تعز.. اعتصام واحتجاجات نسائية للمطالبة بضبط قتلة المشهري وتقديمهم للعدالة    شرطة تعز تعلن القبض على متهم بقتل مدير صندوق النظافة والتحسين    إصلاح المتون والزاهر والمطمة بالجوف يحتفل بالذكرى ال35 للتأسيس    مسيرات حاشدة بمأرب نصرة لغزة وتنديدا باستمرار جرائم الإبادة    القسام توقع آليات لقوة صهيونية في كمين نوعي شمال غزة    الرئيس المشاط يعزي في وفاة الشيخ عبد الله أحمد القاضي    بن حبريش: نصف أمّي يحصل على بكلاريوس شريعة وقانون    المركز الثقافي بالقاهرة يشهد توقيع " التعايش الإنساني ..الواقع والمأمون"    رئيس الاتحاد الأفريقي للكرة الطائرة تكرم محمد صالح الشكشاكي خلال بطولة أفريقيا للشباب بالقاهرة    الرشيد يتأهل إلى نهائي بطولة "بيسان الكروية 2025"    العليمي أصدر مئات القرارات في الظلام.. حان الوقت لفتح الملفات    متفوقاً على ميسي.. هالاند يكتب التاريخ في دوري الأبطال    ريمة .. مسيرات جماهيرية تحت شعار "مع غزة .. لن نقبل بعار الخذلان مهما كانت جرائم العدوان"    نتنياهو يطرد أردوغان من سوريا    أين ذهبت السيولة إذا لم تصل الى الشعب    مانشستر سيتي يتفوق على نابولي وبرشلونة يقتنص الفوز من نيوكاسل    الربيزي يُعزي في وفاة المناضل أديب العيسي    محافظة الجوف: نهضة زراعية غير مسبوقة بفضل ثورة ال 21 من سبتمبر    الأرصاد يخفض الإنذار إلى تحذير وخبير في الطقس يؤكد تلاشي المنخفض الجوي.. التوقعات تشير إلى استمرار الهطول    الكوليرا تفتك ب2500 شخصًا في السودان    جائزة الكرة الذهبية.. موعد الحفل والمرشحون    البوندسليجا حصرياً على أثير عدنية FM بالشراكة مع دويتشه فيله    لماذا تراجع "اليدومي" عن اعترافه بعلاقة حزبه بالإخوان المسلمين    جنوبيا.. بيان الرئاسي مخيب للآمال    صندوق النظافة بتعز يعلن الاضراب الشامل حتى ضبط قتلة المشهري    تعز.. إصابة طالب جامعي في حادثة اغتيال مدير صندوق النظافة    سريع يعلن عن ثلاث عمليات عسكرية في فلسطين المحتلة    وعن مشاكل المفصعين في تعز    الصمت شراكة في إثم الدم    الفرار من الحرية الى الحرية    ثورة 26 سبتمبر: ملاذٌ للهوية وهُويةٌ للملاذ..!!    مسيّرة تصيب فندقا في فلسطين المحتلة والجيش الاسرائيلي يعلن اعتراض صاروخ ومسيّرة ثانية    الهيئة العامة للآثار تنشر القائمة (28) بالآثار اليمنية المنهوبة    إشهار جائزة التميز التجاري والصناعي بصنعاء    البنك المركزي يوجه بتجميد حسابات منظمات المجتمع المدني وإيقاف فتح حسابات جديدة    الوفد الحكومي برئاسة لملس يطلع على تجربة المدرسة الحزبية لبلدية شنغهاي الصينية    نائب وزير الإعلام يطّلع على أنشطة مكتبي السياحة والثقافة بالعاصمة عدن    بتمويل إماراتي.. افتتاح مدرسة الحنك للبنات بمديرية نصاب    تعز.. احتجاجات لعمال النظافة للمطالبة بسرعة ضبط قاتل مديرة الصندوق    موت يا حمار    أمين عام الإصلاح يعزي الشيخ العيسي بوفاة نجل شقيقه ويشيد بدور الراحل في المقاومة    نتائج مباريات الأربعاء في أبطال أوروبا    دوري أبطال آسيا الثاني: النصر يدك شباك استقلال الطاجيكي بخماسية    رئيس هيئة النقل البري يعزي الزميل محمد أديب العيسي بوفاة والده    حكومة صنعاء تعمم بشأن حالات التعاقد في الوظائف الدائمة    الامم المتحدة: تضرر آلاف اليمنيين جراء الفيضانات منذ أغسطس الماضي    استنفاد الخطاب وتكرار المطالب    التضخم في بريطانيا يسجل 3.8% في أغسطس الماضي    لملس يزور ميناء يانغشان في شنغهاي.. أول ميناء رقمي في العالم    وادي الملوك وصخرة السلاطين نواتي يافع    العرب أمة بلا روح العروبة: صناعة الحاكم الغريب    خواطر سرية..