قائد الاحتلال اليمني في سيئون.. قواتنا حررت حضرموت من الإرهاب    هزتان ارضيتان تضربان محافظة ذمار    تراجع في كميات الهطول المطري والارصاد يحذر من الصواعق الرعدية وتدني الرؤية الافقية    باحث يمني يحصل على برأه اختراع في الهند    الكوليرا تدق ناقوس الخطر في عدن ومحافظات مجاورة    "الأول من مايو" العيد المأساة..!    غزوة القردعي ل شبوة لأطماع توسعية    الجنوب هو الخاسر منذ تشكيل مجلس القيادة الرئاسي    وقفات احتجاجية في مارب وتعز وحضرموت تندد باستمرار العدوان الصهيوني على غزة    احتراق باص نقل جماعي بين حضرموت ومارب    حكومة تتسول الديزل... والبلد حبلى بالثروات!    البيع الآجل في بقالات عدن بالريال السعودي    عنجهية العليمي آن لها ان توقف    الإصلاحيين أستغلوه: بائع الأسكريم آذى سكان قرية اللصب وتم منعه ولم يمتثل (خريطة)    من يصلح فساد الملح!    مدرسة بن سميط بشبام تستقبل دفعات 84 و85 لثانوية سيئون (صور)    تربوي: بعد ثلاثة عقود من العمل أبلغوني بتصفير راتبي ان لم استكمل النقص في ملفي الوظيفي    البرلماني بشر: تسييس التعليم سبب في تدني مستواه والوزارة لا تملك الحق في وقف تعليم الانجليزية    السامعي يهني عمال اليمن بعيدهم السنوي ويشيد بثابتهم وتقديمهم نموذج فريد في التحدي    السياغي: ابني معتقل في قسم شرطة مذبح منذ 10 أيام بدون مسوغ قانوني    شركة النفط بصنعاء توضح بشأن نفاذ مخزون الوقود    نجاة قيادي في المقاومة الوطنية من محاولة اغتيال بتعز    التكتل الوطني يدعو المجتمع الدولي إلى موقف أكثر حزماً تجاه أعمال الإرهاب والقرصنة الحوثية    مليشيا الحوثي الإرهابية تمنع سفن وقود مرخصة من مغادرة ميناء رأس عيسى بالحديدة    "الحوثي يغتال الطفولة"..حملة الكترونية تفضح مراكز الموت وتدعو الآباء للحفاظ على أبنائهم    شاهد.. ردة فعل كريستيانو رونالدو عقب فشل النصر في التأهل لنهائي دوري أبطال آسيا    نتائج المقاتلين العرب في بطولة "ون" في شهر نيسان/أبريل    النصر يودع آسيا عبر بوابة كاواساكي الياباني    اختتام البطولة النسائية المفتوحة للآيكيدو بالسعودية    وفاة امرأة وجنينها بسبب انقطاع الكهرباء في عدن    هزة ارضية تضرب ريمة واخرى في خليج عدن    هل سيقدم ابناء تهامة كباش فداء..؟    سوريا ترد على ثمانية مطالب أميركية في رسالة أبريل    صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    مباحثات سعودية روسية بشان اليمن والسفارة تعلن اصابة بحارة روس بغارة امريكية وتكشف وضعهم الصحي    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    جازم العريقي .. قدوة ومثال    غريم الشعب اليمني    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



(( كسوف شمس)) .. قصة كوثر عبد الواحد
نشر في نبأ نيوز يوم 13 - 10 - 2006

راقب القبو المغلق الذي كان محبوساً فيه. حاول مراقبة شمس الغروب المحتضرة، و لكن النافذة كانت أصغر من أن يستطيع رؤيتها بشكل كامل.كان شعاع الغروب البرتقالي بضيائها، و لكن الظلام في ساعات الغروب الأخيرة ينهش النور المتبقي.
