتماعية الجامدة ربما يكون أصعب حتى من إسقاط حاكم شمولي. والمقطري هو احد اليمنيين الذين يعرفون ب «الخدم»، ودعته اللجنة التي تنظم الكلمات على منصة «ساحة التغيير» إلى إلقاء كلمة عن الثورة والمساواة في اليمن. وكان أول فرد من «الخدم» تطأ قدماه المنصة منذ نصبها المحتجون قبل عام تقريباً. و»الخدم» الذين تميزهم ملامحهم الأفريقية والأعمال التي يؤدونها، وخصوصاً كنس الشوارع، مهمشون لدرجة أن علماء الإنسانيات الذين يدرسون اليمن يقارنونهم بطائفة «المنبوذين» الهندية. ويضع التمييز الواسع النطاق «الخدم» في اسفل السلم الاجتماعي اليمني من دون أن يحدد ما يجعلهم مختلفين عدا لون بشرتهم والأشغال المتواضعة التي يقومون بها. وعبر جمال العبيدي وهو مدرس رياضيات في مدرسة ثانوية وكان من بين الذين يستمعون إلى كلمة المقطري في أوائل آذار (مارس) عن آراء سائدة في رده على أسئلة صحافي، وقال «لا احمل شيئاً ضده. سأتحدث إليه في الشارع وربما اعطيه بعض مالي لكني لن ادعوه إلى منزلي. هو يمني لكنه أيضاً خادم. الله أراد أن يكون على هذه الحال». وساعدت الأساطير المهينة التي توارثتها الأجيال في ترسيخ طريقة التفكير هذه. فكثير من اليمنيين ممن سئلوا عن اصل «الخدم» قالوا انهم يتحدرون من سلالة الأثيوبيين الذين عبروا البحر الأحمر لغزو اليمن قبل وصول الإسلام منذ 1400 عام وهو ما يجعلهم غرباء في بلادهم. ويستند التحامل السائد ضدهم إلى أن «الرجال كسالى ومعدومو الضمير ولا يصلحون لأعمال تحظى بالاحترام، وأن النساء غير نظيفات ومنحلات ويستجدين كرم الآخرين». ويقول أحد الأمثال انه «إذا لعق كلب طبقك فنظفه، لكن إذا مسه خادم فاكسره». ورغم أن الثورة اليمنية التي قامت العام 1962 وأنهت حكم الأئمة الذي استمر ألف عام، وسعت إلى إقامة جمهورية قائمة على المساواة بين المواطنين ألغت رسمياً الطبقات الاجتماعية القديمة، إلا أن «الخدم» بقوا على وضعهم. ويعيش اغلب «الخدم» الذين يعملون في المنازل وفي إفراغ مراحيض المساجد وفي جمع القمامة في الآونة الأخيرة في مساكن عشوائية قذرة على أطراف العاصمة بعيداً من أنظار معظم اليمنيين. وأدختلهم الاحتجاجات التي اندلعت ضد صالح في شباط (فبراير) الماضي إلى المجال العام ربما للمرة الأولى. ففي الثالث من آذار (مارس) طوق مئات من «الخدم» الذين ينظفون الشوارع مكتب المدعي العام في تعز مطالبين بتقديم ضابط شرطة يمني إلى العدالة زعموا تورطه في قضية قتل عنصري لأحد منظفي الشوارع. وشافعي الشامي الذي يتظاهر في النهار ويكنس الشوارع بالليل كان واحداً من مئات الخدم الذين انضموا إلى الحركة المطالبة بالديموقراطية، وأقام في خيمة صغيرة حمراء إلى جانب آلاف آخرين في ساحة التغيير. وبرغم سيره على عكازين بسبب وجود شظية مستقرة في قصبة ساقه أصيب بها عندما حوصر في تبادل لإطلاق النار خلال هجوم للقناصة على المحتجين في صنعاء العام الماضي، كان الشامي فعالاً في تنظيم إضراب في أنحاء البلاد الشهر الماضي لكناسي الشوارع وأغلبهم من «الخدم»، وهم يقومون بواحدة من اقل الوظائف أجراً في بلد فقير وليس لهم عقود عمل مع البلديات ويخضعون للفصل أو لا يحصلون على اجر وفقاً لهوى السلطات. وفي اليوم الثالث من الإضراب حين كانت العاصمة غارقة في أكوام القمامة رضخت السلطات ودفعت لكل من منظفي الشوارع في صنعاء وعددهم أربعة آلاف، 15 ألف ريال (70 دولاراً) مقابل العمل وتعهدت بجعلهم عمالاً دائمين في الجهاز الإداري للدولة. ويقول الشامي انه إذا لم يف رئيس الوزراء محمد باسندوة بهذا التعهد بحلول 15 آذار فسيعودون للإضراب. وأضاف «اعتقد أن الإضراب ذكر الناس بقدر اعتمادهم علينا. كان الناس يضطرون إلى إحراق القمامة أمام أبوابهم لكي يتمكنوا فقط من الدخول إلى منازلهم والخروج منها».