تحليل ل علي محسن حميد لفت انتباهي كلام مهم نشر عن رئيس الهيئة العليا للتجمع اليمني للإصلاح الأستاذ محمد اليدومي يعد، إذا كان يؤمن به، مقدمة لتحول جذري واستراتيجي في فكر وعمل الإصلاح.
كلامه نُشر مرتين أولًا في صحيفة "مأرب برس" في 27/08/ 13 نقلًا عن صفحته في الفيس بوك ثم في صحيفة الصحوة بعد يومين. اجتهد في القول بأن ما قاله اليدومي عن الدستور والعالم الحر الذي لم يكن يبادله المودة في غاية الأهمية، وأبدأ بآخره "إننا بهذا نقي أنفسنا الطغيان والاستبداد والاستحواذ الدائم للسلطة، ويجعلنا نطمئن لمن يحكمنا، وأنه لن يتأبد في حكمنا، ولن نكون عرضة للانقلابات العسكرية، وأننا سننعم بحياة محترمة كبقية دول العالم الحر". أكان هذا الكلام وبعده اللقاء على موعد لم تحدده الصدف وتوقيته مقصود، وهو إبلاغ رسالة للولايات المتحدة عبر سفيرها بأن الإصلاح يتغير، وأنه لهذا السبب وليس غيره يقف في خندق واحد مع دول العالم الحر ضد النظام في سوريا.
في البدء كانت الكلمة. الشيخ القرضاوي، وهو من علماء السنة والجماعة ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين له تصريح يستدعي المقام ذكره، وهو أن الله سخر لنا الغرب لضرب سوريا. هذا القول يذكرنا برجال تعاونوا مع المغول عند اجتياح بغداد، وسيكتب التاريخ عنه هذه السقطة. في بداية ثمانينيات القرن الماضي زار السفير الأمريكي بالقاهرة المرشد السابق المرحوم عمر التلمساني وأثناء الزيارة سأله السفير إذا قامت حرب بيننا وبين الاتحاد السوفييتي مع من سيقف الإخوان، وكان رد المرشد سنقف معكم لأنكم أهل كتاب. هنا تظهر براجماتية الإخوان وذكاؤهم في خدمة مصالحهم وفقدان مصداقية ما يردده البعض "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى....".. قد يقول قائل: وأين فلسطين التي تتحالف واشنطن مع تل أبيب ضد شعبها. لن أتطرف، وأقول: إن التلمساني كان يضمر في نفسه قول طز في فلسطين على غرار خلفه مهدي عاكف المشهور بمقولة طز في مصر مرتين، والذي لم ينكرها أو يتراجع عنها؛ لأن مصر كوطن تتساوى لديه مع أي قطر آخر يدين بالإسلام أو فيه مسلمون. الوطن وليس غيره هو الحاضن للدين وللمواطن وتاريخنا يسجل على أرضه وهويتنا ترتبط به وبتربته وهوائه، وبدونه يصبح الحديث عن الدين مجرد لغو لأن الأديان لا توجد إلا على الأرض وليس على البحار. في خطبة جمعة بصنعاء قبل ثلاثة أسابيع فقط قال خطيب منهم: إن ما يربطنا هو الدين وحده، وليس الوطن أو اللغة، وأنا لا أتصور، ولا هو أن تقوم للدين قائمة بدون قرآنه العربي ولغته العربية، وتربة تحتضن الكل، أو أن تصبح جنسيتنا إسلامية وليست عربية، وأن يأتي وقت نستبدل فيها باسم الإخوة الإسلامية اللغة العربية بلغة أخرى. ليس بعيدًا أن تكون هذه هي من أفكار المودودي لإذابة العرب في العالم الإسلامي الواسع.. حديث اليدومي عن الرغبة في أن نكون مثل دول العالم الحر لننعم بحياة محترمة مثل مواطنيها - كما قال - سبقته مقدمة تفيد صراحة بأن الإصلاح يريد دستورًا ينظم حياة المجتمع غير مفصل على مقاس شخص أو حزب بعينه على حساب أطراف أخرى، وهو بذلك يدعو إلى توافق على الدستور بدون فرض هيمنة أي طرف ومن أي منطلق. قد تكون تجربة تونس ماثلة أمامه، خاصة نصيحة الشيخ راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة التونسي للأستاذ عبدالوهاب الآنسي بعدم الإصرار على مادة الشريعة في الدستور ومعها التجربة اليمنية التي ظلت مادة الشريعة حبرًا على ورق، ولم تغير أي شيء في حياة المواطن وتحمّل الشريعة وجهابذتها مسئولية ما نحن فيه من سوء إدارة ونهب للمال العام والعصبية والفوقية والعنجهية واحتمال إعادة تجزئة اليمن بما يعني أن الشريعة لم تكن عاصما من الحروب ومن الرغبة في الانفصال واستمرار الافتقار للتنمية الشاملة وللتعليم الحديث الذي يراعي متطلبات سوق العمل بجانبيه الإنتاجي والخدمي، وليس فتح جامعات لن يعمل خريجوها إلا إذا أنشأنا في كل شارع أكثر من مسجد. إن الفيصل ليس في النص بل في توفر شروط تنفيذه وفي تنمية المجتمع وتعليمه حتى يكون هو الرقيب وصاحب المصلحة في تطبيق الشريعة وليس مجموعة منتفعة تفرض وصايتها على الدين وعلى المواطن بدون تفويض وقبول عام. لقد وقّع على رسالة في الحملة المضادة لدستور الوحدة عام 1990، 381 "عالما" سُميت برسالة النصح والتذكير وإقامة الحجة لله سبحانه وتعالى وكان من بين هؤلاء من وضع مبكرًا بذرة تهميش الجنوبيين بقولهم: "وجاءت الوحدة لإرجاع الفرع إلى أصله، والجزء إلى كله فالأساس الذي كان يلزم أن تقوم الوحدة عليه من أول يوم هو دستور الشمال ومناهجه والقاعدة "أن الأقل يندرج تحت الأكثر".
