مدخل: التغيير ظاهرة من الظواهر الطبيعية في هذا الكون؛ فالحياة بكل تفاصيلها تتغير من وقتٍ لآخر..فلا الجبال هي ذات الجبال قبل آلاف السنين، وكذلك البحار والأنهار وغيرها مما يعتقد البعض- خطأً- ثباتها. وليس هناك ما هو عصيٌ على التغيير بما في ذلك الإنسان؛ فقد مرّ منذ بداياته الأولى وحتى اليوم بمراحل تغييرية عديدة؛ أوصلته إلى الرقي تارة وإلى الانحطاط تارة أخرى..وفي سياق الحديث عن التغيير ينبغي الإشارة إلى نقطتين: الأولى: ليس بالضرورة أن ينتج عن التغيير ما هو أفضل؛ لكن المنطق يفترض أن هدف التغيير هو الوصول إلى واقعٍ أفضل مما هو قائم. الثانية: هناك فرقٌ بين التغيّر والتغيير؛ فالتغيّر يُعدُ نتيجة لعملية التغيير، وهو سببٌ لها أيضاً؛ لأن التغيير على أرض الوقع يجب أن يسبقه تغيّر في النفوس والعقول..أما التغيير فهو الفعل الذي ينشأ عن إرادة واعية لتحقيق المغايرة والاختلاف عما هو قائمٌ بالفعل. حاجة اليمن إلى التغيير: ما يميّز الإنسان السوي هو نزوعه نحو الكمال والذي لا يتحقق الوصول إليه إلا بالسعي الدائم والحثيث نحوه؛ ولأن الكمال أمرٌ غير مُدركٍ بالحواس ولا متصور بشكلٍ دقيق؛ لذا لا يجدُ المرءُ بداً من السعي إلى تحقيق الأفضل من خلال تغيير الواقع المعاش؛ وهذا هو هدف كل الثورات والحركات عبر التاريخ وعلى امتداد المعمورة. وفي اليمن أصبح الأمر الوحيد الذي تتفق حوله العقول والآراء هو الحكم على فساد ما هو قائم؛ إن على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الأخلاقي...ومن هنا فالمنطق من جهة وسنة الحياة من جهة أخرى يدفعان إلى التغيير. والسؤال كيف يمكن للتغيير أن يتحقق؟ وما هي المقومات والأسس اللازمة لتحقيق ذلك؟ وللجواب على هذا التساؤل أرجو أن أوفق لعرض ما أعتقد صوابه عبر السطور التالية مقومات التغيير: كما سبق وأشرت إلى أن التغيير المطلوب يجب أن يكون عن إرادة ووعي؛ وهذا يعني أن الشرط الأول والأساسي هو توفر ذلك- أي الإرادة والوعي- لدى من يجب عليه القيام بالتغيير..ولكن من هو الذي يقع على عاتقه هذا الحمل(التغيير)؟..هناك عدة جهات يمكن للتغيير أن ينطلق من خلالها، وهذه الجهات أو الخيارات التغييرية ستكون محور الحديث فيما سيأتي: الخيار الأول: الشعب لقد قامت العديد من شعوب العالم بتغيير واقعها عن طريق الثورات(البيضاء والحمراء)؛ غير أن غالبية تلك الشعوب كانت تتمتع بقدرٍ كبير من الوعي والإرادة، وكانت نسبة المتعلمين فيها وافرة..وهذا ربما هو ما ينقص واقعنا الشعبي؛ فغلبة الأمية واضحة، وإرادة الناس خاوية وضعيفة؛ بل إن نسبة كبيرة من الشعب-رغم إيمانها بضرورة التغيير-لا تعتقد بإمكانية حصوله؛ وهناك أسبابٌ كثيرة لهذا الاعتقاد؛ بعضها يتعلق بالثقافة الموروثة، وبعضها يتعلق بمستوى التعليم والوعي؛ لكني أرى أن هناك سبباً آخر لا يقل أهمية عن تلك الأسباب؛ وهذا السبب يعود إلى طبيعتنا كيمنيين؛ وأعني أننا أصبحنا راكدين جسدياً ونفسيا وعقلياً بفعل تأثير القات الذي يجعل المرء يميل إلى الثبات وعدم الحركة على أي مستوى. ويمكن أن يضاف إلى ذلك ما رسخ في عقول الناس-بفعل التثقيف الرسمي وغير الرسمي-من ثقافة سلبية تكرس ضرورة القبول بالأمر الواقع وتوصيفه على أنه قدرٌ لا مفر منه، وكذا نزع روح التطلّع والطموح المشروع من النفوس بحجة أن المغامرة إلى المجهول أمرٌ غير محمود في كل الأمور وفي السياسة على وجه الخصوص؛ وبحسب العبارة الشعبية(جِنّي تعرفه ولا إنسي ما تعرفه). من هنا فأنا أستبعد خيار أن يقوم الشعب اليمني-في الوضع الراهن-بتغيير واقعه؛ لأن دون ذلك مراحل طويلة تحتاج إلى مزيدٍ من الوقت. الخيار الثاني: المجتمع المدني والأحزاب السياسية يشكّك كثيرٌ من الدارسين والباحثين في وجود مجتمع مدني في اليمن؛ ويعزون ذلك إلى كون المجتمع اليمني مجتمعاً تقليدياً متشرب عميقاً بالقيم الإسلامية من جهة، ومتمسك بالولاءات القبلية والعشائرية والمناطقية والسلالية من جهة ثانية..