الإدراك العقلي المسبق للمكان, يعد بعدا بشريا يتخطى الزمن الحاضر نحو المستقبل, وللأغنية الفيروزية تجليات هذا التصور المكاني للبنان, فعبر سنوات من الاستجمام الصباحي على أنغام صوت فيروز ورشفات من البن اليمني العتيق, ينطلق بك الخيال محلقا في جو من التصور المكاني لهذه الدلالة الرمزية لجبال "اللي بعيد" في لبنان, ولجماليات الصوت وعذوبته ولجبليته التي تتمدد عبر منحدراته ومنعطفاته لحن آخر تتمازج معه البيئة اليمنية وتتلاقي فيه. وبما أن تلك التصورات المسبقة للمكان والدلالة قد تحقق في الوصول إلي جبال لبنان, والتمتع بهذا الكم الهائل من الجمال هو بحد ذاته سيمفونية رحبانية, تغور بين جنبات الحب والعشق للمكان.
بصحبة ألفة الالباسي مديرة مشروع sjcoop التدريبي و راغدة حداد المدير التنفيذي لمجلة البيئة والتنمية اللبنانية والمنسق الإقليمي للمشروع الذي عقد أولى مراحله الإقليمية للناطقين باللغة العربية في بيروت, البرنامج يستمر لمدة عامين ونصف مخصص لتدريب الإعلاميين حول فنون تناول القضايا العلمية والبيئة في وسائل الإعلام المختلفة. عشرون صحفي من اثني عشرة دولة عربية في زيارة تطبيقية, حددت إلي غابة الباروك على سفوح الجبال الوسطى للبنان الواقعة ضمن محافظة جبل لبنان قضاء الشوف محمية أرز الشوف ,لزيارة رمز لبنان شجرة الأرز. انطلقت بنا الحافلة في الصباح الباكر عبر ساحل لبنان الجميل وقبل مدينة صيدا انعطفت بنا الحافلة على يسار الساحل باتجاه جبل لبنان, تأخذك الطريق الملتوية بين سفوح الجبال مخترقة قرى جبل لبنان ك(قرية بيت الدين وقصره المشهور, دير القمر, معاصر الشوف ) وأوديتها الجميلة, تدهشك المباني المشيدة من الحجر الأبيض التي جلبت من مقالع الجبال المحيطة بها, يعلوها القرميد الأحمر, في رسم جمالي وتناغم طبيعي كأنها حبات لؤلؤ متناثرة على بساط اخضر. تسير بناء الحافلة على أطراف الجبال, تارة تبهرك أعماق الوديان السحيقة وأخرى شاخصة إلي قمم الجبال البعيدة,تذكرك بالتشابه الكبير لقرى اليمنبلبنان, وان كانت المفارقات شاسعة بينهما في التنمية والوعي المجتمعي. في أول محطة للغابة التي تتوزع على محطتي دخول شمالية التي وصلنا إليها وجنوبية التي ودعنا الغابة منها ، كان في استقبالنا العاملون في الغابة ومنسقها العلمي الباحث نزار هاني بنشاطه الذي لم يمله عشرين صحفيا من مختلف الدول العربية كانوا يمطرونه بوابل من الاستفسارات البيئية والعلمية عن الغابة, تارة يخبرنا عن مساحة الغابة البالغة 162كم ,وأخرى عن الارتفاع البالغ 2000م فوق مستوى سطح البحر ,والتنوع الحيوي للبنان إذ تحتوي على 2000 نوع من الأزهار المختلفة يضم قسما منها نباتات طبية وعطرية فريدة ونادرة في العالم. لبنان تحصد الأوجاع والفوائد من حروبها وقد عمل العدوان الإسرائيلي المتكرر على لبنان سواء خلال حرب 1982م وتموز 2006م دورا سلبيا بالغ التأثير على المحمية وتنوعها الحيوي وعمل على ضرب قطاع السياحة البيئية وانعكس ذلك تراجعاً كبيراً في عدد الزوار وعائدات المحمية وتعثر مشاريع التنمية في محيطها الريفي ,حيث نتج عن القصف الإسرائيلي تخريب للطرقات والممرات بالإضافة لتدمير موائل الكائنات الحية وهروب