( الحبر الأحمر )    اكتشاف نقطة ضعف جديدة في الخلايا السرطانية    100 دجاجة لن تأكل بسه: قمة الدوحة بين الأمل بالنجاة أو فريسة لإسرائيل    في محراب النفس المترعة..    بدء أعمال المؤتمر الدولي الثالث للرسول الأعظم في صنعاء    العليمي وشرعية الأعمى في بيت من لحم    6 نصائح للنوم سريعاً ومقاومة الأرق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الموقف الشرعي من مشاريع التجزئة والإنفصال (2-3)

لما كانت السنن كما أوضحت قسمين سنة خلق وفطرة، وسنة دينية تشريعية موافقة لسنة الفطرة فسنبين الوحدة كسنة فطرية ثم الوحدة كسنة تشريعية دينية.

أ) الوحدة سنة من سنن الخلق والفطرة:
السلام والوحدة مقصد الأديان والصراع والحروب والطغيان عبر إثارة الفرقة والنزاع والاختلافات مقصد الشيطان، وهذا ما توضحه الآيات التالية في سورة البقرة بقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ{208} فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ{209} هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ{210} سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ{211} زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ{212} كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{213} (البقرة:208-213).
فهذه الآيات بينت لنا مقصداً عظيماً من مقاصد الإسلام وهو السلام(ْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً) ثم جاء النهي عن تتبع خطوات الشيطان لأن خطواته تقود إلى العداوة والنزاع عبر الفرقة وإثارة الاختلافات والعصبيات المختلفة لإثارة الحروب والانقسامات في المجتمعات، وبالتالي جاء التنبيه إلينا من الزلل الذي يقود إلى اتباع خطوات الشيطان لاسيما بعد قيام البينات الواضحة في هذا السياق، ثم يأتي الحديث عن وحدة الأمة بما يؤكد مدى أهميته (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ) فقوله تعالى: ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)، الآية هنا تشير بأن وحدة الأمة كانت أصل في البشرية أي وحدة الأصل البشري الفطري وليس المقصود بوحدة الأمة هنا وحدة الأمة الاجتماعية بدليل قوله تعالى :( فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ) فالحديث عن بعث الأنبياء والرسل تالياً لوحدة الأمة دلّ على أن المقصود بالوحدة هنا وحدة الأصل البشري وهنا إشارة لوحدة الأمة فطرة وخلقاً لا وحدة الأمة كسنة تشريعية وأساس هذه الوحدة الفطرية التذكير للبشر بوحدة أصلهم فكلهم لآدم والأخوة الطينية هذه تستوجب أخوة الدين وهذا التذكير بوحدة الأصل يكتسب أهمية لأن الناس عندما تتعدد أوطانهم وأقوامهم وألوانهم، تكون مدعاة للخلاف الذي يؤدي إلى الانقسام والشيطان وحزبه يغذون هذه الاختلافات ويثيرون النزعات المختلفة وقول الله سبحانه وتعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } الإسراء: 64. إشارة قرآنية إلى أساليب الشيطان في إثارة النزعات بأن يستفزهم بصوته أي يبدأ بالوسواس الخناس والكلمة الخبيثة التي تثير النزعات العصبية وهي سرعان ما تستفز فتبدأ الفتنة بالكلمة الخبيثة وتنتهي بأن يجلب عليهم بخيله ورجله أي بإثارة الحروب فهذه منهجية الشيطان في السيطرة على الناس عبر جنوده من المنافقين المندسين داخل الأديان السماوية.