ولذلك يُلاحظ أن المنظمات المدنية-رغم كثرتها-لا تتخذ طابعاً مؤسسياً يتلاءم ومهامها. ويؤكد المختصون أن الولاءات القبلية، وأعمال الثأر والاختطافات أو قطع الطرق التي تجري بين حينٍ وآخر في أكثر من مكان، وعلاقات الراعي والرعية القائمة بين شيوخ العشائر وأتباعهم؛ كل ذلك مما يعوق تشكل مؤسسات مدنية حديثة..إضافة إلى ذلك هناك من يرى أن المناطقية والطائفية ومستوى الوعي تحول جميعها دون نشوء حس قوي بالمواطنة الذي هو أساس تكوّن المجتمع المدني الفعّال. وبالنسبة للأحزاب السياسية فاكتفي في هذا المقام بعبارة للأستاذ الكبير عبد الله البردوني؛ حيث يقول: "أحزاب الواقع المتخلف وفيرة التخلف؛ لأنها ليست من أمطار السماء وإنما هي نبتة هذه الأرض". والنتيجة الطبيعية لما سبق هي غياب المجتمع المدني وكذا الأحزاب السياسية عن الحراك التغييري؛ وبالتالي فمن غير المنطقي التعويل عليها للقيام بعملية التغيير الشاملة. الخيار الثالث: القائد الفذ هناك ثلة من الناس قادرة على أن تكون في الضفة الأخرى؛ بمعنى أن الإنسان الفرد-بطبيعته-يتأثر بالمحيط والمجتمع الذي هو فيه، بينما القلة من الأفراد هم الذين يمتلكون القدرة على التأثير في المجموع؛ ومن هنا فقد استحقواْ أن يوصفواْ بالجمع رغم فرديتهم؛ قال تعالى:﴿ إن إبراهيم كان أمّة ﴾. هؤلاء الأفراد هم الذين نُطلق عليهم صفة العظماء؛ لأنهم امتلكواْ القدرة على تغيير محيطهم والتأثير في مجتمعهم.. ويمكن أن نضرب أمثلة على ذلك من واقعنا المعاصر من خلال: المهاتما غاندي؛ ذلك الرجل الذي امتلك القوة والعزيمة والإرادة للوقوف بوجه الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس(بريطانيا)؛ حتى تمكن من إخراجها من بلده(الهند)..ونيلسون مانديلا الذي تحمّل غياهب السجن لأكثر من عشرين عاماً كي ينقل جنوب أفريقيا من مجتمع تحكمه مفاهيم وقوانين العصور الحجرية إلى مجتمعٍ إنساني تتساوى فيه كل ألوان البشر، وتحقق له ما أراد..وغير بعيد عن نضال مانديلا في القارة السمراء كان نضال(مارتن لوثر كنج) في الولاياتالمتحدةالأمريكية يدور على نفس الجبة؛ فبفضل شخصيته الفذة وإيمانه العميق بعدالة قضيته انتصر وانتصرت معه الإنسانية، حتى وصل الحال بالمجتمع الأمريكي إلى أن يقبل بأن يحكمه رئيس أسود بعد أن كان السواد لعنة في الثقافة الأمريكية..وفي المجتمع الإسلامي قاد الخميني ثورة شاملة دون أن يشهر سلاحاً سوى سلاح الشعب الواعي والمتطلع إلى لحظة الخلاص؛ وفي سبيل تحقيق ذلك التغيير فقد الخميني ولده(مصطفى) وعانى مع أسرته سنوات النفي الطويلة؛ وعرفاناً من الشعب بتلك التضحيات عاد إلى بلاده محمولاً على أكتاف الشعب إلى سدة الحكم؛ محققاً لنفسه ولشعبه التغيير الذي أراده وناضل من أجله. هذه الأمثلة وغيرها الكثير توضح لنا كيف أن التغيير المنشود يمكن له أن يتحقق من خلال القادة الأفذاذ الذين يمتلكون الصفات الإنسانية، والشخصية القيادية، ولديهم إيمانٌ لا يتزعزع بقضيتهم، كم أنهم يمتلكون المعرفة الدقيقة والتفصيلية عن واقع شعبهم وبلدهم، وعندهم تصور واضح لما يريدون تحقيقه..وكنتيجةٍ لتوافر هذه المقومات في هؤلاء القادة فإن الجماهير تسلس قيادها لهم، وتمضي خلفهم منقادة طائعة؛ لأنها وجدتْ أنهم قد أصبحواْ عنوانها، وتماهواْ في قضايا الشعب، وأصبحواْ يجسدون أحلامه وتطلعاته. وفي بلادنا قد يوجد أفرادٌ يتصفون بتلك الصفات، ولكنهم غائبون عن القيام بما هو منوطٌ بهم أو ما هو معوّل عليهم؛ وبالتالي فهم موجودون بالقوة لا بالفعل(كما يقول الفلاسفة). وهذا بالمحصلة يدعونا إلى عدم التفاؤل-حالياً على الأقل-بحصول التغيير الذي ينشده الشعب عن طريقهم.
