الإهداء: للحزن العاصف.. شقية هي ذاكرتنا، حين تهب لنا قبسات من الزمان الماضي.. وقبيحة هي ذاكرتي أنا، حين أتذكره يلعب بالرمل تحت قدمي! دوماً عند الساحل كنا نلتقي. أمتطي أنا صهوة الأب الحازم، وهو يهيم في طفله الذي أقيده من رغباته المهلكة- أحياناً. صنع مرة قصراً من الرمال، ورصعه بالصدف، بينما نظرت أنا باستنكار إليه. - كفاك لعباً كالأطفال! غداً سأكون أضحوكة البشر! - يا ربي منك! العمر واحد ويكفي نكداً من الحياة. إعبث قليلاً بالرمل معي بدلاً من التذمر! كعادتي، لم أستمع له. بل بقيت أبتسم لنفسي. كابني هو. بل هو ابني الصغير الذي أخاف عليه حتى من تغيرات المناخ! ذات غروب، كان يرمي برمل القصر الذي بناه في زبد البحر. لم أسأله لِمَ، فتلك عادته حين يكون غارقاً في حزن وألم. وضعت كفي على كتفه، ((هيا لنرى أباك...)). نظر إليَّ والفراغ المتقد يلون عينيه، لم يجبني.. بقي فقط هامداً كالدمية، رشق البحر بالرمل مرة أخرى. ((دعني فقط أكتحل بالغروب، وأدعو له.. بعدها نعود))، قال ناظراً للسماء بتجهم. هززت رأسي موافقاً: ((لندع معاً)). عدنا في الليل، فكان أبوه هامداً على سريره دون روح. لم يبكِ سالم. كان يحدق في جثة أبيه وهو مبعثر. أغمض عيني أبيه، ثم أغمض عينيه طويلاً. و مرت الليلة دون عويل أو بكاء، حتى أتى الصباح ومشينا في الجنازة.. لم تطل من عيني سالم أي ردة فعل. لا يزال مبعثراً في لغز متاهته.. قال لي أبوه مرة: ((هو أخوك وأكثر.. ليس له بعد الله وأنا إلاكَ.. فهمت؟)). منذها أصبح ابني الصغير.. ولطالما ساءلت قلبي لم أحبه، فلم أجد سوى حيرتي المحضة تجيبني. قدم لي جذلاً ذات يوم.. بأعصاب مشدودة قلت: - ماذا حدث؟ - حصلت على الترقية التي طلبتها.. انكسرت ملامحي الوجلة، وصفعت ظهره بقوة مازحاً، فبقينا طوال اليوم نتمازح واحتفلنا عند الساحل. رماني برمله كالعادة، حتى حطمت قصره لأغيظه. صرخت بعدها رافعاً قدمي: - آي! أوجعني الصدف! - طبعاً! مَن حفر حفرة لأخيه.....؟ جاءني مرة للساحل متوقعاً أنني سأكون هناك. رآني كعادتي أنظر إلى الشفق الحزين بصمت. قال لي بهدوء: (( لنتشارك بعض الألم..؟)). تبسمت بسخرية، ((لأنك ابني ألمك ألمي..)). - سلوى تؤلمني! - ما بها أختك؟ - شعرتْ بالخجل في المدرسة اليوم لأنها لم تقوَ على دعوة زميلاتها لمنزلنا.. - حين تمر السنون يا سالم، ننسى آلاماً كهذه! تحشرجت دمعتان في عينيه، وأمسك كفي بحنو. ((أريدك ابني أنت أيضاً، حتى ولو كانت كفي ليست بدفئ هذه الكف!)) قال ضارباً كفي بخفة. تبسمتُ وصمت. لكم كبرت يا سالم حتى تجيد أبجدية الحنو! تذكرت حين أتاني بجريدة فيها مقال باسمه. لم يكن متحمساً كما يجب، و كأن هناك حسكاً قد مر بحلق فرحته. رمى برمل القصر في البحر، فقرأت المقال دون أن ننبس. ((فقدتَ عملك بسبب هذا؟)). لم يجبني، بل بقي يرمي بالرمل نحو البحر. (( لا يا سالم..المستقبل أهم..)). نظر إلي مندهشاً، قال محدقاً بقهر: ((تظنه مستقبلاً في ظل الظلام..؟! أخطأتَ اليوم!!)). ومن وقتها عمل في مكتب آخر حتى يحقق مستقبلاً "بلا ظلام". كان جميلاً يوم زفافه.. جماله كان في السعادة المرسومة على محياه. لم أكن أراه بعدها إلا للحظات في ساحلنا الهادر، فالحياة تسرقنا بأحداثها الكثيرة، حتى السعادة الصغيرة تسرقنا من أحزان دفناها تحت رمال القصر! لم أكن أراه، ولكنني رأيت زوجته وسلوى معه مرة بعد غياب، يشكوان عناده على نشر ما يحب في الصحف. لم أعترض، فقط اجتذبته، وبقينا معاً، أحاول أن أساعده في بناء قصر من الرمال لأول مرة. بقيت زوجته ترمقني كاتمة ضحكاتها. ((أصبحتَ ابن سالم!))، وتبسمتْ. *** هزني ابني وأنا ارمق الشفق البعيد.. بقيت عادتي على حالها لأنها كانت قطعة من روحي. - أبي...أبي!! - نعم..؟ - أكملت بناء القصر! ((لا تزعج أباك يا سالم..)) قالت زوجته سلوى. تجاهلها سالم، وجرني من يدي لأرى قصره. - ما رأيك؟ - جميل يا سالم.. دغدغتني دمعة. بدأ سالم يرشقني بالرمل! قلت لنفسي: ((كان هو أبي إذن..)).. حينها رميت برمل القصر إلى زبد البحر.. وبكيت. ......... * كوثر الشريفي- أصغر كاتبة قصة يمنية، 17 عاماً.