عبدالقادر باعيسى فجأة وبلا مقدمات كنت أمام خبر وفاته، انصدمت جدا ذلك لأن هاني مد أمامنا باختراعاته زمنا من الحياة، ومشى في مساراتنا النفسية بمحبة لأخلاقه واختراعاته، وككل كبير تساءلنا في أثناء فقده: هل يمكن أن يتكرر؟وكدار قديمة مخلوعةالأبواب والنوافذ بدا لي الحلمالذي يراودني أحيانا عن حضرموت.. الحلم الذي يجد طريقه إلى القبور كأي شيء في هذا البلد الطيب. كنت أحبه وأوده وألتقيه في الإذاعة أسبوعيا تقريبا لكنه لم يسمح لي بأن أعطيه قامته التي يستحق لشدة تواضعه، كان يقابل كل تقدير بانسحاب خاص إلى بساطته، لماذا لا يبقى منا سوى الركام؟ أحدث باختراعاته انعطافا علميا ونفسانيا في بلد متخلف، وكنت أتساءل أين يجري تجاربه العلمية الدقيقة في مدينة لا توجد بها مختبرات علمية دقيقة الأجهزة والقياس؟ هل هذه عبقرية أخرى؟ كان يدير مركز الهاشمي للإبداع، لكن المركز متواضع جدا.هاني باجعالة لحظة علمية وأخلاقية أكثر من أي شيء آخر، لحظة مغايرة كموجة خرجت من البحرواستقرت وحدها عاليا على جبل المكلا وتلاشت هناك بسرعة كساعته العملاقة التيأراد أن يراها فما رآها، فعاد سريعا إلى الأعماقكأنما يكتب جوهر الحياة في الموت. كان هاني قوي الإيمان بغايته،أراد أن يبدأ من حضرموت وينتهي بحضرموت رغم العروض الخارجية التي عرضت عليه،لكنه لن يبدع خارجها، سيشغله الحنين إليها، هاني من ذلك النمط من الحضارم الذى لا يكون حضرميا إلا في حضرموت، لا حضرميا في ألمانيا أو امريكا، بدءا من نبضة أول حجر في الشارع إلى أبعد موجة في البحر،كان وطنيا بطريقة تعلو فوق كل شعارات الوطنية، من السخف أن نربط الوطنية بالسياسة فنغدوأشبه بهياكلخارجية تفرغ من وطنيتهاحال انهيار الاتجاه أو الحزب! كان يستمد من حضرموت ما لا نراه فهي طاقة ناغرة في أعماقه لا تخزّن كما تخزّن امريكا الوقود، بل طاقة للتشغيل والتحريك، طاقة للدفع، هل يمكن قياس وطنيتنا على هذا الأساس؟المسألة شخصية جدا، مسألة ضمير، فلنجرب!. كان هاني باجعالة رحمه الله هبة إلهية لهذا البلد، ارتفعإلى مستوى الأسطورةفي تجاوزهللواقع،وقد بدأ مجد حضرموت العلمي يتحركبه لكنه قد يعود إلى الركود لولا أن ينهض زملاؤه وكل مبدع في مجاله، ولاأظنأحداينكر أن حضرموت بعد هاني باجعالة هي غير حضرموت قبله، وتلك هي سمة المبدعين الذين يحدثون تغيرا نوعيا في التاريخ ولو قصرت أعمارهم. أنشأ تجربته من الفراغ، واستطاع أن ينافس بها في الأروقة الدولية العلمية وأن يحوز على الذهبيات،فالإبداع تجربة حب لشيء ما، حب للذات أو للوطن أو لرضا الرب، وأظن هاني غير بعيد عن الأخيرتين، ومع كل نجاح كانت ترتفع حالة العشق واللوعةلديه ليبدع أكثر حتى أودى به العشق كما يقول الأقدمون. أظنهكان يحلم بالمكلا كرمز دال على حضرموت قبل أي مكان آخر، فكتب مشروعساعتهاالمنهارمرثيته قبل أن يموت، وكان ذلك متوقعا لأننا جعلناها تجربة فرد، لا تجربة جماعة، وهذه نقطة في غاية الخطورةحيث نصادر نحن مبدعينا ونصيبهم بنا قبل أي أحد آخر، ثم نبكي عليهم كعادة العرب البائدة..رحمه الله.ش