بعض الطيور والحيوانات وبينها أنواع نادرة ومهددة بالانقراض. ومع ذلك يوضح المنسق العلمي أن شجرة الأرز اللبنانية كانت على وشك الانقراض لولا تداعيات الحرب مع إسرائيل والتي ساعدت على توقف عملية الاحتطاب والتقطيع لأشجار الأرز التي جرى تقطيعها منذ زمن الفراعنة لتحنيط موتاهم وبناء معابدهم, وخلال الفترات الزمنية المتعاقبة , وخاصة أن الأرز يتمتع بمناعة كيميائية ضد التآكل من دودة الأرضة التي تأكل الأخشاب وهي احد الأسباب الرئيسية في الإقبال علية ,بالإضافة لتميزه بجود عالية في النحت والتشكيل. الأرز تغيرات الثلج والبشر المنسق العلمي بمحمية أرز الشوف نزار هاني الذي رافقنا خلال جولتنا داخل المحمية أكد أن ارتفاع درجة الحرارة وعدم تساقط الثلج خلال فصل الشتاء على جبل لبنان يعد من اكبر المخاطر التي تواجه الأرز, حيث أوضح أن بذور شجرة الأرز(الكرز) التي يستمر نموها نحو العامين لتصل مرحلة النضج , تحتاج لفترة بيات شتوي تحت جليد الثلج تصل إلي أكثر من شهرين متتابعين لتكون قادرة على النمو خلال فصل الربيع. ونظرا لظروف الإحترار العالمي وعدم تساقط الثلج خلال فصول الشتاء على جبل لبنان قان بذور الكرز لا تنبت منها سوى عدد لا يتعدى أصابع اليد الواحدة من كل 1000حبة , وهو ما دعا نزار هاني إلي القول أن هذا الارتفاع في درجة الحرارة وعدم تساقط الثلج هو ما يهدد شجرة الأرز بالانقراض في لبنان. ويواصل المنسق العلمي توضيحاته أن هناك تهديدات أخرى تشكل تحديا كبيرا فالنشاطات البشرية والحيوانية تساعد على انجراف التربة وتآكل الغطاء النباتي مسببا تعري الجذور لأشجار الأرز , بالرغم أن شجرة الأرز تنمو على صخور قابلة للتفتت ولها مقدرة عالية على اختراقها للوصول إلي المياه الجوفية وخاصة في فصول الجفاف . وتواجه شجرة الأرز تحديات من نوع آخر كما يوضح هاني فالرعي الجائر أو قتل الطيور عشوائيا يمثل انتهاكا لمبدأ التوازن الطبيعي الدقيق بين الكائنات الحية ومحيطها والعلاقات الوثيقة فيما بينها. حيث يمثل قتل الطيور عاملا مساعدا لكثرة الحشرات الضارة كالدودة الزياحة، التي تقتات من إبر الأرز، فتضعف شجرة الأرز, ويوضح المنسق العلمي هاني أن الغابات الجبلية تعمل كمرشحات تغذية لمياه الأمطار والثلوج ساعدت على تخزين المياه السطحية والجوفية. وتعد محمية أرز الشوف من اكبر المحميات الطبيعية في لبنان , وقد أعلنت كمحمية طبيعية عام 1996م وكمدى حيوي من قبل منظمة اليونسكو 29/6/ 2005م وتبلغ مساحتها 162 كم مربع على ارتفاع يتراوح بين 1000و 2000 م فوق مستوى سطح البحر ويبلغ عدد أشجار الأرز في لبنان ثلاثة مليون أرزه تتوزع على عدد من الغابات والمناطق أشهرها عين زحلتا بمهريه والباروك ومعاصر الشوف وقلعة نيحا. شجرة الأرز نمو عمره 3000عام انتقلت بنا الحافلة إلي محطة مغادرتنا الجنوبية حيث عرج بنا المنسق العلمي إلي أطراف الغابة الجنوبية , وبدا في إدهاشنا بأشجار الأرز المعمرة والتي تعتبر أقدم أشجار الأرز في العالم حيث يبلغ متوسط عمر أحداها 3000عام وأخرى يبلغ قطرها 16متر, أثناء تجوالنا أكد هاني أن شجرة الأرز تنمو في العديد من دول العالم ولكن يظل أرز لبنان الأشهر عالميا , فهو رمز لبنان