لكتابات الكاثرة عن مصر المحروسة شاهد أهمية هذا البلد.. والقلق العربي والدولي نابع من الإدراك أن مصر رأس المنطقة العربية.. ما يجري سلبا أو إيجابا له تأثير عميق ومباشر على الأمة العربية كلها، وله أبعاد دولية. شد انتباهي تسارع الأحداث، وهي سمة العصر، وربما للأمر صلة بعلاقة الشعب المصري بالنيل العظيم الذي إذا ما تدفق غمر كل شيء، شأن الشعب المصري إذا تحرك.. وتاريخ مصرالقديم والحديث فيضانات مستمرة، وهبات شعبية دائبة.. ال30 من يونيو ليست بمعزل عن 25 يناير. تابعت باهتمام نزول الملايين إلى الشوارع، تجديدا وتأصيلا للثورة الشعبية السلمية الطامحة لتغيير شامل وجذري. "عبقرية المكان" كنحت خالد الذكر جمال حمدان، تؤكد أن هناك علاقة بين فيضان النيل وتدفق الملايين على الشوارع والميادين لإرواء شجرة الحرية والعدل. يستطيع كل واحد أن يقول عن الجيش المصري ما شاء، ولكن لهذا الجيش الوطني حقا وصدقا صفات من الضبط والربط والتربية القاسية والتراتب الصارم، ما يجعله بعيدا عن معنى الحرية والديمقراطية، وهو كأي جيش إذا نزل إلى الشارع أو ألقى البيان الأول يكون صاحب الكلمة الأولى، ويكون قد وضع قدمه في دست الحكم، وصادر المدنية وهمش السياسة.. في ثورة يناير وقف الجيش إلى جانب الثورة، وحسم المعركة ضد رئيس من الجيش (حسني)؛ استجابة لإرادة شعبية عارمة تشمل ألوان الطيف المجتمعي والفكري والسياسي، وتوافق الإخواني والقومي والليبرالي. بدأ "التهازر" بين الإسلامي الأكثر حضورا وتنظيما، وبين العسكر المساندين للثورة، وفي التصارع تحصل المساومة (غير المبدئية طبعا)! في مصر، كما في البلاد العربية الأخرى، لا تستطيع طبقة أو فئة أو شريحة أو حزب منفردا الحكم حتى لو حصل بانتخابات شكلية على غالبية الأصوات. عوامل عديدة تجعل التوافق وتشارك ألوان الطيف قضية غاية في الأهمية؛ لأن التنوع والتعدد، وغياب التمايز الطبقي، والقطع المجتمعي والمعرفي، والتداخل، وامتدادات الأعصر في الحاضر، وغلبة الأمية بمعنييها... كلها تملي أو توجب ضرورة التوافق والتشارك. خطيئة الإخوان أنهم قد اختزنوا خيبات ومرارات وجوع وظلامة ما يقرب قرن من الزمان، فهم في نهاية المطاف بشر! ولكن الخطيئة أنهم جاؤوا في زمن مغاير ومختلف لم يقرأوه جيداً. بدأ المسلسل البائس بإدارة الظهر للحلفاء القوميين والليبراليين، الذين لولاهم لما فاز مرسي بالنسبة الضئيلة طبعا. منذ الأسابيع الأولى تفتح المعركة مع الجميع ضد الحريات العامة والديمقراطية، وقمع المتظاهرين بالمتظاهرين والقتل (نفس ما يعمله الحكم اليوم)، ثم المواجهة مع القضاء، واللجوء إلى الإعلان الدستوري الذي يعتدي على الحريات والقضاء، ويحصن قرارات مرسي، ويعطية صلاحيات واسعة؛ مما أدى إلى اقتتال أمام قصره. امتلاك الغالبية في الشارع له إغواؤه وإغراءاته. اتخذ الإخوان من هذه الشعبية "عصا موسى"؛ لفرض خيارات غير صائبة ولا دقيقة؛ فبدلا من التحاور مع شركائهم، وبالأخص مع قادة الثورة الشعبية التي هي أساس الشرعية -كما قال وحلف مرسي أكثر من مرة- راح يجنح إلى الانفراد والإقصاء والانتخابات والاستفتاءات المكرورة. وحرص الإخوان على المواجهة مع الإعلام -الصحافة والقضاء والاتجاهات السياسية المشاركة في الثورة، والمرجحة لمرسي في الانتخابات، وأخيرا مع العسكر. لم تكن الأخطاء والأخطاء القاتلة حكرا على الإخوان، فالأطراف المختلفة تتشارك أيضا في صنع المشهد الراعب. كل الاتجاهات راهنت بمستويات متفاوتة على الجيش، ربما كان شباب الثورة المستقل أكثر حذرا من هذا الرهان، وقد رفعوا شعار لا لعسكرة الثورة ولا لأخونتها.. العسكرة قد جربت في العديد من الثورات، وثورة 23 يوليو 52 بقيادة الزعيم العربي جمال عبدالناصر، على أهميتها القومية، شكلت في جانب مهم قطعا مع التطور السياسي للديمقراطية الذي عرفته مصر منذ العقود الأولى من القرن الماضي، وكانت نهايتها الكارثية هزيمة 1967. ثورة يناير وامتدادها ثورة ال30 من يونيو 2013، مثلت الشرعية الثورية، وعبرت عميقا عن إرادة الشعب، والعسكرة قطع معها. بينما الأخونة المتفردة افتئات عليها، وانحراف بها عن مسارها السلمي والديمقراطي. تصدى الإخوان، وهم في رأس الحكم، للاحتجاجات الشعبية، سواء بالمظاهرات "المؤيدة"، أو استخدام القوة، لا تقل جرما عما يقوم به "السيسي" والموالون