الخيار الرابع: النظام القائم بما أنّ التغيير أصبح أمراً ملحاً، وحاجة ماسة، ومطلباً جماهيرياً؛ فقد صار لزاماً حصوله..وحيث أننا قد لاحظنا صعوبة تحققه عبر خيارات(الشعب-المجتمع المدني-القيادة الفذة) فلم يبق لنا إلا خيار قد ربما يبدو للبعض خلافاً لمنطق العقل وحتى خلافاً لسياق الحديث؛ حيث افترضنا فساد ما هو قائم، والخيار المتبقي يفترض إمكانية حصول التغيير لما هو قائم بما هو قائم..وهل هذا إلا التضاد بعينه؛ بل ربما هو التناقض بذاته؟!..وهذا الكلام صحيح للوهلة الأولى؛ ولكن النظرة الفاحصة والتأمل الدقيق لحقيقة الإنسان من جهة، ولشواهد التاريخ من جهة أخرى؛ سيدفعانا إلى الجزم واليقين بإمكانية تحقق التغيير المنشود من خلال من يهدف التغيير إلى تغييره.. فحقيقة الإنسان تقول أن الإنسان ليس قالباً جامداً وإنما هو-فكراً وسلوكاً-يتحول من وقتٍ لآخر، مما يعني أن الإنسان الظالم قد يتحول إلى عادل، والجاهل قد يصير عالماً، والمفسد قد يصبح مصلحاً؛ والعكس صحيح أيضاً. وشواهد التاريخ تؤكد قدرة الإنسان على التحوّل والتبدّل من حالٍ إلى حالٍ؛ وهذا من البديهيات التي لا تحتاج إلى إيراد الأمثلة. إذن فمن الطبيعي والعقلاني أن نطالب بتغيير واقعنا عبر من هو قائمٌ على هذا الواقع ومسيرٌ له؛ وأعني النظام الحاكم في اليمن وتحديداً (الأخ علي عبد الله صالح رئيس الجمهورية) الذي يتوجب عليه القيام بالتغيير والثورة على الواقع القائم؛ وذلك للأسباب التالية: · الضرورة الملحة-كما أسلفنا-والحاجة الشديدة إلى التغيير. · صعوبة تحقق التغيير المطلوب-في الوقت الحالي-إلا من خلاله. · معرفته الواضحة بالشعب وإمكانياته، وكذا أماله وتطلعاته. · امتلاكه القدرات والإمكانيات المادية والبشرية وغيرها من لوازم التغيير. · تعميق ما له من محبة في نفوس البعض من اليمنيين، وكذا ترميم صورته لدى البعض الآخر؛ وبالتالي تخليده في الذاكرة اليمنية كزعيمٍ كبير أخذ شعبه إلى حيث يريد(والضمير يعود للشعب). وللاستشهاد على إمكانية تغيير الواقع القائم بذات النظام القائم على الواقع؛ يكفي أن نذكر ما قام به(مهاتير محمد-رئيس وزراء ماليزيا السابق) الذي نقل ماليزيا إلى مصاف الدول المتقدمة بعد أن كانت-إلى وقتٍ قريب-لا تختلف عن واقعنا الحالي؛ ففي الفترة ما بين 1988 و 1997، بلغ معدل النمو في المتوسط 10 في المائة، وارتفع مستوى المعيشة عشرين مرة، كما تم القضاء على الفقر تقريبا، وأصبحتْ معدلات الأمية والوفيات بين الأطفال تضاهي نظيراتها في الدول المتقدمة..ومحل الشاهد الإضافي في الموضوع هو أن مهاتير محمد لم يبدأ بتطبيق إستراتيجية النهوض بماليزيا إلا بعد حوالي سبع سنوات من بداية حكمه؛ وهذا ما يؤكد ويدعّم إمكانية حصول التغيير المطلوب في بلادنا رغم السنوات الطويلة التي مضتْ دون وجود رؤية أو خطوات إستراتيجية للنهوض باليمن. الختام: إن اقتناص اللحظات التاريخية لا يتأتى لكل أحد؛ بل هو خاصٌ بأولئك الذين يمتلكون الحكمة، ويحكمّون العقل، ولا يرتضون عن السعي لتحقيق الكمال بديلا. ................... [email protected]