صادف اليوم الأحد 18 شعبان 1430ه الذكرى الثالثة والسبعين لوفاة السلطان علي بن منصور الكثيري ( 10 سنوات من إدارة الذات في حياة السلطان ) : ( 1347ه 1357ه ) وأثناء مطالعتي لكتاب : الدور الكافي (المسمى تاريخ الثروة الكافية ورجالها) تأليف الأستاذ / محمد بن هاشم غفر الله له والذي تولى شؤون السكرتارية في إدارة السلطان علي بن منصور الكثيري غفر الله له، ذلك الكتاب الذي اعتنى الولد النبيل علي أنيس الكاف حفظه الله بإبرازه من جديد إلى الوجود وأهداني جزاه الله خيرا نسخة منه ، وجدتُ أثناء تقليبي لصفحات الكتاب أن للسلطان علي بن منصور غفر الله له إدارة قيمة لأعماله اليومية افتقدناها اليوم أمراء ومدراء ومأمورين ، ولاة ورعية ، عامة وخاصة ، أغنياء وأرباب أموال وموظفين ، كبارا وصغارا ، رجالا ونساء ، من طلاب النجاح ، وعشاق التميز ، فما أحوجنا لإعادة إبرازها من جديد لعل في ذلك تذكرة ( لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) [ق37] ] وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات55] وإدارة الأعمال اليومية يحلو للبعض تسميتها: إدارة الوقت ، غير أن لفضيلة الدكتور/ طارق السويدان حفظه الله اعتراض وجيه على التسمية ، باعتبار الوقت لا يُدار فهو الحياة ، والحياة دقائق وثواني تمضي كالسيف في طريقها إن لم تقطعه قطعك ، فلا يستطيع الإنسان التحكم فيه بالإدارة التي تعني التقويم وبالتالي التكييف والمراجعة والتعديل بالتأجيل أوالإيقاف أو إعادة عجلتها إلى الوراء ، أو بالتقديم والتأخير وهذا لا يتأتى مع الوقت ، كما يقتضيه مفهوم الإدارة عند المتخصصين في علومها ، فيُستحسن أن تقول : إدارة الذات . ولأن السلطان علي بن منصور الكثيري رحمه الله له الذي ولد آخر شهر الحجة 1299ه واعتلى عرش السلطنة بعد وفاته والده المنصور بن غالب غفر الله لهما سنة 1347ه فإدارة شؤونها أحسن إدارة شهد بذلك العدو والصديق والقريب والبعيد ، فشهدت حضرموت في عهده بداية نهضتها المعاصرة ، فقد أدخل التعليم الحديث ، بل وراسل ملوك مصر والعراق طلبا منهم الموافقة على إرسال بعثات تعليمية حضرمية لطلب المعارف ، وفي عهده جلبت ماكينات ضخ المياه لتطوير الزراعة ، وأنشئت جمعية الحق ، وشقت الطرقات ، وبناء السادة آل الكاف أول مستشفى في الجزيرة العربية سنة 1355ه الموافق 1936م ، وتم توقيع صلح أمان القبائل والهدنة بينهما والذي كان أساس الاستقرار في البلاد وتوفي ليلة 18 شعبان 1357ه حين أصيب بنوبة مفاجئة غفر الله له ورحمه رحمة الأبرار ، وتقبله في الصالحين . فقد كان بحق صاحب موهبة في حسن إدارة ذاته، وتنظيم أوقاته بالتوزيع بين ما لربه ، وما لرعيته ، وما لخاصته ومستشاريه وضيوفه ، بين ما لربه ، وما لنفسه ، وما لأهله ، وما لجسمه ونفسه ، وما لزوره ، وما لرعيته ، من حقوق ، ولو أن كل واحد يؤدي الحقوق التي عليها لنال كل واحد الحق الذي له .. فما أحوج طلاب النجاح فينا إلى الوقوف عند حسن إدارته لذاته وتنظيمه لأوقاته وتوزيعها بين سائر الحقوق ؟! . السلطان علي بن منصور بن غالب الكثيري الإنسان: كان السلطان علي بن منصور بن غالب غفر الله له رجلاً هادئاً واجتماعياً ولطيف المعاشرة ، شعره مجعد فوق رأسه المدور تماماُ أسود ، والتدوير الواسع يغلب على شخصية السلطان كلها.. و هو عادة يتدثر ب"جبة" شفافة وفضفاضة ، يفضّل نمط الحياة التقليدي ، ويتابع ما يدور حوله بعينين مغمورتين بالفرح والحركة من وراء نظارتين وضعتا فوق وجه دائري لا ينم عن أي كبرياء .. وفي حديقة