تتحوّل رسائل الخلوي بين أيدي الشباب الى ما هو أكثر من مجرد اتصال عندما انهار جدار برلين في العام 1989، بدا لوهلة وكأن رياحاً ديمقراطية عاتية ستهب على العالم، وأنها لن توفر بقعة في الأرض، بما فيها الدول العربية. وسرعان ما تبدد ذلك الحلم الوردي. ويبدو أن تلك الدول شيّدت سداً منيعاً وحائطاً مهيباً أمام رياح الديمقراطية والتغيير. وراهناً، يميل بعض الجمهور العربي الى تعزية نفسه، أو تسليتها، بنوع وهمي، بالتعريف، من الديمقراطية، تتمثّل في تلك الهوامش التي تتيحها الفضائيات التلفزيونية، وخصوصاً تلك المساحة الصغيرة في أسفل الشاشة، التي تظهر عليها الرسائل القصيرة للخلوي، إضافة الى برامج الواقع، والفيديو كليب وغيرها. ثمة مساحة افتراضية أُخرى تعطيها المدونات الشخصية الالكترونية «بلوغز» على الانترنت، وأثبتت أنها متنفس فاعل ولو للديمقراطية الوهمية. في غياب السياسة الأرجح أن اللجوء الى «أفيون» الديمقراطيات البصرية والافتراضية يشي بانسداد أفق السياسة في الواقع السياسي العربي. إذ برعت دول العرب في تزوير الانتخابات، وتسطيح الأحزاب السياسية، وتهميش القوى الشعبية، في مقابل رفع الحكام الى مصاف يُشبه «التأليه»، فكلهم ينطق بالحق الذي لا يأتيه باطل، ويقف التاريخ متأهباً دوماً ليلتقط من أفواههم الحكمة...الخ. وهكذا، لم تبق المؤسسة السياسية للنظام العربي المتكلس أمام الناس سوى اللجوء الى المتنفسين الرقمي والفضائي. ومع بزوغ الفضائيات العربية، فُتحت نافذة أمام المواطن العربي القابع في بيته أو مقهاه ليتنفس هواء له تركيبة مختلفة. ومع تلك الشاشات، لم يعد هواء الجمهور العربي المهمش مركّباً من أوكسجين وهيدروجين وثاني أكسيد الكربون، بل أضيف الى تركيبته شيء اسمه الرأي الآخر. ومثّل هذا الأمر يشبه الصدمة للبعض، ففرح بها كثيرون ممن كانوا يتشوقون الى عبق التعددية، لكنها أيضا كانت صدمة محزنة بل ومدمرة للبعض الآخر ممن حاولوا التصدي لهذه النافذة وإغلاقها تارة بتكثيف حدّة الإعلام الرسمي، وتارة أخرى بتجاهل الهواء المار عبر النافذة البصرية في المنازل، وطوراً بالمنع الذي أثبتت الأيام فشلة الذر يع. فقد عرفت تيارات وعقليات وشخصيات طريقها الى غرفة جلوس المواطن العربي من خلال نافذة الفضائيات، وكثير منها كانت لا تحلم بمجرد التعبير العلني عن مواقفها قبل أشهر من بزوغ عصر الفضائيات في أوائل التسعينات من القرن الماضي. وبذلك، أصبح في مقدور المواطن العربي متابعة أخبار خارج إطار تحركات السيد الرئيس ومقابلاته. وبات مستمتعاً بمتابعة حوارات حول قضايا لم تكن مطروحة أمامه إلا من خلال زاوية أحادية الجانب، حتى أفلام «البورنو» وبرامجه باتت متاحة لمن يريد بدلاً من الجهود المضنية التي كانت تبذل للحصول على فيلم ممنوع او مجلة مهربة، كما ظهر سينمائياً في «فيلم ثقافي» مثلاً. وفي المقابل، بذل الذين وجدوا في الفضائيات صدمة محزنة من شأنها أن تعرقل مسيرتهم في الاستئثار بالقوة (سواء في السياسة آو المعرفة او التأثير)، جهوداً مكثفة في بداية الأمر لمحاولة وقف هذا التيار. فعلى الرغم من تبعية نحو 70 في المائة من الفضائيات العربية للحكومات العربية، بحسب ما ورد في «تقرير التنمية البشرية العربية» أخيراً، فإن نسب المشاهدة تشير الى أن هذه القنوات تحديداً هي الأقل مشاهدة عربياً. ثم سمع العالم العربي دوي انفجار ضخم هز أرجاء الأمة اهتزازاً لم يسبق له مثيل. ذلك ما سُميّ بالفيديو كليب. واعتمد في ظاهره