الذي ينمو على ارتفاع 1200-2000 م فوق مستوى سطح البحر ,ويطلق علية شجرة "الرب". عدنا من بين أشجار الأرز المعمرة إلي بوابة المغادرة حيث يوجد مركز تسويق للمنتجات المحلية من عسل ومربيات وعطريات وكلها من إنتاج المجتمع المحلي وتقوم الجمعية بدور تسويق هذه المنتجات للزائرين للغابة. ساعد الطبيعة تساعد الإنسان وسط هذا الخوف فان الغابة عملت على خدمة المجتمع كما وضح ذلك المنسق العلمي أثناء وقوفنا في مركز تسوق المنتجات المحلية الواقع في بوابة المغادرة الجنوبي للغابة حيث أوضح أن الجمعية ومن خلال تدارك الأخطار التي تحيط بالمجتمع المحلي المحيط بها, ومن أبرزها مشكلة جفاف ينابيع المياه التي تعتبر منطقة جبل لبنان بمثابة مستودع تغذية لمعظم لبنان فهذه المنطقة تتكون من طبقة ترابية رسوبية تغطي الطبقة الصخرية التي تتميز بمسامات صخرية تسمح لمياه الأمطار وذوبان الثلوج بالتغلغل إلي الطبقات السفلى وتغذية الخزانات السطحية و الجوفية للينابيع والأنهار التي تعتبر منطقة مرتفعات جبل لبنان خزانات تغذية لها. وضمن سعي الجمعية إلي إبعاد التأثير السلبي للنشاط البشري والزائرين علي التنوع الحيوي للمحمية قامت بعمل ممرات خاصة بالزائرين لا يتجاوزوها, و منع التخييم والشواء, وسعت إلي تنظيم عملية الرعي للمجتمع المحلي. جمعية أرز الشوف التي تدير الغابة عملت على تشجيع المجتمع من خلال تشجيع مشاركته العوائد والمنافع فالمشاريع الصغيرة للمجتمع المحلي التي تتبناها الجمعية ستساعد على إحداث تنمية للمجتمع المحلي المحيط بالغابة, عبر تشجيع السياحة البيئية حيث بلغ عدد زوار المحمية حوالي (40000زائر) بالإضافة لذلك تقوم الجمعية بدور هام في تسويق المنتجات المحلية من العسل والعطريات والمربيات حيث بلغت إيراداتها حوالي (100000دولار أمريكي) كما تقوم الجمعية بعمل نشاطات توعية لطلاب المدارس المحيط بالمحمية. وللجمعية خطط مستقبلية تسعى من خلالها إلي دمج المحيط المحلي في جهود المحافظة على الغابة وجعل النشاط البشري متوازن مع البيئة المحيطة به وتشجيع الاستثمار السياحي من خلال دعم نزل ومطاعم تدعم النظام البيئي. العودة إلي بيروت الساعة 2بعد الظهر ودعنا الغابة متجهين إلي قرية الشوف الأعلى حيث كنا في ضيافة احد المطاعم الشعبية الذي دعمته الجمعية, لم نرى في القرية سوى البيوت وحدائق التفاح والعنب وهي متدلية للأسفل وشوارع فارغة من المارة, بهذا الهدوء وتحت ظلال أشجار العنب تناولنا غدائنا وأخذنا استراحة قصيرة, بعدها عدنا متجهين نحو بيروت العاصمة لإكمال الورشة التدريبية التي استمرت على مدى أسبوعا كاملا, وسط تساؤلات تبحث عن إجابة؟ ترى هل نستطيع استغلال ما تتمتع به اليمن من بيئات سياحية وغابات لازالت تعاني التدمير ولعل محمية حوف بمحافظة المهرة اقرب مثال للإهمال وعدم الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة. الجهود التي تبذلها جمعية أرز الشوف بالتعاون مع وزارة البيئة اللبنانية نجحت في وقف الانقراض, والتدمير لرمز لبنان ولكن تظل التغيرات المناخية تهديد فعلي لشجرة الأرز مع أن شجرة الأرز تقاوم التغيرات بطبيعتها, وتظل جهود الباحثين أمل لهذه الغابة وهذا الكنز العالمي.