الفيلا المسماة (عز الدين) يستمتع السلطان بالجلوس وشرب الشاي مع أصدقائه تحت أشجار النخيل وهو يتفرج على(الجربات) المربعة المزروعة بالبرسيم والذرة والجزر والبصل والقرع وصنف من البطاطس ينمو هنا وهناك بين النخيل وتشبه زهوره أزهار الدودية الأرجوانية , والبستان محاطة بسور من الطين مرتفع ولا يسمح لنا إلاّ بمشاهدة قمة الجبل المطل على المدينة. وقد شُيّد هذا السور لأن نساء السلطان يقضين الصيف في فيلا (عز الدين) وليس من اللائق مشاهدتهن من الخارج , له زوجتان هما : لؤلؤ بنت منصور بن علي الكثيري ، وفاطمة بنت عبد القادر حسان . إحداهن تسكن وسط البلاد ( المدينة ) والأخرى في الفيلا المسماة (عز الدين) والواقعة في أطراف المنطقة الزراعية: (النخل) .[ انظر الدكتور / مسعودعمشوش ترجمة رحلة: فريا ستارك ] له تسعة من الأولاد، سبعة من الذكور هم: حسين، وعبد المجيد، وجواد، وكمال، وفاروق، وغالب، ورشاد، واثنتين من الإناث هن: سيدة، وسكينة. برنامج إدارة الذات عند السلطان علي غفر الله له: موزع بين ما لله وما للأهل وما للرعية على نحو فريد ، فقد ذكر الأستاذ بن هاشم غفر الله له وآخرون روايات عن يوميات السلطان علي رحمه الله في إدارة شؤون سلطنته الممتدة ما بين تريم شرقا إلى الحزم وشبام غربا وساه جنوبا إلى ثمود وقف العوامر شمالا ، نقتطف من تلك اليوميات بتصرف ما تدعو إليه الحاجة ومنها أنه : • كان ينهض من النوم باكرا قبيل الفجر بحوالي نصف ساعة تقريبا فيتوضأ ويركع ما تيسر، ثم يطوف بالقصر موقظا النوّام لصلاة الفجر ليصلي الجميع الصبح في جماعة . • ثم يجلس إلى شروق الشمس ، وبعد ركعتي الضحى يتناول بعض إفطاره ، وهو غالبا : بيض ولبن ، وربما قليل من خبز الذرة . • ثم يفضّ حقيبة بريد مكاتباته اليومي ليطالعه بإمعان ، ويرد على مكاتيب المساء ، فيعد لكل كتاب جوابا مناسبا ، وهو يتناول فنجان من الشاي . • ثم ينهض ساعة النهار الأولى إلى مكتبه ليعالج الدعاوي والشكاوي ، فلا تأتي الساعة 9 10 صبحا إلا وقد فرغ من كل قضاياه . • ينصرف بعدها لحضور مدرس أو مجلس علم وأدب ، وقد كان مثابرا منذ صغره على حضور دروس رباط الإمام علي الحبشي رحمه الله ، أو زيارة مريض أو صديق ، أو نزهة عامة ، كما واظب على حضور مدارس ومجالس المساجلات الأدبية ومقارضة الشعر ، حتى ولعت روحه بكتب الأدب والسير والتاريخ ولعا عظيما فاقتنى مجلداته ، واستفاد علما جما وذوقا سليما علما جما ، وأدبا رفيعا ، وعقلا وافرا ، وحلما غزيرا، ونزاهة وعفة ، أهلته لمعرفة طباع الناس ، ومعرفة بسبل التطور والنهضة . • يعود إلى قصره يوميا قبيل الزوال لتناول الغداء ، ويغفو إغفاءة خفيفة ، ثم يقوم ليتوضأ ويصلي الظهر جماعة ( وصلاة الظهر في سيئون كانت وقتها يُبرد بها صيفا وشتاء إلى قبل العصر بحوالي ساعة تقريبا انتظارا للمزارعين كي يفرغوا من أعمل مزارعهم والعمال كي ينتهوا من أعمالهم في البناء والتجار كي يتموا سحابة يوم عملهم في متاجرهم ) وبعدها يعود إلى مكتب إدارة السلطنة ( قاعة الحكم ثانية ) ليفصل في الخصومات والقضايا والشكاوي حتى العصر . • بعد صلاة العصر جماعة يركب سيارته مع من حضره من أهله وخاصته ورجاله وأصدقائه متنزها حتى المغرب . • بعد أداء صلاة المغرب في جماعة يعود إلى قصره ويُحضر رجال عائلته ، فيمضون ساعة في محادثة ومسامرة إلى العشاء . • وبعد صلاة العشاء في جماعة بمسجد الجامع وتناول وجبة العشاء مع الضيوف إن وجدوا ومسامرتهم قليلا إن دعت حاجة لذلك ، ينصرف كل لسبيله ، وحيث يظن الناس