ويتعزز فهمنا هذا لهذه الآية عندما يُنظر إليها من زاوية سننية بما قاله علماء التفسير فقد اختلفوا في تفسير معنى هذه الآية الكريمة ولكنهم أوردوا هذا الرأي أيضاً : (أن الآية تشير إلى وحدة الأصل البشري). فقد ورد في فتح القدير للإمام الشوكاني في الجزء الأول ص 245، [ "كان الناس أمة واحدة" واختلف في الناس المذكورين في هذه الآية منهم؟ فقيل بنو آدم حين أخرجهم الله نسماً من ظهر آدم وقيل آدم وحده وسمى ناساً لأنه أصل النسل وقيل آدم وحواء وقيل القرون الأولى وقيل المراد نوحاً ومن في سفينته...الخ] انتهى كلام الإمام الشوكاني –رحمه الله-.
صحيح أن علماء التفسير لم يطرقوا موضوع الوحدة الفطرية والوحدة التشريعية ولكن مجرد إشارتهم إلى آدم وإلى الأصل الجامع للناس كافي.
كما في قوله تعالى : ( فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )
بعد البيان القرآني لوحدة الأمة كسنة فطرية (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) يأتي البيان القرآني بعدها بقوله تعالى :( فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ )
فالقرآن هنا يبين لنا أن بعث الرسل والأنبياء والكتب السماوية إنما نزلت لتحقيق وحدة الأمة ديناً وتشريعاً بما يطابق وحدة الأمة طيناً وفطرة (ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) وهذه الآية دلت على أن أصل الفرقة هو الاختلاف سواء كان خلافاً حقيقياً خلاف الأهواء والمصالح بين الزعامات السياسية أو خلافاً متوهماً العصبية العرقية أو القبلية أو الطائفية أو اللون أو القوم وهو خلاف وهمي لأن هذه الفروع المختلفة تنسى وحدة أصلها فكل البشرية ينحدرون من أصل واحد.
وقوله تعالى : ( وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )
بيان لنا أيضاً أن الأديان تتنزل في البداية فتحل الخلافات وتحقق وحدة الأمة وتقوم البينات على أهل الدين بمقام وحدة الدولة ووحدة الأمة ولكن الأهواء السياسية للزعامات السياسية من بعد الرسل تدفعهم لتمزيق وحدة الأمة مجدداً (بغياً بينهم) فالبغي هنا هو الأهواء السياسة التي تحركها الدوافع العصبية فتؤدي إلى تمزيق وحدة الأمة السياسية ووحدتها الوطنية.
وقوله تعالى: ( فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )
بيان لمقام وحدة الأمة فيصفها الله سبحانه وتعالى بالهداية ويصفها بالصراط المستقيم،ومما يؤكد وصف طريق وحدة الأمة بأنها ( الهدى ) ومشاريع التجزئة والانفصال بأنها ( الضلال ) بمنهجية تفسير القرآن بالقرآن قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }النحل: 93.
كما لا يفوتنا في هذا المقام الإشارة إلى الأهمية التي أبرزتها الآية لوحدة الأمة
(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ) فمن يتدبر هذه الآية الكريمة سيجد استهلال الآية يبدأ (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) وهذا يبين المقام العظيم لوحدة الأمة وما يؤكد هذا المقام والأهمية لوحدة الأمة هو قوله: ( فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ) فجعلت الآية مدار وأساس بعث الأنبياء والرسل وإنزال الكتب هو تحقيق وحدة الأمة بحل الخلافات التي تنشأ بين الناس فتؤدي إلى تمزيقها وهذا يدل على أن وحدة الآمة والتي لا تتم إلا بوحدة الدولة هي أعظم مقاصد الأديان عبر التاريخ.
ب ) وحدة الأمة سنة تشريعية ومقصداً عظيماً من مقاصد الإسلام
كما أن وحدة الأمة سنة فطرية(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) من خلال الإشارة إلى وحدة الأصل البشري {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }النساء: 1.