الروائح كانت نتنة لهواء محبوس خضعت له رئتاه لعدم وجود غيره.. سرت قشعريرة في بدنه من برودة الأرض، ومن الوحشة التي كانت تنشر سمها في جسده تدريجاً، وهو لا يزال مستسلماً لها.. تحسس ذقنه الذي كان الشعر يغزوه من كل جانب، ووجهه الشاحب كوجوه الأشباح المخيفة.. اغرورقت عيناه بالدموع... هل مصيره أن يبقى هنا يموت ببطء؟! مرر أصابعه على خصلات شعره المبعثر، قارن بين خصلات شعره وخصلات شعر زميله العجوز فوجد أن لا فرق بينهما! الزمن يرجع الشعر الأسود إلى أبيض.. الإنسان السوي إلى أحدب..
رمقه فوجده نائماً على فرشه القاسي، ووجهه مغطى بقبعة السجن. لم يرد إزعاجه؛ فقد أزعجه كثيراً في الأيام الأخيرة بالأسئلة عن مصير يخبؤه الغيب، وأمور لم يستطع استيعابها بعد.. قام من الأرض، و اتجه نحو الباب ذو القضبان الحديدية.. وضع كفيه عليه، ورجها بعنف ثم بدأ يصرخ: ((أيها الضابط.. أيها الضابط!)).
سمع محمد وقع خطى غليظة تتقدم نحوه.. رفع الضابط رأسه و قال بنبرة غاضبة:
- ماذا تريد أيها المزعج؟!
- أريد طعاماً و شراباً..
- ألم تأكل قبل ساعتين فقط؟!
- أرجوك.. فمعدتي تتآكل من الجوع..
- ألم يكن ذلك الوقت كافياً حتى تملأها بالطعام؟!
- لا.. شاب مثلي يحتاج لأكثر من ذلك..
ضحك محمد بعد جملته الأخيرة بسخرية و قال لنفسه: ((مع أنني أشعر في هذا المكان بأنني تخطيت الزمن فأصبحت شيخاً هرماً!)).
قال بعدها للضابط بعينين متوسلتين:
((أليس عندك أولاد؟! أرجوك أن تعطيني ما آكله ، و إلا فالجوع لن يرحمني..))
شعر الضابط أخيراً بالشفقة نحوه. حاول التمسك بشظايا رداء القسوة ولكنها أفلتت منه. لا يزال يحمل بعض الرحمة خلف ذلك المظهر الغليظ. "الأولاد".. تلك الكلمة التي كانت بمثابة صفعة أعادت له نفسه الإنسانية. أولاده الآن بالطبع يأكلون ما يخطر على بالهم في المنزل. فكر في عقله.. لا نحس بالجوعى إلا حينما نجوع.. و لا بالعطشى إلا حينما نعطش.. ولا بالمرضى إلا عند المرض.. هكذا ابن آدم، ليس يملك قضية أكبر من (أنا)! تفحص المكان بعينيه، فلم يجد سوى خبز يابس، و جبنة ناشفة، و كوباً من الماء، قدمها لمحمد الذي شكره بامتنان وحمل الطعام إلى فرشه. قرب الخبز إلى شفتيه المتشققتين. قضم قضمة صغيرة وبدأ يطحن الخبز بين أسنانه. تذكر خبز أمه الشهي الذي كانت تعده له، فتنهد بحرقة!
شرب الماء الذي بلل ريقه الجاف، ثم تمدد على فرشه وأخذ يتذكر سنوات عمره. عبقها لا يزال عالقاً بذاكرته... ربما طغى الصَبر على التمر فيها!
((سبحان الله.. كيف تتحول الأيام إلى ذكريات.. و الماء إلى سراب..)) فكر في عقله، كل هذا الوقت الذي قضاه هنا كان كفيلاً بأن يجعله يألف هذه الحياة الجديدة.
