شعر بالغيظ لعدم امتلاكهم بندقية حديثة مثل تلك التي يمتلكها أصدقاؤه.. بندقية الكلاشنكوف .. تلك التي يحملونها معهم كلما خرجوا للصيد أو ذهبوا لحراسة مزارع أهاليهم التي تقع خلف جبال القرية . لكنة أخيرا وجد بندقية جده القديمة .. بندقية طويلة من تلك التي كانوا يستخدمونها قديما .. إنها تكاد تبلغ طول قامته .. معظم أجزائها من الخشب الأحمر الداكن الذي كان قد تحول بفعل الزمن إلى اللون البني المسود ؛ لابد أن الأتربة قد تراكمت عليه مع بقع الزيت التي انعكس عليها الضوء عندما أخرجها من الدولاب . - هذه بندقية جدك .. أبو ناظور .. كان جدك يحملها معه كلما ذهب إلى أي مناسبة . قالت جدته وهي تحدق في البندقية ؛ كانت الابتسامة عريضة على وجهها وكأنما كانت تتذكر بعض اللحظات الحلوة التي مرت في حياتها ؛ هو الآخر راح يتخيل جده وهو شاب كحيل العينين وقد اجتمع شعر رأسه بسبب الدهن الذي يضعة علية .. ( يقولون أن الدهن يفيد الجسم ويمده بالصحة والعافية ) . راح يقلب الأشياء في الخزنة بحثا عن الطلقات .. شعور بالظفر يتملكة وهو يرى الخمس طلقات ؛ لكن المشكلة أنها كلها مستعملة يبدو أنها فاسدة .. اثر ضربة الزناد واضح على مؤخرتها يبدو أنها لم تنفجر حينها .. لكن لا بأس .. خطرت ببالة فكرة لا يدري من أين أتته .. أحس بأنه بكثرة الضغط عليها لابد أن تنفجر .. بدا واثق من شعوره .. ثم راح يتخيل نفسه وقد صوب بندقيته ناحية ذلك الهدف الذي وضعة أصدقاؤه منذ أيام على تلك الصخرة السوداء في منتصف الجبل . اتسعت ابتسامته وهو يتخيل منظر الهدف وهو يرتفع في الجو .. خطر ببالة أن يصيب الهدف في الطرف كي يدور بعدها في الجو بفعل الإصابة .. لا شك انهم سينبهرون بمهارته .. وسيتحدثون عنة كثيرا .. واتسعت ابتسامته اكثر وهو يتذكر السر في هذه الثقة التي تجعله مطمئنا تماما إلى قدرته على إصابة الهدف .. تذكر جده يوم أن دعاه ومعه ابن عمة للتصويب نحو أحد الأهداف .. راح يومها يشرح لهما طريقة التصويب . ( عليك أن تثبت البندقية إلى صدرك ثم تجعل الشوكة في منتصف الدائرة الحديدية ثم تجعلها في وسط الهدف وما عليك بعد ذلك سوى الضغط على الزناد ) يومها لم يصب الهدف في المرة الأولى .. لكن الإصابة كانت قريبة جدا من الهدف .. قريبة لدرجة أنه لم يكن يتصور أنها ستكون هناك وعندما جاء الدور على ابن عمة .. اعتقد أنه سيبعد اكثر لكنة أصاب الهدف .. أصابه تماما .. عندها حمت حميته وتوترت أعصابه وهو يرى ابن عمة الأصغر منة يصيب الهدف بينما هو لم يفعل ذلك .. التفت إليه جده يومها وهو يقول : (أ رأيت ؟ إن الإصابة سهلة .. فقط عليك أن تركز وتدع الباقي للبندقية ) حينها أصر على جده أن يعطيه فرصه أخرى عله يشفي غليله .. وبعد إلحاح أعطاه جده ما يريد . وبدا هادئا هذه المرة .. ركز كل فكره في الهدف .. جعل الشوكة في منتصف الدائرة ثم جعلهما معا في منتصف الهدف .. وانطلقت الرصاصة .. أصابت الهدف ومنذ ذلك اليوم وهو يشعر بالثقة في هذه البندقية . ( أرأيت انه أبو ناظور .. ولايخطىء أبدا ) قال له جده يومها . انتبه من خيالة وراح يحدق في البندقية وهو يخبطها بيده ويقول : - نعم انه أبو ناظور . وضع الطلقات في جيبه .. بينما أعطى البندقية لابن عمه الأصغر منه وهو يقول : - احملها أنت إلى التلة .. ومن هناك سأكمل أنا بقية المشوار . كان يخجل أن يحمل البندقية وهي بذلك الطول .. سيبدو منظره شاذا ولابد أن بنات قريته سوف يضحكن عليه حين يقارنه بأصحابه وهو يحملون أسلحتهم الحديثة الأنيقة . مضى مع ابن عمة وقطعا طريقهما وسط أزقة القرية إلى أن وصلا إلى التلة واختفيا عن الأنظار . اخذ البندقية وعلقها حول رقبته .. وراحا