قراءتنا اليومية لنبض الشارع العربي عبر المقاربة العينية أو عن طريق ما تقدمه وسائل الإعلام من أخبار و تحقيقات و كذا إنطلاقا من عدة دراسات و أبحاث يحاول أصحابها جاهدين فهم واقع المجتمعات العربية ، تفضي إلى إشكالية عميقة تتلخص في السؤال الآتي : هل مازال التغيير ممكنا في المجتمعات العربية ؟ جل المؤشرات السياسية، الإجتماعية ، الثقافية و الإقتصادية تؤكد عمق الأزمة . فأكثر من نصف ساكنة العالم العربي أميون، بالمقابل نجد مساهمة الأنظمة العربية كلها في البحث العلمي جد ضئيلة و لا تصل إل مستوى إنتاج دولة واحدة من حجم إسبانيا . هذا الوضع لا يجعل البلدان العربية في موقع المنافس للغرب الأوروبي و الأمريكي الذي يسير بوثيرة أسرع مما يمكن أن نتصور . فالإحساس بالغبن و الإحباط أصبح علامة واضحة تطبع السلوك العربي في الداخل و حثى في الخارج . أماالظواهر الإجتماعية فحدث ولا حرج ، فالفقر ، الجهل ، الدعارة و كل الأمراض التي يفرزها الجسد العربي أغرقت المجتمعات في جحيم لا مثيل له . وما يزيد الطين بلة هو أن هذا الوضع المأساوي يقع في بلدان تحكمها أنظمة عاجزة عن تحقيق التنمية لمواطنيها بل هي فاقدة للشرعية الشعبية . هذه الحالة الشادة تدفعنا إلى طرح سؤال آخر : ما هي المعيقات التي تقف حجرة عثرة أمام تقدم المجتمعات العربية ؟ الإجابة على هذا السؤال تعد معقدة و متشعبة ، إلا أنني سأحاول التركيز على أهم الإشكالات الكبرى التي أعتقد أنها تشكل صورة للأزمة العربية . لنبدأ بتصور المجتمعات العربية للدين والذي يلفه الكثير من الغموض . الدين معتقد شخصي يربط الإنسان بالذات الإلهية ، لكن الصورة السائدة عربيا هي محاولة تسييد خطاب ديني على حساب الفعل الثقافي العربي أي بأسلمة السلوك الثقافي وتهميش كل إنتاجات المجتمعات العربية في مختلف الميادين الإبداعية . إن العلاقة بين الدين و الثقافة أصبحت أكثر إلتباسا عندما نجد خطابات تتحدث عن ثقافة إسلامية ، هوية إسلامية ، إقتصاد إسلامي ...بل إلحاق كل ما يوجد في العالم بالإسلام بالرغم من أن الإسلام لم يكن ، على الأقل إلى حدود القرن 12 ، مرجعا وحيدا للثقافة العربية ، لذلك تحولت الثقافة العربية إلى تراكم مأسلم بإبعاد و إقصاء التمايز الحاصل بين الثقافة كإنتاج بشري كما تعرفه العلوم الإجتماعية و خاصة الإنتروبولوجيا و الدين كمعتقد للتعاطي مع الوجود ، مما ولد ثقافة مريضة ودخيلة تعتمد على البدعة بلغة الفقهاء ، وهذا مازاد في تمزق الهوية الثقافية العربية التي مهما غناها وتعدد مراجعها الأمازيغية، الإفريقية، المغاربية، المتوسطية و غيرها نجد أن الخطاب المهيمن عليها يركز علىالأحادية ، وذلك بأسلمتها وإفراغها من كل محتوى . السؤال الهوياتي المعروف ب : من نحن ؟ يشكل دليلا صارخا على تأزم الذات العربية ونقطة بداية تدعونا إلى فهم عميق للكيان العربي يعتمد على المقولة الفلسفية المأثورة : أعرف نفسك بنفسك . إن الحداثة لا يمكن لها أن تمر إلا عبر الفعل الثقافي ، لكن بإعادة تأسيس الذات الثقافية المعطوبة التي تتصور كل شيء في أحاديته الإثنية، العرقية أو الدينية . في هذا السياق ، لا بد من الإشارة إلى كتاب جميل للكاتب اللبناني أمين معلوف: الهويات القاتلة ، والذي رفع فيه الحجاب عن وهم الأحادية الذي يريد الكثير تسييده على الجميع عن طريق قولبة و تهجين الفعل الثقافي . الحديث عن الهوية لا يبتعد عن إشكالية الحداثة المادية التي لا أحد يجادل في كونها لا تتحقق بدون حداثة عقلية، أي أن ثورة المجتمعات على المستوى المادي لا يمكن لها الحدوث إلا في ظل ثورة عقلية تأخد مسافة نقدية مع الأشياء و خصوصا الماضي العربي الذي تحول مع الأسف