( 1 ) يستيقظ صباحا، أو لو أردنا الدقة، فهو يستيقظ قرب الظهيرة.. ينتابه أول ما ينتابه صداع خفيف من أثر سهرة الليلة السابقة فيتناول دواءا مسكنا أوصى به أحد أصدقائه في أمريكا.. ينهض ليستحم ويشعر بالانتعاش ويعود للاسترخاء على السرير حيث تقدم له زوجته الجديدة الشابة إفطاره الذي يحتوي على الكثير من البروتينات، يبستم لها في فرح ويسري خدر لذيذ في جسده وهو يتخيل الرحلة التي سيقومان بها إلى باريس حال استلامه ل(الكوميشن) القادم، ينهض ليرتدي بمساعدة زوجته إحدى بذلاته الفاخرة.. يدس في جيب تلفونه السيار وفي الجيب الآخر علبة السيجار وفي الجيب الداخلي محفظة النقود.. يخرج إلى الفناء حيث يهرع السائق بالسيارة "المونيكا" لإيصاله للوزارة.. الفناء مليء بالسيارات الأكثر فخامة ولكنه يذهب للوزارة فقط بالمونيكا والسبب معروف.. لكسر عين الحسود! ( 2) يستيقظ صباحا، ولو شئنا الدقة فهو يستيقظ فجراً، ليتوضأ بماء بارد يزيل أي اثر للنوم ويترك فقط ألما حادا في جميع أطرافه.. يصلي الفجر ويدعو الله أن يشفي زوجته المريضة.. يدعوه وهو يسمع صوت سعالها يكاد أن يقتلع رئتيها فيزداد دعاؤه حرارة.. ينهي صلاته ليجدها وبرغم مرضها قد أعدت إفطارا مكونا من بيضتين و قطعة خبز يابس يثير الشفقة، وبرغم أن ضوء الصباح مازال بسيطا إلا أنهما يتناولان الإفطار دون إشعال الضوء فلقد تعلم أن ميزانيته لا تستقيم إلا بالانتباه حتى لصغائر الأمور.. تناول إفطاره وهو يمازح زوجته محاولا التخفيف من ألمها وضحكت طويلا لمداعبته إلا أن نوبة سعال شديدة قطعت ضحكتها فغادر البيت سريعا ودمعة حارة تسيل على خده. تذكر كم كان وجهها جميلا وكم غيره الفقر والمرض الذي وسمها بنحول مخيف.. وقف على الشارع في انتظار "دباب" يقله إلى عمله، كان يحتاج إلى تغير الدباب ثلاث مرات ليصل إلى الوزارة وبرغم أنه يقوم بهذه الرحلة يوميا إلا أنه لم يعتد عليها قط وظل الزحام والانتظار هما يوميا.. عند بوابة الوزارة ردد في سره آيات من القرآن كما أوصته زوجته كثيرا فلقد كان "الكوت" جديداً، والحذاء أيضا جديدا.. لذا أصبح من الضروري.. كسر عين الحسود!. ( 1 ) عاد إلى منزله وهو في شدة الضيق من الشمس الحارة وبرغم أن المكيف كان يلطف له الجو في السيارة إلا أنه اضطر للوقوف وسط الشمس للحديث مع أحد كبار الموظفين.. فتحت له الخادمة الآسيوية الباب ليلتقط أنفه فورا رائحة الغداء فابتسم في سرور وهو يربت على كرشه.. وبعد أن أخذ دشا منعشا وتناول غداءه جلس ليمضغ القات مع أصدقائه.. تناول حديثهم ما سمعوه عن زميل لهم بأنه سرق مبلغا "أكبر من اللازم" ولم يقم بتغطية الموضوع جيدا وأثناء المقيل انضم إليهم هذا الزميل فمازحوه بالكثير من العبارات مثل "والله انك مش بسيط" و "والله انك طلعت ذيب".. فأجابهم وفمه يملأه القات ويضغط على عينه التي أصبحت نصف مغلقة بعبارات مليئة بالفخر مثل "إن سرقت أسرق جمل"، شارحا ضرورة أن يكون الإنسان "أحمر عين" في هذا الزمن.. وعلق صاحبنا تعليقا أنهى به الموضوع قائلا بحكمة متناهية "من يقول انه يعيش من راتبه فهو كذاب.. ولكن أكل وقم بتأكيل الآخرين" آمن الجميع على كلامه في احترام وانتقل الحديث إلى مواضيع أخرى منها انتقاد الفساد وضرورة تفعيل هيئة مكافحته وعمل آلية لمعاقبة الفاسدين.. وبعد أن تخلصوا من القات بدأت جلسة من نوع آخر وحديث من نوع آخر أكثر إمتاعا وأنسا.. في النهاية ذهب للنوم وهو في قمة السعادة، استلقى على سريره وهو ينظر إلى زوجته