يواصلان طريقهما .. صعدا تلالا وهبطا أخرى .. كان يعمل جهده حتى لا تصطدم البندقية بالأرض أو الأحجار التي تعترض طريقهما حتى وصلا إلى مكان الهدف . هنالك كان أصحابه يجلسون .. افترشوا الأرض وراحوا يقتلون الوقت بالحديث .. وفي الأسفل امتدت المدرجات الزراعية على طول التلال والهضاب .. بدا المنظر رائعا .. أشعة الشمس انعكست على الزرع الأخضر فبدت الحقول والمدرجات كعروس تزهو بنفسها وتتبختر في زيها . الرياح هي الأخرى أدلت بدلوها فراحت تداعب الأوراق والسيقان برقة ووداعه .. وأصوات الطيور كان يتجاوب صداها في الوديان .. برك الماء الصغيرة والكبيرة انتشرت على طول السوائل الكثيرة التى كانت تشق التلال والهضاب . - أهلا .. ما هذه البندقية العجوز ؟ صاح غسان واقترب منه مع أصحابه وراحوا يتأملون البندقية بينما كان هو يحدق في الحجرة البيضاء التي وضعت كهدف وسط الصخرة السوداء . - أن الحاج صالح ظل يرمي عليها منذ الصباح لكنه لم يستطع أصابتها . قال غسان ذلك وهو يقلب البندقية بيده ويحدق فيها . - وأين هو الآن ؟ - انه في الأسفل .. يعمل في حقله . اتسعت الابتسامة على وجهه وبدت أسنانه الصفراء المتراكمة . كان الحاج صالح مشهورا عنه حبه للرماية وحذقه فيها .. وقلما كانت إصابته تخطئ هدفها .. وبيده اليسرى كتبت النهاية للكثير من الأرانب البرية والطيور الكبيرة .. لكنه اليوم لم يستطع إسقاط الهدف - لقد سب بندقيته وقال أنها لم تعد نافعة . قال غسان وهو يضحك .. بينما راح وهو يهبط التله متفاديا الاصطدام بالصخور والأشجار . - السلام عليكم ألقى السلام على الحاج صالح وبجواره كان ابنه وزوجته .. كانوا يقفون وسط الحقل بدا عليهم الإرهاق من كثره العمل . - قالوا لي انك لم تستطع أصابه الهدف . قال بحذر .. بينما كانت ابتسامة عريضة تتسع على وجهه . - منذ الصباح وأنا ارمي عليه .. لم يصب بأي طلقه .. يبدو انه حجر شيطاني . قال الحاج صالح وهو يضحك .. بدت التجاعيد الكثيرة على وجهه .. وجهه كان نحيلا .. لا بد أن ذلك بسبب القات الذي يتناوله بكثرة . - لكني سأسقطه . قال ذلك بثقة بينما راح الحاج صالح ينظر إليه من اسفل قدميه حتى رأسه ويهز رأسه علامة الاستهزاء وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامه ساخرة . استفزه الموقف فقبل التحدي من داخله .. ومن دون أن ينبس ببت شفه راح يعود أدراجه ويصعد التله من جديد وقد ارتسمت ابتسامه ماكرة على وجهه .. فهو يعرف السر .. سر بندقيته السحرية الذي لا يعرفه أحد غيره .. وهو متأكد انه سيصيب الهدف .. عندها فقط سيعرف هذا الرجل العجوز كيف يحترمه . وصل إلى قمة التله وأنفاسه تكاد تتقطع .. اخذ البندقية من غسان وشحنها بالطلقة .. تمترس خلف إحدى الأحجار وراح يصوب على الهدف . اغمض إحدى عينيه بينما راحت الأخرى تزن الشوكة والدائرة والهدف .. كان مطمئنا وهو يصوب .. بداخله شعور قوي بنجاح مهمته .. اطمئنان ولدته الثقة بناظور بندقيته الذي لا يخطئ . من حوله تحلق أصحابه .. وقفوا بخلفه وراحوا يسدون آذانهم بأصابعهم وينقلون أبصارهم بينه وبين الهدف . مضت فتره وهو يحدق في الهدف ثم ضغط على الزناد لكن الرصاصة لم تنطلق .. فقط سمع طرقه خفيفة كانت هي طرقه الزناد على الرصاصة . - اووووه .. لقد أسقطت الهدف . صاح غسان ساخرا وراح يصفق بيديه بينما الجميع يضحك من حوله عرف أن الرصاصة لم تكن صالحه .. ويبدو انه لا خير فيها .. لكن بقي لديه آمل بأنها لابد أن تنطلق . من جديد راح يصوب نحو الهدف .. حدق فيه طويلا قبل أن يضغط على الزناد .. لكن لا فائدة ترجى .. لم تنطلق الرصاصة أيضا . الشمس قاربت على الغروب والصمت خيم على المكان .. أحس بأنه صمت ثقيل . - ها .. هل أصاب الهدف ؟ صوت الحاج صالح ارتفع من الأسفل وهو يسئل عن النتيجة .. ضحكاته ارتفعت عندما علم أن الطلقات فاسده . نظرات الجميع حوله كانت تقول له نفس الكلام هي الأخرى . عض شفته والشعور با المرارة يملا حلقه .. كادت نظريته أن تفشل وبدا يحس بخيبة الأمل .. لكن عناده آبى عليه الاستسلام . للمرة الثالثة راح يصوب بندقيته ويضغط على الزناد لكن لا فائدة . نفخ بضيق وهو يضرب البندقية بيده ويسندها إلى الأرض : - أيتها الملعونة .. أن هذا ليس حتى بمقابل حملك على كتفي كل هذه المسافة . قال محدثا نفسه .. كان الإحباط والضيق قد بلغ منه مبلغا . كان غسان يقترب منه ليرى ما يمكنهم فعله .. وعيونه الخضراء كانت تنظر نحوه .. جذبه لون العيون الخضراء فراح يحدق فيها .. أن فيها أمرا ما .. أمر غامض .. لا يستطيع معرفته با الضبط . بدت له العيون كما لو أنها هدف يستحق التصويب نحوه .. خطر بباله فجاه أن يصوب عليها .. امسك ببندقيته وراح يوجهها نحو غسان .. وبالضبط نحو عيونه الخضراء .. كانت البندقية جاهزة للتصويب وإصبعه على الزناد . توقف غسان وهو يرى البندقية وهي تصوب نحوه .. ابتسم وهو يؤشر بيده .. تابع سيره .. لكن البندقية ما زالت مصوبة نحوه .. توقف مندهشا .. لم يدر ماذا يفعل .. هل يضحك أم يغضب ؟ راح يحدق بدهشة .. ما زالت إصبعه على الزناد يريد أن يضغط .. خطر بباله انه ربما انطلقت الرصاصة أصابت غسانا في مقتل .. لكنه كان قد يئس من انطلاق الرصاصة لقد جربها ثلاث مرات لكنها لم تنطلق يبدو أن نظريته كانت خاطئة منذ البداية . ما زال غسان يحدق فيه ويحتمي بيديه منه .. أصحابه أيضا كانوا يحدقون فيه .. توقفوا عن الكلام وراحوا ينظرون نحوه .. أثار الرعب بدت واضحة في العيون الخضراء .. ارتاحت نفسه وهو يرى الرعب يمتلك غسانا .. لا باس أذن أن يتسلى قليلا .. سوف يخيفه قليلا .. وسيخيف أيضا الباقين .. سيعوض حزنه بالتسلية ..ويلعب بأعصابهم .. ولا باس أن يضغط على الزناد فصوت الطلقة سيجمد الدم في عروقهم . - انتبه .. لا تدع الشيطان يضحك عليك . صاح غسان وهو واقف مكانه وقد ألجمته المفاجأة . يده على الزناد تريد أن تضغط لكن ضيقا شديدا يهبط عليه .. ماذا لو انطلقت الرصاصة ؟ راح يسائل نفسه . لكنه متأكد أن الرصاصة لن تنطلق .. لقد يئس من ذلك . لكن ماذا لو انطلقت .. أن المغامرة صعبه هنا .. الإحساس با الضيق يزداد .. والرغبة تملؤه في أن ينهي الأمر أما أن يطلق أو يبعد البندقية . كاد أن يضغط الزناد .. لكن شريطا من الصور مر أمامه .. صوره أمه وجدته وعمته والناس .. الكل كان يصيح به : " انه الشيطان من يأمرك بهذا .. دع السلاح " الأصوات ما زالت ترتفع .. والصور تأبى أن تفارق مخيلته .. إصبعه على الزناد يريد أن يضغط .. والأصوات والصور تحاصره .. في لحظه ما فقد صوابه لد يدر إلى من يستجيب .. الضيق يحاصره .. صدره يكاد ينفجر من الانتظار .. يريد أن يضغط إصبعه .. لكن فجاه ودون أن يشعر راح يصوب ناحية الهدف .. ناحية الحجر الأبيض .. ويركز في التصويب .. ويضغط على الزناد .. لتنطلق الرصاصة . صوت الرصاصة سد أذنيه فلم يعد يسمع شيئا .. كان يرى أصحابه يصيحون وهم يتقافزون : - لقد أنزلت الهدف . الجميع كان مسرورا .. خيل أليه انه رأى الهدف لقد كان يطير في الجو . الحاج صالح صعد هو الأخر وفي عيونه كانت هنالك نظرات إعجاب .. اقترب منه وراح يربت على كتفه .. الجميع كان مبهورا به .. لكنه لم يكن معهم .. كان يتخيل منظرا واحدا .. وقلبه يدق بشده .. اغمض عينيه وراح يبعد عنه شبح المنظر .. كان يتخيل غسان وهو ملقى على الأرض وهو مضرج بدمائه . عمر محمد النونو جبل جرداد 1999