جعل الله وحده الأمة سنة تشريعية ومقصداً عظيماً من مقاصد الشريعة بما يطابق وحدة الأمة كسنة فطرية بدليل قوله تعالى:
وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ{33} وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ{34} وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ{35} وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ{36} وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ{37} حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ{38} وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ{39} أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ{40} فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ{41} أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ{42} فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{43} وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ{44} الزخرف: 33-41.
فقوله تعالى: ( وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ )
هذه الآية الكريمة بينت لنا بشكل صريح أن وحدة الأمة مقصد من مقاصد الإسلام، ( وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) لأن (لولا) كما يقول علماء اللغة أداة شرط يمنع ما بعدها (فعل الشرط) جواب شرطها وفعل الشرط هو (أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) وجواب الشرط ( لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ) ومعنى الآية ولولا أهمية مقصد قيام وحدة الأمة لأمهلنا الكافرين بالرحمن في الدنيا ولم نعجل بعقوبتهم حتى تنمو ثرواتهم ويترفون فتصبح بيوتهم مزخرفة بالفضة ولكن خطورة تمزيق وحدة الدولة وتمزيق وحدة الأمة إلى شيع وعصبيات متصارعة متقاتلة اقتضى إنزال عقوبة الله بالكافرين بوحدة الأمة عبر مراحل التاريخ المختلفة لأن الله سبحانه وتعالى اقتضت حكمته للمحافظة على وحدة الأمة أن يبعث الرسل على واقع منقسم ممزق إلى شيع أي عصبيات مختلفة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ } الحجر:10. فيقيموا وحدة الأمة بعد اختلاف وتفرق فتقوم الحضارة ومن بعد الرسول يبدأ الانحراف بضعف كلمة التوحيد والعبودية لله في نفوسهم فيضعف الولاء لله ويزداد الولاء للزعامات السياسية وأهواء الزعامات السياسية تؤدي إلى الصراع والصراع يؤدي إلى دعوات التجزئة والانفصال فتتمزق وحدة الأمة وتنهار الحضارة فيبعث الله رسول جديد رحيم بالناس فينتصر على القيادات الانفصالية ويؤسس لوحدة الأمة وقيام الدولة والحضارة وهذا ما حصل عبر التاريخ لمن يفهم القرآن يؤكد هذا الفهم بمنهجية تفسير القرآن بالقرآن.
قوله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ) فالوحدة هي مدار بعث الأنبياء والرسل ونزول الديانات وكتب السماء.
ومما يؤكد أن الرسل دعاة توحيد ووحدة وأنه عندما يحصل انحراف واختلاف يمزق وحدة الأمة يبعث الله رسول ليقضي بين الناس قوله تعالى:
{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }يونس: 19.
وكلمة الله التي سبقت هي مجيء رسول جديد ليقضي بينهم بدليل قوله تعالى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ{46} وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ{47} يونس.
وما يؤكد أن وحدة الأمة هي أساس قيام المجتمعات والدول والحضارات وإن تمزق الأمة هو السبب الرئيسي عبر التاريخ لانهيار وسقوط الحضارات هو قوله تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ{117} وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ{118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ{119} وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ{120} هود.
فهذه الآيات بينت لنا كيف أن انقسام الأمة وتمزقها سبب هلاك المجتمعات والدول والحضارات { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ{117}
ولما كانت وحدة الأمة هي أساس الإصلاح السياسي فإن سبب الهلاك هو الخروج عن الصلاح بالعدول إلى تمزيق الأمة: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ{118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ{119}. وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً }لا يعني ذلك عدم مشيئته لوحدة الأمة بل بيان لأصل الحرية الإنسانية التي تأسست بمشيئة الله بأن يكون للناس حرية مشيئة بالإيمان والكفر( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).
وبالتالي فمشيئة الله جعلت وحدة الأمة من هدى السماء فيهتدي إليها المؤمنون ويعرفون مكانتها من الدين نفسه أما غيرهم فلا يدرك هذه السنة الاجتماعية إلا بعد تجارب طويلة في الواقع مثل أوربا التي كانت مسرحاً لحربين عالميتين في القرن الماضي أدركت أنه لا مكان لها في القرن الواحد والعشرين عصر التكتلات السياسية والاقتصادية الكبرى إلا بوحدة أوربية على الرغم من العصبيات القومية وصراع الدول الذي جعلها تعاني حربين عالميتين.