ويقول بلسان ثقيل: باريس.. ما أحلى باريس. ( 2) عاد إلى منزله وهو يحمد الله في سعادة على أنه انتبه في آخر لحظة ووثب بعيدا قبل أن تدهسه تلك السيارة المسرعة.. نزع ثيابه المبتلة تماما بالعرق وقبّل زوجته على رأسها في حب وداعبها مجاملا قائلا "ما أشهى رائحة طبيخك"، ثم قطب سريعا منتبها إلى سماجة مزحته فلم يكن هناك أصلا رائحة للأكل في البيت إذ أن الغداء كان عبارة عن علبة من التونة وزبادي وخبز. تناول الغداء في امتنان حقيقي وخرج سريعا إلى بيت ابن خاله حيث دعاه لتناول القات وفي بيت ابن خاله دار الحديث مع الأصدقاء.. حديث تناول كعادة المخزنين كل الهموم ابتداء من الطرقات المليئة بالحفر وصولا إلى المشاكل السياسية بين الأحزاب منتهيا بصمت بليد.. إلا أن موضوعا استوقفه وظل يفكر فيه بقية المقيل وهو حديث أحد المخزنين عن مستشفى في حجة تصل إليه بعثة أطباء ممتازين من الخارج وقد عالجوا وساعدوا الكثيرين بأسعار رمزية للغاية.. ظل يفكر في الموضوع والقات يقوم بدوره في تهويل الأمر في رأسه وعندما هم بالانصراف تحدث مع صديقه على انفراد طالبا المزيد من التفاصيل.. وصل إلى بيته وكان يحرص على أن يصلي في الليل ولو ركعتين ولكنه في تلك الليلة صلى أكثر الليل ودعى الله كثيرا وتذكر أثناء الدعاء أن هناك مكافأة راتب كامل وعدت به الحكومة ومن المفروض أن يستلمها الموظفون خلال أسبوع.. انفرجت أساريره إلى حد ما، وذهب ليستلقي على سريره ابتسم لزوجته التي كانت تقرأ من كتاب الله، وقال لها في صوت حاول أن يجعله مرحا ولكنه خرج أشبه بالبكاء: "ادعي الله في صلاتك أن يوصلنا حجة". ( 1 ) و ( 2 ) "يا أستاذي أرجوك".. قالها في قهر ونظر إلى اللوحة الصغيرة على المكتب التي توضح اسم ومنصب الشخص الذي يحدثه فأغمض عينه وحاول السيطرة على غضبه ثم استطرد: إن الأمر الذي جاءكم واضح وصريح كما أنه جاء لكل المصالح الحكومية مكافأة شهر لكل موظف.. أجابه الجالس على المكتب دون ان ينظر إليه وهو يقرأ في أوراق كثيرة أمامه: "قلنا لكم ألف مرة أن المكافأة ليست لكل الجهات ونحن من الجهات التي لم يخصص لها مكافأة، لأننا سيخصص لنا مكافأة أكبر في بداية السنة".. حاول السيطرة على أعصابه ولكنه لم يستطع فصاح في انفعال: "يا أستاذ هذا كثير كلنا يعرف أن كل الجهات حصلت على المكافأة، أرجوك زوجتي مريضة وأنا أحتاج لهذا المبلغ, قام الرجل من مقعده في عصبية شديدة ورمى الأوراق في وجه محدثه مطلقا مجموعة من الألفاظ النابية ثم طرده من مكتبه وهو يلاحقه بالصياح: ما افعل لك لو مرتك مريضة؟ ما رأيك أزيد اصرف عليك أنت ومرتك.. خرج مكسورا مهزوما يشعر أن الدنيا تجثم على صدره وأن العالم كله يعاديه مدركا أن هذا الموقف سيكون له تبعات وعقوبات كان في غنى عنها وفي تلك اللحظة شعر أن حجة بعيدة.. بعيدة جدا.. ولم يدر لماذا دوى في أذنيه صوت سعال زوجته. بعد أن طرد الموظف جلس على كرسيه الفخم ووجهه محمر، فقد غضب فعلا وليس تمثيلا فكم يغضبه "لقانة" وطول لسان بعض الموظفين.. أمسك بيده ورقة رسمية عليها أسماء الموظفين وأمام كل اسم مبلغ المكافأة ناول الورقة إلى المدير المالي الذي كان يجلس أمامه قائلا له في هدوء وحزم: "تعرف طبعا رقم الحساب الذي يجب عليك أن تضع فيه المبلغ".. هز المدير رأسه في احترام بالغ وغادر الغرفة.. استرخى الرجل على مقعده، ونظر إلى تذاكر الطائرة التي اشتراها سكرتيره.. ابتسم في سرور ورضا وتمتم: "باريس.. ما أجمل باريس!!" [email protected]