سمع فجأة نداء الحق يعلو، فقام يلتمس ماء يتوضأ به. لقد أراد الصلاة، فهي كالبلسم تشفي جروحه، والمسكن لأنين روحه.. هي التي ساعدته في هذه الأيام أن يمضي قدماً رغم العقبات، و يستمر في الصعود رغم المرتفعات. رب ضارة نافعة- كما يقولون- فهذه الأحداث أردته أكثر قرباً من الله تعالى. شعر بلطفه و حنوه عليه.. سبحان الله! كيف لم يشعر بهذا من قبل! كثيراً ما تجعلنا المصائب نصحو من غفواتنا. خانته الدموع فشرع في البكاء بصوت خافت. تذكر كفاح نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم – في إيصال الدعوة. كل هذا، لإيمانه بواحد أحد من فوق سبع سموات يسمع دعاءه في جوف الليل البهيم، و إجتهاداته حتى تورم القدمين. ما هو إلا قطرة وسط بحر التضحيات التي قدمها أطهر الخلق، و ما هو إلا نقطة وسط صفحات الكروب التي عاناها ومرت به. ربما اختير له اسم محمد ليتذكر محمداً العظيم. النجم الذي علا.. بل الشمس التي أضاءت العالم بأسره. صلى المغرب، و أيقظ زميله أبو بكر للصلاة. عاد كل منهما بعدها إلى فرشه.
بقي محمد بعدها يفكر ويفكر، ويتفحص الأحداث التي مرت به، حتى وجد المكان يصبح مظلماً لا يتخلله سوى بصيص فضي من نور القمر من تلك النافذة الصغيرة. التفت فوجد عيني زميله العجوز تتلألآن تحت ذلك النور. قرأ محمد وسط سطور عيني العم أبو بكر تلك الكلمات التي بللت شفتيه ذلك اليوم. فالاعتراف في بعض الأحيان والتحدث يخيفان أنياب الوحشة والغربة.
((يا بني..ماذا أقول لك عن غلطة بسيطة ساذجة كان ثمنها الحرية؟! متطلبات هذه الحياة أرغمتني على إتباع الخطوات التي أخطوها دائماً... ولكن.. ليس في كل مرة تسلم الجرة!)).
قال العم أبو بكر في تلك الليلة الدامسة بحسرة: ((لم أدرك أن ثمن خبز أكله أطفالي سيكون باهضاً إلى هذا الحد)).
تابع بعد صمت طويل و كأنه يجمع أشلاء ذاكرته المنثورة: ((كنت أعمل كموزع في شركة لتوزيع المأكولات. كنت ربما أحصل على ما قد لا يسد الرمق، و لكن العمولات كانت تسد الناقص. كان من مهامي توزيع المأكولات للمطاعم والمحال الصغيرة، وأقبض منهم بعدها وصل مع الختم على أن يقوموا بالدفع بعد فترة بسيطة تقل عن شهر. كما أنه من عادتي – إذا تأزمت الأمور- أن أقوم بأخذ بعض المأكولات لأولادي، فتخصم الشركة المال على هذه المأكولات من راتبي.
إحدى الشهور، قمت بتوزيع بعض البضائع بكميات كبيرة على بعض المحال، واستلفت القليل من المأكولات لأطفالي حتى قدوم نهاية الشهر..)).
صمت لبرهة.. ثم مسح وجهه بعصبية وأكمل: (( اختفى المستلفون ولم أرهم من اليوم الذي قاموا باستلاف البضاعة فيه. بحثت عنهم في كل مكان ولكن بلا جدوى. قدم المدير بعدها إلي ونظر إلى الوصل الذي قاموا بإعطائي إياه، و كان قد علم بأمر اختفائهم، فحملني مسئولية ذلك، وطلب مني تسديد ثمن ما قاموا باستلافه، وما قمت بأخذه. شرحت له بأني لا أملك شيئاً، وأنني كنت معتمداً على راتبي، لكنه لم يتفهم، وأصبح مصيري في هذا المكان..)).
في تلك اللحظة، شعر محمد أنه لم يكن ضحية لوحده ، بل هناك الكثير من الضحايا وسط هذا العالم أجمع.
((كم عدد أبنائك؟))؛ سأل محمد بأسى.
- ثمانية.
- و ما مصيرهم؟!
- لا تقلق؛ فأخي يتولى رعايتهم قدر الإمكان رغم كثرة أطفاله. كما أن اثنين من أولادي اضطروا لترك المدرسة ويعملان الآن، و زوجتي تخيط الملابس لدعم الأسرة.. فالحال مستور والحمد لله.