له، مع فارق هنا جر الجيش والثورة الشعبية إلى مستنقع صراع دموي على السلطة، قد تكون له نتائج على النسيج المجتمعي المصري الموحد منذ قرون.. الاحتجاجات الخافتة الآتية من شباب جبهة الإنقاذ وبعض القيادات الشبابية الثورية، هي المؤشر المهم، فإدانة الصراع وتجريم محاولات عسكرة الحياة السياسية والعودة إلى حكم البيادة والخوذة، كأسلمة الثورة، كلها خطر داهم، ولابد من التصدي له وإدانته، وعدم الانجرار إليه أو التبرير له. دخول الجيش على خط الثورة الشعبية هو الخطر الذي دمر الربيع العربي في غير بلد: ليبيا وسوريا واليمن ومصر. لقد سقط جدار نظام صالح في مجرى سيل الربيع في اليمن، ليعيق الثورة، وليعود بها إلى عهد صالح، وربما أسوأ من ذلك من كثير من الجوانب. استمرت الاحتجاجات السلمية في سوريا أكثر من 6 أشهر، ولكن عنف الجيش السوري، وتدخل تركيا ودول الخليج والإسلام السياسي الممول، قد جر سوريا إلى التدمير. الربيع العربي لا يقتصر خطره على الحكم الفاسد والمستبد، ولا على العسكر أو القبائلية والأسلمة، وإنما على النخب السياسية التقليدية والرأسمالية الطفيلية التي امتصت مقدرات الأوطان، وارتدت بالوطن العربي إلى عهود ما قبل الدولة. فالعنف والقوة أو التلويح بها، فما بالنا بالولوغ فيها، قد بشع الربيع العربي، وطرح البدائل الأكثر رجعية ورعبا. تدمير الحضارة العربية الإسلامية في العراق وسوريا، وتخريب التمدن والمدن الممتدة لآلاف السنين، وتدميرالوحدة الوطنية والنسيج المجتمعي الممتد لقرون عديدة، ومسخ الإرادة الشعبية والروح السلامية التواقة للحرية والعدل والديمقراطية والمواطنة المتساوية. ثورة الربيع العربي التي فجرها الشباب، وعبرت عن إرادة شعبية عربية عامة، موجهة بالأساس ضد النظام العربي كله من الماء إلى الماء، وضد الفساد والاستبداد والروح الأبوية الطاغية في كل مناحي الحياة، وفي مختلف التركيبة المجتمعية. ومن هنا هب الفاسدون ودعاة التقليد وزبانية العسكرة والبترودولار وحماة الفساد والمتاجرون بالدين. قرأت باهتمام بالغ ما كتبته المحللة السياسية ميساء شجاع الدين، وعلى كثرة ما قرأت عن الربيع العربي، فإن قراءة ما كتبته في صيحفة "الشارع" (العددين 559 و560) عن "احتجاجات ال30 من يونيو بين: حقائق العصر المعاشة والجمود الأيديولوجي"، وهو عنوان مقالها المنشور على حلقتين. أشارت القراءة عميقة الرؤية إلى البدايات الباكرة للأزمة حتى قبل مرسي، كما أشارت بحق إلى نكث مرسي لوعوده بالتشارك، وأيضا بعدم ترشح الإسلاميين أو الانفراد، وتربط بداية الكارثة بالإعلان الدستوري لمرسي، والاستفتاء على الدستور الذي شابه التزوير؛ متناولة الإخفاقات الداخلية والخارجية سواء مع إثيوبيا أو الملف السوري أو سيناء. تقدم نقدا مريرا لشعار حركة تمرد الدعوة لانتخابات مبكرة، وهي على حق، والتسمية نفسها (تمرد) تعكس الدلالة، لكن الأهم أن الشعب "القريب العهد بالثورة"، هو الذي أعاد السيل العربي إلى المجرى الرائس (الثورة)! كما تشير إلى التذبذب بين شرعية ثورية ودستورية. تنتقد -ومعها كل الحق- المشهد الاحتفالي في التحرير بتدخل الجيش، كما تدين الإرث الاستبدادي عند مرسي. كعب أخيل في قراءة زرقاء يمامة العصر (ميساء)، تقليلها من أهمية الثورة الشبابية في ال30 من يونيو، وعدم اعتبارها ثورة أو امتداداً ل25 يناير التي تعتبرها –محقة- حجر الزاوية. ومن ثم اعتبار ما حدث انقلابا عسكريا مؤزرا بسند شعبي. والواقع أو بالأحرى حسب قراءتي أن ما حدث في ال30 من يونيو في مصر، ثورة وامتداد تجديد وتأصيل لثورة 25 يناير، ولكن العسكر، وبضغط من الدولة العميقة التي يعبرون عنها، وبإغراءات خارجية، قد أقدموا على تعطيل الثورة الشعبية السلمية التي لو انتصرت لغيرت وجه مصر والمنطقة العربية كلها، وقضت بالتالي على أوهام وكوارث العسكرة والأخونة، وأوهام النخب التقليدية كلها. كارثة تدخل الجيش أحيا صراع الدولة العميقة مع القوى التقليدية الأعمق: سلفية جهادية قطبية، وأقصى تيار الثورة الشعبية، وجير لصالحه القوى التقليدية المدنية، وجعل قوى الغلبة والعنف والقوة تتقاتل على حساب الشعب والأمة، ولكنها تتقاتل على الحكم ليس غير. ليس من مخرج غير التخلي عن نهج العنف، وتحقيق تصالح وطني، والقبول بالوفاق والتشارك لتكون مصر أنموذجا للمنطقة العربية كلها.