كان صالح يصيخ السمع ويتمايل طربًا، وقال وقتها: "افعل لنا خطبة يا شيخ عمر (المرحوم عمر أحمد سيف، الذي خفض صالح مخصصاته فيما بعد وتسبب ذلك في خصام سيف لصالح، وقد خاطبه صالح، وكأنه يريد منه عمل واحد شاي). الأستاذ اليدومي لم يكن يعبر عن نفسه فقط، وإنما عبّر عنّا جميعًا وعن جيل قادم. حقًّا إننا نريد أن نعيش كمواطنين محترمين في دولة محترمة أيضًا.
وعندما قال: إنه يريد دستورًا يفكك عرى الاستبداد عروة عروة، وتزول به أنانية الفرد الملهم، أو القوى السياسية الغارقة في ذاتها أو المنغلقة على نفسها ومصلحتها لن يختلف معه أحد لأنه لم يستثن حتى حزبه. ولكن لذلك شروطًا، منها وجود المؤسسات التي لا تولد استبدادًا جديدًا تحت مبررات مختلفة قد يكون من بينها مبررات دينية أو أمنية كحماية الأمن القومي أو الحفاظ على النظام السياسي أو النظام العام والمواطن الذي يحترمه ويحترم السلطة التي تسهر على تطبيقه ويجعله مع القوانين مرجعه وسنده إذا تغولت السلطة وانتهكت حقوقه.
نعلم أن هناك قوى من صعدة إلى حضرموت قد تكفر اليدومي لأنها لا تؤمن بالدستور، وترى فيه مع الديمقراطية كفرًا وتعديًّا بشريًّا على الحاكمية الإلهية التي تنوب فيها هي وحدها عن الله عز وجل برغم أنها مثلنا من البشر القاصرين بنزعاتهم وأهوائهم ومصالحهم وانحيازاتهم وأنانياتهم الفردية وأخطائهم وخطاياهم، وبذلك يتحول اليدومي من مكفّر سابق ( بكسر الفاء) إلى مكفّر حالي (بفتح الفاء). من جهة ثانية لا يستبعد أن ما قاله اليدومي يؤشر إلى تغيير في فكر التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وليس اجتهادًا شخصيا لأنه لا اجتهاد في أمور التحول الفكري والسياسي في تنظيم شديد الانضباط والجمود. لقد أكد اليدومي في حديثه على أن الدستور الجديد يجب أن يكون توافقيًّا، ويعبر عن مخرجات مؤتمر الحوار وأن لايصب في مصلحة هذا الجيل وحده وإنما في مصلحة أجيال تأتي من بعده لتصبح أكثر أمنًا وازدهارًا مما نحن عليه الآن. وهذا كلام آخر رصين وبعيد النظر لا خلاف عليه مطلقًا يراد به أن نتجنب كل خيباتنا الماضية من إساءة استخدام للسلطة واستحواذ للثروة وتهريبها ودسترة الاستبداد تحت راية ديمقراطية والخلط بين الدين والسياسة وهو ما لا يتسق مع الحياة المحترمة في دول العالم الحر التي يطمح اليدومي أن نكون مثلها، حيث الدين لله، والوطن للجميع، وتنعدم فيها الأحزاب المسلحة ولا يضبط إيقاع الحياة فيها كاهن على مقاسه ورؤيته وتفسيراته للدين. التغيير سنة الحياة ونحن لا نتعلم مجانا وندفع أحيانا أثمانا باهظة لكي نتحول من حال إلى حال، وفي كل حال ندعي الصواب الكامل وعندما نتحول نبرر، ولكن يصير من الصعب على بعضنا نقد نفسه أو تبرير تحوله بما يتناسب مع مرحلة جديدة لها بنيتها الأساسية ومفرداتها كما قال عادل إمام لأولاده بعد توليه الوزارة في فيلم التجربة الدنماركية.
