من حق كل شعب ومن حق كل أمة بل من واجبها أن تعتز بأصالة ماضيها وعراقة جذورها ، لكن المبالغة في التغني بالأمجاد الغابرة هو في أحد دلالاته مؤشر على عقدة تخلف كامنة تعكس حقيقة أن هذا المجتمع هو من أقل المجتمعات إنتاجاً ومن أكثرها كسلاً وخمولاً ، وتُعد المجتمعات العربية بشكل عام نموذج مثالي على هذه الحالة ، فبلد مثل مصر وهو وجه العرب يحكي لنا تأريخه أنه إنفتح على الغرب وعلى الثورة الصناعية قبل الصين وغيرها لكنه لم يحقق حتى الآن أي تقدم أو إنجاز حقيقي يُعتد به ، وأين هي الصين وأين هي مصر. ورغم أن النخبة الثقافية والسياسية في بلادنا اليمن – كغيرها من الدول العربية - كانت ولازالت مغرمة نوعاً ما بالنموذج المصري في التقدم العلمي النسبي والنظم السياسية القائمة على الشكل الجمهوري الثوري إلا أن إنعكاس عقدة التخلف موجودة لدى الجميع، ففي الوقت الذي نزهد نحن العرب في دعم البحوث العلمية الإبتكارية التي قد تضيف شيئاً ما للإنسانية، نكون أكثر إحتفاءً بأي دراسة تكون مهتمة بشأن غير مفيد أو بشيء متعلق بالماضي؟ الحقيقة التي لا يمكن لأحد أن يكابر حولها أن اليمن هي من أقل الدول إهتماماً بشؤون البحث العلمي والباحثين وإن أغلب المخترعين والمبتكرين والمبدعين اليمنيين الذين نسمع عن إنجازاتهم هنا وهناك بين حين وآخر لم يصلوا لما وصلوا إليه إلا بجهود فردية ذاتية، أو بتبني جهات خارجية لإبداعاتهم ، ونادراً ما تكون الدولة هي المحتضنة لهم، وقد جرت العادة حينما يظهر نابغة في اليمن ويقدم للمجتمع أفكار جديدة حول علوم تقنية أو إكتشافية فإنه لا يؤبه له ولا يجري الإهتمام به وفي أحسن الأحوال يجري تشجيعه ودعمه معنوياً فقط، وغالباً ما يتخلى عن أفكاره وأهدافه ويضرب صفحاً عنها منخرطاً في هموم المجتمع وإن كان البعض ينطوي على نفسه أو يصاب بهلوسات نفسية والبعض منهم ينتظر أقرب فرصة ليخرج خلف الحدود إلى أوروبا أو أمريكا ليقدروا ما لديه ويدعموه.
قرأت بالأمس موضوع الدراسة التي توصل لها عميد كلية الطب باليمن الدكتور علي محمد الميري، التي عرضها يوم الثلاثاء 25/ نوفمبر، والتي توصل فيها إلى أن اليمن هي موطن الإنسان الأول.. وليسمح لي القارئ قبل أن أعلق على كلام الدكتور أن أنقل طرفة يتداولها اليمنيون منذ سنين تقول الطرفة: أن أحد أفراد العصر الحجري خرج من قبره ليبحث عن أولاده في أرجاء الكرة الأرضية فوجد التطور العمراني والتقدم الموجود في كل الدول وحين وصل اليمن قال: هؤلاء هم أولادي؟ لأنهم ما زالوا كما هم لم يتغيروا ولم يتطوروا؟ ومع ما في هذه الطرفة من إجحاف بما قد حصل من تقدم نسبي في اليمن إلا أنني لا أدري لماذا تذكرتها عند قراءتي لخبر الدكتور الميري. بغض النظر عن كل شيء فإن الاحتفاء بهذا الدراسة وتخصيص ندوات لها هو بنظري داخل في إطار عقدة التخلف التي أشرت إليها، فلا أدري ما هي الفوائد العملية والنتائج المثمرة العائدة على اليمن واليمنيين من هكذا اكتشاف مع احترامنا واعتزازنا بالدكتور المذكور وبهمته العالية واهتمامه بإعداد هذه الدراسة، لكن ما لفت نظري قول الدكتور- حسب ما نُقل عنه في ذات الخبر- أن الدراسة قد توخت الدقة والمنهج العلمي المجرد من أي عواطف؟؟ وأنا هنا أتساءل هل يمكن أن يكون هناك حيز للعواطف في الدراسات العلمية البحتة القائمة على أدوات ووسائل تجريبية مادية لا دخل للعواطف بها؟ وقد سرني كلام الدكتور حول استخدامهم لعملية تحليل الحامض النووي وشريط الجينات الوراثية، وهذا بحد ذاته تقدم كبير، وكبير جداً إذا كان قد صار حقيقة وعملية متوفرة في اليمن ؟ فالمعلوم أنه حتى الآن لا يوجد أي معامل في اليمن متخصصة في تحليل الحامض النووي ال DNA، (الدي إن أيه)؛ والمعروف أنه دائماً يتم إرسال العينات المراد تحليلها إلى خارج اليمن. يبقى التقدم العلمي والتقني هو المعيار الأبرز لتحديد مستوى تقدم الشعوب أو تخلفها، وما لم يتم الاهتمام بهذا الجانب من قبل المسؤولين اليمنيين كما ينبغي، وما لم يتم تبني إبداعات المبدعين ودعم إبتكارات المخترعين، وتشجيع الشباب على التفكير الجاد والإبداع والإنتاج المثمر والتميز فإننا سنظل في خانة الدول المتخلفة والشعوب الإتكالية غير المنتجة؟