مقالة قصصية السائلة قدر ذو مستويين، الأول يَغرٍف منه أولو الهمم ولا يكتفون: أو كما يقال ( يغرف من سايلة)، الثاني:يغرق أصحابه في شبرين (سايلة).
القطرة الأولى تعيدني السائلة إليها كلما هطلت على أحجارها قطرات المطر، يأسرني منظر الاحتشاد المائي حين يأتي من كل حدبٍ وصوب، فأطل عليها بجنون من فوق أحد الجسور التي تقفز من ضفة إلى ضفة على امتداد مسارها، الذي كنت أظنه يمتد من جبالٍ تعانق الغيم إلى سهولٍ خضراء قبل أن أكتشف أنه ينتهي قرب رائحة مجاري المطار في منطقة بني الحارث !!!. الآن لم أعد أهتم أين يبدأ وأين ينتهي،فالمنطقة التي أواعدها عند الهطول هي تلك التي تمتد من جسر العرضي إلى الجسر المؤدي إلى شعوب، وهذه-الآن- المساحة التي أعترف بها من السايلة، ربما لأنها تزدان بخلفيةٍ رائعة من المعمار اليمني الفريد والرائد الذي تقوم بيوت صنعاء القديمة باستعراضه بما يشبه عرضاً عالمياً للإبداعات الهندسية، تتذوقها عينا العابر وروحه، وربما لأن هذه المساحة هي الأكثر حيوية، وربما لحدودها التي تمثل أماكن تحول، ميدان التحرير الذي يكفي أن تجتاز بعض المنازل غربي السائلة لتعيش أجواء أول طلقة دبابة أطلقت من أجل العدل والحرية والتطور.
القطرة الثانية السائلة بالنسبة لخيالي، حياة لا جبروت فيه،على عكس مياه الأنهار والبحار، التي لابد أن تمارس غضبها فتستحيل مقابر في بعض الأحيان، السايلة شريان ينبض بالحياة: الماء تمثل البلازما والسيارات المتنوعة كائناته,التي تحمل وتضع آمال وآلام العابرين اليومية.أحلق إلى الأعلى فتتراء لي مناظر جميلة واستمع إلى حكاياتٍ قديمة عجيبة:فكأنما سريانها يحرك مكنا هائلاً تتولد منه مدن باهرة,وأناس يتراقصون حباً وإخلاصاً,وحدائق يطير بداخلها أطفال لم أرى مثلهم أبداً..
القطرة الثالثة كل بنيان على الباني دليل.لابد وأن مشروع السايلة سيحسب للأمريكان، الذين لم يعد يحسب لهم بعد دخولهم العراق سوى عدد الأرواح التي تهدر، لكنهم هنا قاموا بتمويل المشروع، وتحويل السائلة من رمز للقمامة والقذارة إلى رمزٍ عصري للجمال الفني والوظيفي:تصريف مياه الأمطار والتخفيف من ازدحام الطرقات،أحجارها الصقيلة المتعرجة السطح،هدهدتها للركاب، أو( الرزوعة) كما يسميها ركاب الباصات والموتورات، هذه الهدهدة قد تجعلك تشعر منتشياً بأن الحجارة تمتلك روح الموجة فتحملك عليها، أو تثير إحباطاتك فتركلك أقدام السايلة حين لا يكون ماءا. القطرة الرابعة هل يمكن أن تغمز السائلة؟ هذا ما حدث لي، وأنا أطل عليها بعد يومٍ حافلٍ بالمتابعة، نعم ها هي تغمز بعينها اليمنى ثم اليسرى، أفرك عينيي حتى أتأكد بأن الغمزات وهمية، وأنها ليست منعكسةً لصورتي على صفحة الماء، أبحرت في عقلي الباطن-كما يقول علماء النفس- علي أجد أصلاً لهذا الخيال، لكني لا أجد شيئاً سوى المتابعات: يا إلهي كيف لم أفطن، هذه صورتي قبل سنين في صحبة الأصدقاء الذين كنت أظن أننا لا نفترق، ولكننا افترقنا ماذا أرى؟ إنهم يتغامزون من خلفي!! وها أنني في مكتب صديق طفولة والدي، المسئول الذي وعدني بإيجاد عملٍ، ولكن منذ سنين وهو لا يجده بالرغم من أنه يعطي توجيهاته لمدير مكتبه(مع الرعاية و الاهتمام)، وبالرغم من أنني أعطي مدير مكتبه (حقه) وحق الناس، يا إلهي هذا المسئول كان يغمز لمدير مكتبه (مع الرعاية و الاهتمام)، ومدير مكتبه كان يغمز للمختص(مع حقه)، كيف لم أكن أشاهد تلك الغمزات التي تنهال علي الآن كالمطر، ونكاد تغرق السايلة، وصنعاء كلها، أنني أرى وزراء ومثقفين ووطنيين وحكومة ومعارضة ومدقنين،الصحة، التعليم، التموين، مكافحة الفساد.. الكل يرجمني بغمزاته، وها هو المسئول يخبر والدي عن أسباب عدم توفيقي: - أبنك (ما بيتا بعش)؟ تابع..تابع، وأنا، من غمزة إلى غمزة، أتابع أوقفت أحلامي، وأحرقت كتبي كي أتابع، ألغيت الزمن من حياتي، كففت عن التفكير،وكالمجذوب ظللت أدور أحول نفسي وأتابع وأتابع، لكنها الغمزات،على عهرها كانت تمانع..
آخر قطرة فيما أنا أحدق في السائلة، لأكتشف من لم يغمز لي بعد،اكتشفت شيئا! تعلمون ماذا.. لا يوجد ماء في السائلة، الماء موجود فقط في عيني، وصوت أمي التي دائما ما تردد على أذني المثل الغابر:"يا طالب الرزق لا تطلب سوى العافية، الرزق مستاق مثل الماء بالسايلة".