الحياة المحترمة التي يريدها الأستاذ اليدومي لنا هي ما يفتقده واحد من أكثر المجتمعات بؤسًا وفقرًا في كل العوالم. الحياة المحترمة في دول العالم الحر ليست لغوا وكلاما مجردا أو تمنيات، وهي مرتبطة أقوى الارتباط بسيادة الحرية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية أي الأمور الدنيوية التي يهمشها التيار الديني بمساعد الأمية والتخلف وسيادة مصالح أقلية نافذة عاطلة تعادي ما قاله عداء مطلقا حتى وإن نعمت من وقت لآخر بأسابيع تقضيها في الغرب سياحة أو علاجا أو متابعة لمصالح مالية أو استثمارات فيه..
اليدومي ليس الأول من القيادات السياسية ذات المرجعية الدينية الذي يتحدث بإيجابية عن الدول المتقدمة (العالم الحر)، فبعض الإسلاميين تحدث في فضائيات بلاده (مصر) عن المجتمعات المتحضرة، وهو بذلك يميزها إيجابيا عن مصر، ولكن هؤلاء لم يقولوا إنهم يريدون الاحتذاء بها وفي السر ينهالون عليها نقدا وتجريحا. اليدومي جزم بأن الحياة المتحضرة هي هناك وليس هنا، وأنه لا يمكن أن ننال من نعيمها إلا إذا أصبحنا كبقية دول العالم الحر. كيف؟.. نريد منه الإجابة. دول العالم الحر كما نعلم هي دول ليبرالية وعلمانية و"امبريالية في نفس الوقت"، فيها فصل واضح بين السلطات وبين الدين والدولة ولا يستخدم الدين في انتخاباتها ولا مال عام أو خارجي ولا يعتبر التصويت فيها شهادة يؤثم عليها المواطن ومن لا يصوت لحزب "الآخرة" سيدخل النار وإنما هي خيار سياسي وحرية شخصية وليست واجبا دينيا يورد كاتمها النار، وتحترم فيها حقوق الإنسان وخصوصيته ولا تتدخل الكنيسة في السياسة التي لا علاقة لها بالعملية التعليمية والتربوية؛ لأن تربية البيت والمدرسة والقدوة في المجتمع والنزاهة في من يتولى الوظيفة العامة كفيلة ببناء الإنسان السوي. وفي العالم الحر يجب أن لا ننسى أن للمرأة نفس الحقوق وفيها لا يتم التقليل من شأن المرأة ودورها وعقلها وذكائها وحقوقها..
إذا ولكي يصبح حلم اليدومي حقيقة وأن نكون جزءًا من العالم الحر ينبغي أن يؤصل ويفصل الإصلاح كأكبر حزب في اليمن ما قاله اليدومي في برنامجه السياسي ونظامه الأساسي وخطابه وفي تثقيف أعضائه القائم على احترام فكر الآخر وعدم تكفيره وتنوع قراءاتهم ومشاهدتهم للأفلام السينمائية والمسرحيات وحقهم في الاجتهاد والنقد واحترام خيارات دول العالم الحر المجتمعية بما فيها تلك التي قد تتنافى مع دياناتها، وبذلك سيكون حزب المستقبل. ولكن قبل هذا مطلوب أن نتواضع ونتحدث عن الخلل في مجتمعاتنا ولا نوهم الناس بأن الخلل عند غيرنا وحده لأننا كخير أمة أخرجت للناس محصنون.