على هزّ البطون والأرداف والصدور، لكنه انطوى على ما هو أكثر من ذلك بكثير. وبمرور الوقت بات الفيديو كليب جزءاً من حياة المواطن العربي. والحال أن الفيديو كليب فتح باب النقاش حول ماهيته، فحواه وآثاره الطويلة المدى، مما أدى لاحقاً الى بزوغ الكليبان الدينية، لتناهض الكليب الراقص، وجذب نوعية معيّنة من المشاهدين. وفي أوج ازدهار الفيديو كليب في العالم العربي، خرج «المدونون» اي ال»بلوغرز»Bloggers العرب من مخابئهم، وهم أصحاب المواقف والانتماءات الفكرية والسياسية والاجتماعية والدينية والعلمانية التي ظن كثيرون أنها انقرضت. وقدمّوا الكثير من الآراء المتنورة المتفتحة، بالإضافة الى وعي قوي بمجريات الأمور في العالم العربي وخارجه. والاهم أن أصحاب المدونات تتسع صدورهم للرأي والرأي الآخر، ما اعتبره بعض المهتمين بشؤون العالم العربي في الغرب قناة خصبة ل»تمرير» الديمقراطية الى هذا الجزء من العالم، كأنه يشبه نظام الري بالتنقيط، على أساس أن الديمقراطية التدريجية أفضل من الديمقراطية الفجائية. وفي السياق نفسه، تأتي الرسائل القصيرة، سواء على الهواتف المحمولة بين دوائر الأصدقاء المحدودة، أو إلى دائرة معارف أوسع نسبياً، أو الى شريط الرسائل الشهيرة الذي يجرى أسفل شاشات عدد من الفضائيات. إذا كانت الجهود الغربية، وتحديداً الأميركية، لديمقراطية العالم العربي طبقاً لمواصفات معينة تخدم مصالح معينة لم تحقق نجاحاً بعد، وغير متوقع ان تحرز نجاحاً في المستقبل القريب، فإن الأمل معقود على الفضائيات والشبكة العنكبوتية وغيرها لتحريك المياه الراكدة التي آن تحريكها. هاتف محمول على هيئة زجاجة عطر: نموذج من الذائقة الفردية التي تشحذها تقنيات الاتصالات الحديثة مرارة التغيير الإلكتروني يعطي اليمن مثالاً لهذا الصراع بين التقليد والتجديد الالكتروني في المجتمعات العربية. ويُظهر تقرير أجرته مؤسسة «المبادرة المفتوحة على الانترنت» Open Net Initiative من خلال أبحاث ميدانية في عامي 2004 و2006، أن الإباحية تُشكل الهاجس الأكبر للمشرفين على الانترنت في اليمن. وتهتم الدولة كثيراً ب «تنقية» المواد الواردة على الانترنت، خصوصاً من مواضيع الجنس والقمار. وفي المقابل، فإنها لا تكبت ما يمكن أن يصل إليه المواطنون اليمنيون على الشبكة من قضايا سياسية، بل أن سيطرتها على المحتوى الديني محدود، ولا يخرج عن إطار عدد صغير من المواقع المناهضة للإسلام. ويختلف اليمن في هذا كثيراً عن بقية دول المنطقة التي تهتم في المقام الأول والأخير بالمحتوى السياسي والديني الالكتروني. ويحتوي القانون اليمني قيوداً قليلة جداً على استخدام الانترنت. والمفارقة أن مقدمي خدمات الانترنت يفرضون قيوداً صارمة على محتوياتها! وفي اليمن، تقدم شركتان رئيستان خدمات الانترنت، هما «تيلي يمن» و»يمن نت». ويبيّن تقرير «مبادرة الانترنت المفتوحة» وجود تفاوت في نشاط الشركتين بصدد تنقية محتوى الانترنت. وتُشكّل المواد الإباحية هدفاً رئيساً للجهود الرقابية للشركتين. وتتفاوت جهودهما في خصوص مواقع الثقافة الجنسية، الملابس المثيرة، المثلية الجنسية، التعارف والمخدرات، إضافة الى المواقع التي تُمكّن المستخدم من البحث من دون الإعلان عن هويته. وبوجه عام، يمنع القانون اليمني المواد الجنسية وتلك التي تتصل بمناهضة الأديان، لا سيما الإسلام. ولا يفرض قيوداً على الوصول الى الانترنت، ولكن الشبكة العنكبوتية مازالت بعيدة من متناول الكثيرين بسبب