أن السلطان علي غفر الله له قد أسلم نفسه للنوم ! كان يقوم بجولة في أرجاء مدينة سيئون يتفقد بلدته وقد أخلد الناس إلى نوم عميق بعد يوم عمل شاق في سائر الحرف ، ولهذه الجولات قصصا طريفا منها ما حكاه المهندس / محمد أبو بكر حسان عضو المجلس المحلي بمحافظة حضرموت (حاليا) حيث ذكر أنه : مأثور عن السلطان علي بن منصور انه يعس ليلاً يتفقد أحوال الرعية يقول الوالد ( أبوبكر حسان ) نقلاً عن عمه أن السلطان مر أمام بيتنا ليلا ً ووجد الباب الخارجي ( الضيقه ) مفتوح . فصاح يا ود أحمد عمر يا ود احمد عمر الضيقه حقكم مفتوحة فأجابه جدي محمد أن أغلقها وهو لا يدري انه السلطان علي فقال له اخرج حتى نرى أن كان قد دخلها غريب ، فعرف انه السلطان فخرج وتفقدوا البيت فلم يجدوا أحدا . وذات ليلة مر بمنطقة شهاره ( بسحيل سيئون ) فنادته إمرأة فقالت له بالهجة السيؤنية بتخفيف الجيم و إقلابه يا : ياريال وراك بغيت عند السدة القبلية . فأجابها: نعم فقالت له: قل لآل فلان بنتكم فلانه ولدت وهي بخير ! فمر على ذلك البيت و أخبرهم الخبر وفي الصباح أتي أهل البيت يعاتبوا تلك المرأة ويعيبون عليها أنها لم تجد سوى السلطان توصيه بالبشارة فقالت لهم : لا أدري انه السلطان . لقد استفاد كما ذكرت آنفا من حضور مدارس ومجالس المساجلات الأدبية ومقارضة الشعر وولعه بكتب الأدب والسير والتاريخ ولعا عظيما حتى فاقتنى مجلداته ومن تلك الفوائد صار حادقا بفك رموز الشعر الشعبي ( شعر الدان الحضرمي ومساجلاته ) التي يتعذر على الناس فك طلاسمها حتى اشتهر بين روادها أن : المعنى في بطن الشاعر ! إذ أن فكَّ رموز تلك المساجلات يحتاج إلى ما يشبه علم رموز تفسير الأحلام ، تماما لا يجيدها إلا ماهر . وإليك هذا المثال : في أثناء حرب بن عبدات ( الغرفة ) عام 1936م اجتمع عدد من مغني الدان منهم : الشاعر الشعبي مستور حمادي وبن قفزان أخو الأربعة ومحفوظ النجار غفر الله لهم أجمعين في بيت بضواحي سيئون يسمرون على أنغام الدان والتي كان محورها القضايا والموضوعات السياسية التي تدور في محيطها والعالم أجمع ، وكانت بينهم المساجلة التالية: قفزان : يقول خو الأربعة قفزان ذي علة قدر المجِّله في الأجل وأهل المناحة محزنين مستور : القبوله ما تصلح لبن خالد عمر لي سوس الحول والغرفة ومثو با متين النجار : متى با تبتني يا المصوّن يا لمدر وأهل الجريدي من الخدمه وراهم واقفين قفزان : ما تصلح ألا لباشادي لي يدفرها ستر يخرب ويبني ولا يقعد في الفاج الضخين مستور : الجلجل ألا غلي يا ويل لبوكم يالعصر الجلجل أل مصون تحت ملة با متين النجار : عصيد مثنات كعده حل مندرها خطر وانتي حسبيته تحتش يالوسيعة تلقمين قفزان : بنت باشراحيل في السروال لقت مصر أهلش من أهل التجارة من زمن متقدمين مستور : من أمس والحر يوقدنا ولا شفته مطر ما تمطر ألا على حذيه وهينن والعنين النجار : العلب لي زحّف المنشار وعيال النجر يالي سرحتوا في الجذانة ضويتوا زاحفين قفزان : حيدين متكاشمه والناس في زره وحر أربع رحايا لقوهن ما يدققن الطحين *** طبعا وقف السلطان علي غفر الله للجميع يسمع من تحت المنزل ما دار في هذه المساجلة التي أثارت ثائرته والدولة في ساعة حرب شرسة مع بن عبدات اشتركت فيها القوات البريطانية المستعمرة بالطيران والدبابات كما اشتركت فيها الدولة القعيطية بجيش البادية فأمر بإلقاء القبض على الثلاثة وإعداهم السجن بعد أن أوجعهم ضربا . فهذا برنامج يومي لرجل كان من أثقل الناس في سيئون حملا وأكثرهم عبءً ، كان سببا لنجاحه .