تراجع حضور الحراك الانفصالي في غير وسائله الإعلامية على نحو مثير للدهشة، رغم تزايد أنشطته الميدانية والتطورات الكبيرة بأجندته السياسية، فالشركاء المعارضون للنظام الذين دأبوا على رصد وترويج كل همزة أو غمزة في صفوفه بات لديهم في سوح الاعتصامات مايغنيهم عن استجداء المناكفة السياسية من شوارع التخريب أو الهتافات الانفصالية. يوماً بعد آخر تتجلى في اليمن حقيقة غياب قواسم الشراكة الوطنية بين القوى المعارضة للنظام، وإن التحالفات الناشئة بينها لا تتعدى كونها حالة انتهازية مفرغة من أي غايات وطنية عليا سوى المصالح الحزبية والفئوية.. فلم يكن تجاهل تطورات الساحة الجنوبية في الخطاب الإعلامي والسياسي لأحزاب اللقاء المشترك انشغالاً بساحات الاعتصامات ومشاريع التغيير بقدر ماهو هروب من الاعتراف بالتداعيات السلبية للممارسات القائمة، فلا أحد من قادة المعارضة يجرؤ على البوح بجزئية واحدة من التصريحات الأخيرة للسيد علي سالم البيض؛ كون ما قاله لا يحتمل التأويل إلى غير ما أكده بفصيح العبارة بأن الجنوب مقبل على الانفصال لا محالة.. أي أن السلطة صدقت بتحذيراتها وكذب المعارضون بتطميناتهم..! ربما كان خليجي عشرين منعطفاً للسلطة منحها فرصة ذهبية لكتم أنفاس الحراك وبسط ذراعها الأمنية على مختلف معاقله، إلا ان تحول المعارضة للعب بورقة التغيير وانقلابها على الخيارات الديمقراطية بتثوير الشارع أعاد الحياة مجدداً للمشروع الانفصالي، ومنح الحراك ضوءاً أخضر لاستئناف أنشطته المسلحة والتخريبية. فمدينة عدن التي وقفت فيها الوفود الخليجية مذهولة شهدت خلال مارس أوسع حملات تخريبية منذ إعلان الوحدة، دمرت كل معالمها الجمالية الحضارية، ومؤسساتها الخدمية، وعاثت بها فساداً.. رغم أن عدن كانت المدينة العصيبة على الحراك منذ نشأته وحتى بدء دعوات التغيير. أوضاع المحافظات الجنوبية اليوم أصبحت أكثر تعقيداً من أي مرحلة سابقة.. فالحراك لم يعد وحده في الساحة الجنوبية، بل إن تياراً إسلامياً متشدداً صار ينازعه على النفوذ في عدنوأبين والمكلا وأجزاء من شبوة.. كما أن تنظيم القاعدة يزداد نفوذه بقوة في أبين، ونجحت خلاياه في التمدد بقوة باتجاه مناطق استراتيجية للغاية في حضرموتوشبوة.. ومؤخراً لوحظ اندفاع الحزب الاشتراكي خاصة في عدنوحضرموت لاستعادة نفوذه القديم رغم أن ذلك بات صعباً، لكنه يعول على مفاجآت الزمن القادم. إن هذا السباق المحموم، والتنافس الشديد وإن بدا تعقيداً جديداً للساحة الجنوبية لكنه من المحتمل جداً ان يحقق للحراك ما كان يحلم به طوال السنوات الماضية وهو توحيد فصائله كحالة اضطرارية من أجل الصمود بوجه بقية التحديات. وبتقديري أن أطروحات علي سالم البيض الأخيرة كانت محبوكة بذكاء وتراعي التقاطع القائم بين المشاريع، فقد دعا إلى فك الارتباط تحت مسمى “الجنوب العربي” وليس “اليمن الديمقراطي” كما كانت عليها التسمية قبل الوحدة وذلك للجمع بين مشروع “تاج” الداعي للجنوب العربي ومشروع الحراك في الداخل، فيما أرجأ مناقشة الجزئيات إلى ما بعد الانفصال تفادياً للخلافات.. ولاشك أن "البيض" والحراك عموماً مدركون مسبقاً ان هواجس الخوف التي خلفها العهد الماضي مازالت جاثمة على صدور الكثير من أبناء الجنوب وقد تربك المشروع الانفصالي, لكنهم حالياً يعولون على انهيار الوضع فيما كان يعرف ب”الشمال” وخلق حالة رعب أشد إثارة للقلق والخوف مما تختزن الصدور، لتكون “الحمى” أهون من “الموت”.. وفي ظل وضع المعارضة الحالي الذي خلط الحابل والنابل دون أي محاذير وقائية، فإن صناعة الانهيار لم تعد محض خيار أقطاب اللعبة “السلطة والمعارضة”، بل قد يكون خياراً مفروضاً من قبل الحراك الذي يعد أمهر اللاعبين في ساحة اليمن في العمل الحركي الذي يكفل تفجير الأوضاع. للأسف يبدو لي أن كل الظروف الحالية والقادمة تصب لصالح انفصال الجنوب، وربما لن يضطر البيض لإجراء استفتاء طالما لن يكون في الطرف الآخر سوى شبح دولة قائمة على أنقاض دولة ديمقراطية.