كلفتها العالية. إذ يكلف تركيب خدمة الانترنت نحو ثلاثة آلاف ريال يمني (16.48 دولار أميركي) وكلفة دقيقة الاتصال هي خمسة ريالات (0.027 دولار). والمعلوم أن الحد الأدنى اليومي للأجور يمنياً هو 300 ريال (1.65 دولار). وتجب الإشارة الى توفر خدمات الاتصال فائقة السرعة كذلك، وإن بكلفة باهظة. والحال ان بعض الصحافيين ومنظمات حقوق إنسان يدعون أن الرقابة على الانترنت في اليمن منتشرة الى درجة تعرقل نمو استخدام الشبكة العنكبوتية. ويشير التقرير عينه الى قيود رسمية وغير رسمية على الانترنت يمنياً. فمعروف ان مقاهي الانترنت تلعب دوراً حيوياً في تقديم خدمة الوصول الى الانترنت للكثيرين من اليمنيين، غير انها أمرت بإزالة الحواجز بين مستخدمي الكمبيوتر في تلك المقاهي، مما سلب المستخدمين خصوصياتهم، كما قلل من حجم المترددين إلى هذه المقاهي، وبالتالي أثر سلباً في حجم المنتفعين من الشبكة العنكبوتية. وإذا أخذنا في الاعتبار أن استخدام الانترنت في اليمن مازال مقتصراً على نسبة صغيرة جداً من السكان، فإن الكلفة العالية لاستخدامها والقيود المتزايدة ستؤدي حتماً الى مزيد من التقلص. ويشار الى أن عدد الخطوط الهاتفية الأرضية في اليمن يبلغ مليون خط، إضافة الى 400 ألف مستخدم للهواتف المحمولة، وهذه النسبة هي الأكثر خفضاً في المنطقة. أما عدد مستخدمي الانترنت، فيراوح بين 100 و150 ألف مستخدم. وتمثل المؤسسات 60 في المائة من أصحاب حسابات اشتراك الشبكة، بينما تشكل الجهات الحكومية والمؤسسات التعليمية ثلاثة في المائة من الحسابات. وبالطبع فإن الغالبية العظمى من مستخدمي الانترنت من الذكور (نسبة الأمية بين إناث اليمن تبلغ نحو 75 في المائة) أما عدد مقاهي الإنترنت في صنعاء فيبلغ نحو 250 مقهى، و61 في المائة من مستخدمي الإنترنت يعتمدون على هذه المقاهي. وتشير الإحصاءات الى أن 46 في المائة من المواقع الترفيهية التي يطلبها المستخدمون «إباحية». ويشير 43 في المائة من أصحاب المقاهي إلى ان الرواد يحاولون دخول هذه المواقع. أما أكثر استخدامات اليمنيين للإنترنت فهي البريد الإلكتروني والدردشة. أما الطريقة المتبعة في اليمن ل «تنقية» محتوى الانترنت ففيها قدر كبير مما يمكن تسميته ب»سخرية القدر». ذلك أن البرنامج المستخدم أميركي واسمه «وبسنس» websense (تحسس الشبكة). وتشير «المبادرة» إلى أن المواد التي تمنعها شركة «تلي يمن» هي تلك التي يصنفها برنامج «وبسنس» بأنها ذات محتوى للبالغين، وتلك التي تعرض ملابس داخلية وألبسة البحر والعري والمثلية والتثقيف الجنسي، بالإضافة الى تلك المتعلقة بالقمار والمخدرات وغيرهما. ويتيح هذا البرنامج فرصة إضافة مواقع بعينها الى القائمة السوداء بسهولة، بالإضافة الى إعادة تشكيل نظامها في التنقية تبعاً للتغيرات على محتويات الانترنت. يذكر أن مبادرة الانترنت المفتوح هي شراكة من قبل أربع مؤسسات أكاديمية هي: «ستيزن لاب» Citizen Lab في مركز مانك للدراسات الدولية في جامعة تورنتو، و»مركز بركمان للانترنت والمجتمع» في كلية هارفارد للقانون، ومجموعة أبحاث الشبكة المتقدمة في جامعة كمبريدج، ومعهد أكسفورد للانترنت في جامعة أكسفورد، ومهمتها كشف وتحليل إجراءات التنقية التي يخضع لها محتوى الإنترنت في دول العالم، لا سيما أنها تزيد في عدد الدول الساعية الى السيطرة على الإنترنت. وأجرت «المبادرة» دراسات ميدانية مشابهة للتقرير الصادر عن اليمن في بورما وسنغافورة والصين والمغرب وغيرها.