صمت محمد و لم ينبس بكلمة. إلى متى سيظل هنا وزميله العجوز؟! كان أمله كبيراً في أن شمس الحقيقة ستظهر يوماً و لو أخفتها الغيوم.. فهي موجودة، ولا بد من أن هذه الغيوم ستنقشع يوماً ما.
قاطع أفكاره سؤال زميله: ((لم تقل لي، ما اسمك يا بني؟)). ابتسم محمد بتكلف و أجاب:
- محمد
- اسمك جميل.. أتعلم معناه؟!
- نعم..
- جميل.. الملايين من المسلمين يسمون ((محمد))، ولم يدركوا يوماً معنى هذا الاسم الجليل..
أجابه محمد بابتسامة صادقة هذه المرة. شعر ببعض الاطمئنان لوجود هذا العجوز معه. ربما لأنه يذكره بأبيه قليلاً رغم أنه لا يذكر أباه كثيراً. في بعض الأحيان تشكل لنا كلمات من أمامنا شخصيته من دون أن نشعر. سأله أبو بكر مرة أخرى: ((شاب مثلك يا بني.. ما الذي أدخله هنا؟!)). ضحك محمد و الدموع تترقرق في عينيه: ((الظلم يا عماه.. الظلم!)).
اقترب العجوز ذو الملامح التقية من محمد، ووضع كفه المجعدة على خصلات شعره. ربت بعدها على كتفه وقال: (( وما هو الظلم الذي وقع عليك؟)).
تنهد محمد بحرقة، ثم ضحك محاولاً إخفاء عبراته. مسحها على عجل و كأنها تخل بكبريائه كرجل، ثم بدأ يحكي قصته:
(( أنا و أخي و أختي الصغرى هي كل ما تملكه والدتي من أبناء.. والدي توفي وعمري لم يتجاوز الخامسة، ووالدتي تعمل في وظيفة بسيطة في إحدى الوزارات حتى تعولنا جميعاً. كنت في يوم من الأيام ذاهب إلى الكلية مشياً لقربها من المنزل..)). قاطعه العم أبو بكر قائلاً:
- و في أي سنة أنت؟ وفي أي كلية؟
- في السنة الثانية في كلية الحقوق.
ضحك بعدها العجوز بسخرية، ودارت في عقله مشاهد متناقضة نسجتها هذه الحياة. تارة يرى محمداً محام يدافع عن الأبرياء والمظلومين، وتارة في قفص الاتهام. قال محمد رافعاً حاجبيه:
- ما يضحكك يا عماه؟!
- هه؟! لا شيء يا بني.. تابع، تابع..
بلع محمد ريقه وتابع:
- في طريقي إلى الكلية، وجدت أربعة رجال يتشاجرون، وقد كان اثنان منهما ينزفان بشدة حتى امتلأ الطريق بدميهما. أردت الذهاب في سبيلي راكضاً من هذا المنظر المروع، ولكن الطريق كانت مسدودة بسبب شجارهم. خلال دقائق وجدت رجال الشرطة يجهزون علي، و يقيدونني مع الأربعة الآخرين مقتادين بنا إلى هنا. بدأت أصرخ محاولاً أن أسألهم عن سبب فعلهم هذا، ولكنهم تجاهلوا صراخي بكلمات لم أفهمها. أدخلوني إلى القسم بعدها، وحاولت شرح وجودي في ذاك الحادث، ولكن لا حياة لمن تنادي، حتى وجدت نفسي هنا بهذه الملابس، وفي هذا المكان الكئيب، ومع هذا الطعام الذي يعصى على المعدة هضمه)).
صمت محمد و كأنه يرى ذلك اليوم أمام عينيه. قال له أبو بكر مهوناً عليه: ((يا بني.. الله العادل.. فإنك إن رنوت إلى العدالة المطلقة فلن تجدها إلا عند الحق تعالى.. ولكن قل لي.. ما حال أخيك الآن؟ هل حاول التحدث مع قسم الشرطة؟)).
رد عليه محمد: ((نعم، فهو يحاول إخراجي من هنا ولكن لم يسمعه أحد..)).