إن نظرتنا للآخر يشكلها الآن شيوخنا الأفاضل، مثلا هم يقولون إن دول العالم الحر منحلة وينتهز المواطنون فيها أول فرصة للانتحار لخواء قيمهم الروحية ولشدة بؤسهم، ويتقاطرون على العيادات النفسية لمعالجة الاكتئاب واليأس.. إلخ.. (القرضاوي). أما نحن مجتمعات "الكمال والفضيلة والكفاية والتكافل وانعدام التبعية والحفاظ على السيادة" فبحمد الله وعونه نحن غير ملوثين بماديات المجتمعات الغربية المنحلة والمتفككة، ونعتمد على أنفسنا في علاج السرطان وفق مبدأ "شور وقول" (انظر الصفحة الأخيرة من الصحوة عدد29 أغسطس). هؤلاء لا يعلمون، أو يعلمون ولكن لا يقولون بأن الوضع الاقتصادي له اليد الطولى في أي مجتمع مسلم أو مسيحي أو بوذي أو هندوسي في تدهور الأخلاق والقيم وارتفاع منسوب الانحلال، وأن مجتمعاتنا فيها انحلال وبؤس لا ينشر عنهما شيء لأن السرية وثقافة "استر ماستر الله" لا تزال هي السائدة. ومعلوم أنه لا كرامة مع الحاجة، ولا عفاف بالحجاب وحده، وأنه مع الفقر تتحلل القيم وتتوارى الأخلاق وتتفكك الأسر، وها نحن نتاجر حتى بأطفالنا. العالم الحر المتوزع جغرافيًّا على ثلاث قارات منظومة قيم متكاملة ومتطورة نمت عبر قرون، والفروقات بين التزام مجتمعاتها بها ضئيلة بغض النظر عن شكل ومؤسسات نظام الحكم فيها. وفيها لا تجد نصًا حزبيا يقول بسعي الحزب للإصلاح على أساس مبادئ المسيحية وأحكامها.
والمسيحية فيها ليست عقيدة وشريعة، ولا ذكر لها في أنظمة أحزابها. والديمقراطية لا تضبطها أحكام المسيحية، والحرية ليس لها مفهوم ديني أو تخضع لضوابط دينية، ولا تسعى لأن يكون الحكم مسيحيًّا ولا تبني اقتصاداتها على مبادئ اقتصاد مسيحية، بل هي لم تعرف حتى في ظل هيمنة الكنيسة مقولة الاقتصاد المسيحي أو الصكوك المسيحية أوتمويل مشروعات من أموال مودعين يخدعون بما يسمى بالنظام المصرفي الإسلامي الذي يأخذ فوائد على قروضه أكثر من البنوك التجارية ويعطي فوائد أقل للمودعين، ولا يمسيحون جميع أوجه الحياة. وفي المجال الاجتماعي لا تتصدى هذه المجتمعات للغزو الثقافي الذي يستهدف تدمير الهوية المسيحية للأمة ولو فعلوا ذلك لما تم بناء آلاف المساجد في امريكا ومثلها في اوروبا لأن مفردة الغزو غائبة ثقافيا وسياسيا ودينيا. العالم الحر ليس لديه غزوة الصناديق أو الغزو الفكري والثقافي لأن الأفكار تتصارع بحرية بدون تكفير أو انتقاص من ديانة الآخر، ولا تدعو أحزابه للإصلاح الشامل على أساس عقيدة الأمة وشريعتها المسيحية. وفي العالم الحر الناس سواسية ولا يوجد لديهم ما يسمى بأهل الحل والعقد الذين لم يتحرك أي منهم للحيلولة دون قطع الكهرباء وتفجير أنابيب النفط والغاز.
وأمين عام الحزب أو ما يسمى فيها بزعيم الحزب لا يشترط فيه أولا أن يكون متمسكا بالإنجيل، وثانيا يكون لديه من المعرفة الشرعية المسيحية ما يمكنه من أداء مهامه. والمرأة لها دور سياسي، ولا علاقة لها بالدعوة ولا يأتي ترتيب دائرتها في ذيل الدوائر الحزبية وشعار الأحزاب ليس كنيسة وإنجيلًا. والحزب لا يمارس مهمتين، الدعوة والسياسة، وليس لديه مليشيات مسلحة ويحترم في هذا العالم التنوع المذهبي والديني. وفوق كل ذلك ليس الماضي هو مرجعيته وبوصلته. ومن ينصف هذه المجتمعات بغض النظر عن سلبياتها العديدة يقول فورا: الإسلام هنا حيث المساواة، وهي من مبادئ الإسلام الأولية وسيادة القانون ومساواة الناس أمامه والنظافة والأمانة والصدق وحرية التعبير والاجتماع وحرية البحث العلمي ومساواة المرأة بالرجل وعدم التمييز على أساس العرق أو اللون أو المنطقة أو المذهب أو الدين وغياب التمييز الذي يجعل دية اللورد بأربع قبائل ويمسح الدين كله بإستيكة.
ما قاله اليدومي - إن كان يعنيه - خطوة نوعية كبيرة إلى الأمام وقد يُحدث هزة في فكر الإصلاح وممارساته. نحن لا نريد صالحًا آخر، لا يعني ما يقول، فقد كان صالح يتحدث عن الحرية والديمقراطية والوحدة والثورة والأمن والاستقرار، وهو يقوض كل هذه المعاني. وأخيرًا المجتمعات الحرة ليس فيها لا ولاء ولا براء ولا انفصام حاد بين القول والفعل