إلى طوطم يعبد كما تعبد الآلهة . فقضية تحديث المجتمعات العربية شائكة و تنبني على طبيعة التصور السياسي الذي يحكم الأنظمة . فهذا التصور ينبغي أن يعتمد على منطق سبق و أن طرحه سعد زغلول : الدين لله و الوطن للجميع . لأن ترك الدين بيد رجال السياسة يفعلون فيه ما يشاءون من تأويلات مذهبية، فقهية و سياسوية يؤدي لا محالة إلى إغتيال روح الدين المفتوحة للجميع وكذلك إلى تأويل هدام سبق لعالم الأزهر علي عبد الرازق أن كشف خفاياه و مظاهره في كتابه : الإسلام و أصول الحكم . إن روح الإسلام التعدد ، أما فرض وصاية دينية لجماعة أو لكثلة بشرية معينة على المجتمع هو ضرب لجوهر الدين و تشويه للرسالة التي أتى بها و من أجلها لكافة البشر. فكلنا يعرف ورطة التأويل و ما خلفته من ترهات و أكاذيب و قراءات تعسفت على النصوص و خاصة من طرف أولئك الذين تشبتوا بالظاهر و أهملو باطن النصوص . رواد الفكر العربي المتنور عديدون ، و منذ قرون قدموا لنا الكثير من الخطابات و الحكم –بكسر الحاء- لكن معركتهم كانت محدودة النتائج لأسباب أجملها في البنية الإجتماعية و الثقافية المعاقة التي لم تستطع إستنطاق النصوص بل أولتها و حاكمت من أنتجها وكفرت من يمارس معانيها العميقة ، بالمقابل عوضتها بنصوص رجعية إنتقائية لا يرى صاحبها إلا ما تراه العين المجردة الخداعة حسب تصور الفيلسوف الفرنسي ديكارت ، فكانت معرفته بالحقيقة أشبه بمعرفة الإنسان بالشمس التي و إن نظر إليها كانت أصغر حجما لكنها في واقع الأمر و علميا أكبر من الأرض بكثير . إن التنوير كخطاب و ممارسة هو الذي أدخل الغرب إلى عالم الحداثة و ما بعد الحداثة ، وقد ثم له ذلك بعدما أطلق العنان لسلطة العقل المبنية على الحرية و ليس على الإكراه . فقراءتنا لنص الفيلسوف الألماني كانط حول الأنوار تؤكد لنا أن الزجر و الوصاية يتناقضان مع لغة التنوير . إن الدفاع عن لغة العقل حضر في الفضاء العربي الإسلامي أكثر من مرة عند الفلا سفة و الفقهاء . و على سبيل المثال نجد الفكر المعتزلي الذي دشن فصلا جديدا لمنطق العقل قبل ورود السمع أي أن الجوهر لا يمكن معرفته إلا بمنح أسبقية للعقل على النقل ، إلا أن هذا الخطاب سرعان ما تلا شى بفعل صراعات الملل و النحل وهيمنة لغة الظلامية . إن مشكلة المجتمعات العربية تكمن كذلك في الأنظمة السياسية التي غلبت جبروت حالة الطبيعة على سلطة الثقافة و العقل . فنظام الدولة من شأنه تنظيم هياكل المجتمع وفق ضوابط معينة ترسم خطوطا واضحة لعلا قة الدين بالسياسة و المجتمع حسب خصائص كل مجال . لكن واقع الأمر يكشف حقيقة مغايرة مفادها أن تأويل الدين أصبح مصدرا لعالم بدون مصادر . لذلك نرى أن الأحادية لا يمكن أن تكون بديلا حقيقيا لواقع التخلف العربي لأسباب تاريخية، فلسفية و كذا بسبب التحولات التي تطرأ ذاتيا و موضوعيا على المستوى العالمي . بإختصار شديد ، إن أزمة المجتمعات العربية ثقافيا تتجلى في رفض الذات أن تنظر في المرآة- بلغة عالم النفس لا كان – كي ترى صورتها و إعادة إكتشافها من جديد بتعرية عورتها و تحديد مكامن الألم فيها ، و هذا لا يتأتى إلا بمواجهة هذه الذات و تصفية الحساب معها. فتاريخ العرب و المسلمين لأكثر من 15 قرنا غيبته الأمية و أقصته القراءات السياسوية الإنتقائية الضيقة حثى صار الحلا ل حراما و الحرام حلا لا . و مادام النبش في هذا التاريخ المليء بالثقب السوداء يكون مقابله المحاكمة كما وقع لعلي عبد الرازق أو التصفية الجسدية كما حدث لفرج فودة أو الطرد و التكفير كما نجده في حالة حامد أبو زيد، فإن التغيير الحقيقي بتحرير العقل و بداية مرحلة جديدة يعد بعيد المنال على الأقل آنيا. [email protected]