أفاق محمد فجأة من هيمانه في كل تلك الأحداث التي مرت حينما تحسست طبلة أذنه صوت العم أبي بكر. التفت نحوه، فوجده ينظر إليه. ((فيم تفكر؟)) قال العم أبو بكر متسائلاً. ((الكثير.. ولكن لا عليك..)).
و أسدل الصمت أستاره عليهما مرة أخرى. كانت لغة الصمت هي اللغة الجارية بينهما معظم الأحيان. فالصمت أبلغ من الكلمات الكثيرة أحياناً.
تمنى محمد لو أن السنوات تطوى في غمضة عين فيجد نفسه خارج هذا المكان المكفهر بملامحه، و الردئ بأجوائه. رنا نحو نجمة صغيرة احتوتها تلك النافذة الكئيبة. أراد أن يكون مكانها ليلة فقط يراقب الأرض ويستنشق هواء جديداً. أغمض عينيه واستسلم للنوم حتى ينسى هذا اليوم، وهذه الليلة التي كمثلها من الليالي المهيبة، خلال هذا العام الذي يبدو وكأنه قرن من الزمن!
وطويت صفحات من عمر محمد، فمضت شهور حتى أتى رجل يغزو البياض شعره، وبدأت التجاعيد تحفر وجهه. مر الرجل بالسجون الكثيرة حتى وصل إلى الزنزانة التي مكث فيها محمد. ((أين أجد محمداً؟)) قال بحنو. أجاب محمد وعلامات التعجب تغزو ملامحه:
- أنا محمد..ماذا تريد مني؟!
- أريد أن أجعل القاضي يحكم ببراءتك.
- ماذا؟! لا أفهم .. من أنت؟!
- غير هام الآن أن تعرف من أنا.. أردت فقط إعلامك بأن ملف قضيتك سيفتح غداً، وستكون في قاعة المحكمة حتى أدافع عنك.
- ولكن..
بلع محمد ريقه ثم تابع: (( و لكن من أرسلك؟! ليس لدي ما أجازيك به.. كما.. كما أن والدتي لا تستطيع أيضاً دفع أجرك.. و..)).
قاطع المحامي عمر كلام محمد، وقال بحزم: ((لن تحتاج لأن تعطيني شيئاً يا بني. أريدك فقط أن تعلم أنك بإذن الله ستخرج من هذا السجن)).
رفع المحامي عمر حقيبته من الأرض، وودع محمداً الذي بقي متسمراً في مكانه لعدة دقائق. ترى.. هل ستنتهي شهور التجلد والصبر هذه؟! وما الذي أتى بمحام كهذا ليدافع عنه؟! نظر إلى العم أبو بكر عله يجد جواباً يسكت الأسئلة التي دارت في رأسه، ولكن العم كان يغط في النوم- على ما يبدو.
رنت في أذنيه كلمات المحامي. ((سأدافع عنك)).. لا يزال هناك خير في هذه الحياة. إنه درة من درر قاع البحر، لا جيفة من جيفه العائمة- كما قال الشافعي.
تذكر البحث الذي قام به أحد الباحثين عن السجناء وقصصهم، وتذكر تحدث الضابط مع أحد الباحثين بعد سماع قصته. هل هناك رابط بين هذا و ذاك؟! ربما هو الذي تكفل بقضيته. صمت وغاص في أفكاره حتى غابت الشمس.
في اليوم التالي، وجد نفسه وراء قضبان جديدة في قاعة المحاكمة. شرع المحامي عمر في الكلام موضحاً مبرراته للدفاع عن محمد. قال والدم يغلي في عروقه: ((كيف تكتب محكمة على بابها آية كريمة طاهرة تقول: ((و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل))، وفي جوفها أناس مظلومون كهذا الشاب الذي كان ذنبه الوحيد أنه كان وسط تلك المشاجرة، سائر في حاله إلى كليته؟! أين العدالة في تضييع سنوات شاب لا يزال في عمر الزهور؟)).
وضع محمد كفيه على القضبان، وغرز رأسه بينها وكأن أذنيه تريدان سماع كل كلمة. أجلت الجلسة لبعد يومين، واستمرت بعدها جلسات عدة، حتى أتى اليوم الذي رأى محمد فيه الشمس بعد غياب سنة وأشهر عدة. تنفس الصعداء في ذلك اليوم، و بلل رؤوس أمه وأخيه وأخته بدموعه، وكأنه خرج من ثقب أسود إلى نور بازغ.
في إحدى الأيام، وطأت قدمه كليته وقلبه يكاد يختلج من الدم وسرعة النبض. داعبت حبيبات من العرق جبينه من التوتر الذي ترصده من كل جانب. بدأ يخطو، وكاد أن يتعثر أكثر من مرة.. استقبله أكثر أصدقائه ببرود تام، ولكنه لم يحزن، فقد علمته الأيام أن إخوان الرخاء ليسوا عدة في الشدة. إنهم فقط زينة لتكمل المشهد، لا سلماً عند صعود المصاعب. الكثير من التعليقات الجارحة انهالت عليه كوابل من الحجارة التي أدمت قلبه، ولكن إيمانه بهدفه، ولرؤيته لمركزه في المستقبل، كان يجعله ينسى كل هذه التعليقات كما ينخل الدقيق!
كل يوم كان يرى الأعين المتطفلة تحيط به، والضحكات الساخرة تسخر منه، و كلما أراد الانهيار، تذكر ذلك الغصن الرفيع الذي تلويه الرياح يمنة ويسرة، ولكنه يبقى صامداً حتى النهاية لا يتكسر. كان في بعض الأحيان يزور صديقه الجديد الوفي العم أبي بكر، ولكن الدراسة والحياة ومشاغلها، شغلته عنه لوقت طويل.
وجد نفسه أخيراً يحقق هدفه ، ويرتدي زي التخرج والنجاح، ليبدأ في العمل مع المحامي عمر الذي عينه في مكتبه. و بينما هو غارق في إحدى قضاياه، تذكر صديقه صاحب المظلمة العم أبي بكر، فذهب إلى السجن ليسأل عنه. دخل السجن فوجد أنه قد عين ضابط جديد. قال وهو يلهث من كثرة مشيه:
- هل هناك سجين هنا اسمه أبو بكر؟
- لا لم أسمع به..
- أرجوك.. هل أنت متأكد؟!
حك الضابط رأسه وأجاب:
- منذ متى وهو هنا؟
- منذ 5 سنوات تقريباً..
ابتسم الضابط وأجاب بشفقة: ((يا أخي.. أنت تبحث عن إبرة وسط كومة قش!)). لم ينتظر محمد مزيداً من كلام الضابط، فذهب إلى مكتب الضابط المسئول عن ملفات السجناء وأخذ يسأل عن العم أبي بكر. تجاهله الضابط، وتظاهر بعدم سماعه.. كرر محمد سؤاله بعصبية، فأجاب الضابط بتضجر:
- يا أخي.. ليس لدي وقت حتى أبحث عن السجناء! رافقتك السلامة!
- أرجوك..دعني أبحث بنفسي..
- أتظن أنك في سوق؟! هنا قوانين و لوائح! أرجو منك الانصراف حتى أكمل عملي.
خرج محمد من القسم مكسور الخاطر. كان في حالة من الذهول والحزن. أيعقل أن يفلت حلمه بحكم براءة العم في غمضة عين؟! نظر إلى السماء، فوجد السحب تغطي الشمس. قال لنفسه برجاء: ((لا بد أن تنقشع غيوم الظلم والخداع يوماً..)).
ومن هنا بدأ مشوار التنقيب.. التنقيب عن كيان علم محمداً الكثير، و غطى فيه نقصاً سببه من قبل وفاة أبيه.
* كوثر عبد الواحد.. قلم شبابي، وموهبة أدبية رائعة ظلت متوارية خلف كواليس الساحة الأدبية اليمنية، و"نبأ نيوز" تتشرف بتقديمها للساحة الأدبية.. وترحب بكل الأقلام والمواهب المبدعة لتقديم نتاجاتهم عبر "نبأ نيوز".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.