وأوربا نفسها من قبل أدركت سنة الحرية ومقاومة الطاغوت الكنسي الذي انتقده القرآن بشدة عبر تجارب طويلة ومريرة مع الحكم الكهنوتي الديني بنزعته الطاغوتية (الثيوقراطية) فجاءت الديمقراطية كتعبير عن هروب أوربا من حكم الطاغوت باتجاه مقصد الحرية الذي هو مقصد الأديان أساساً فاقتربت أوربا من روح الإسلام والقرآن عبر التجربة صوب هذين المقصدين الحرية والوحدة إذن فمشيئة الله هدت المؤمنين إلى وحدة الأمة بأن عظّمتها وجعلتها مدار الأديان وبعث الرسل وإنزال الكتب (فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }البقرة213) حقيقة أن وحدة الأمة أصل في الفطرة وأصل في الدين، بإذن الله والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وفي هذا السياق القرآني نفهم معنى قوله: ( وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ) بأن وحدة الأمة سنة تشريعية ومقصد عظيم من مقاصد الإسلام إذ لولا هذا المقصد (وحدة الأمة) لأمهل الله الكافرين بوحدة الأمة ولم يعجل عقوبتهم عبر التاريخ البشري لأهمية وحدة الأمة إذ هي أساس قيام المجتمعات والدول والحضارات وتمزيق الأمة هو أساس هدم المجتمعات والحضارات.
فدلت هذه الآية على أهمية وحدة الأمة كمقصد شرعي ( وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) ديناً وشرعاً بما يطابق وحدة الأمة خلقاً وفطرة، (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً).
فيتحقق قوله تعالى: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ).
كما دلت على مشروعية العقوبة لدعاة الانفصال والتجزئة وهذا التشريع الرباني في الدستور الإلهي (القرآن) (تجريم الخارجين على وحدة الدولة والأمة) ما تعمل به كافة الدساتير البشرية حالياً للخارجين عن وحدة الدولة ووحدة الأمة.
فدل هذا على عظمة التشريع الإلهي لوحدة الأمة عبر التاريخ لولا شياطين الأنس من المنافقين الذين يؤولون الأديان ويصرفوا الناس عن عظمة الأديان بتأويل مآلات نصوص الكتب السماوية إلى مقاصدهم الدنيوية لا إلى مقاصد الكتب السماوية احتكاراً للسلطة والثروة وللمال .
{هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ((الجزئيات)) ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ((تلبيس الحق بالباطل)) وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ((صرف الكتاب عن مقاصده ومآلاته))وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ }آل عمران7
فأهل الزيع (شياطين الأنس) يحرفون كتب السماء تحريف تأويل لا تحريف تنزيل عبر تسريب المنهجية الجزئية اللغوية في فهم الكتب السماوية التي تفصل الآيات عن السياق الموضوعي (أمهات الكتب) بل تفصل كلمات الآية الواحدة عن بعضها فتضيع أمهات معاني الكتاب وينقلب تفسير الكتب السماوية إلى عملية ترجمة حرفية لكل كلمة على حدة وهذا الأسلوب يصرف الكلمة عبر التفسير الأحادي اللغوي الجزئي عن سياقها الموضعي (يحرفون الكلم عن مواضعه) أي يحرفونه عن سياقه عبر المنهجية الجزئية (يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة) فتكون النتيجة هي تلبيس الحق بالباطل أي تغطية حقائق الكتب السماوية عبر التأويل بثوب من التفسير تضيع معه أمهات معاني الكتاب مما يسبب الشك في الكتب نفسها كما فعل الأوربيون عند الثورة على المسيحية فالأهواء السياسة تجعل المنافقين يفسرون الأديان بأسلوب يجعل المؤمنين يشكون في الكتب نفسها. {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ }الشورى:14.
{فَلِذَلِكَ فَادْعُ((إلى التوحيد والوحدة)) وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ((الكتب السماوية جميعها)) وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }
وقد أسهبت هنا في منهجية فهم القرآن والكتب السماوية لخطورة الفهم الجزئي للقرآن (آيات الأحكام) ولغياب فهم أم الكتاب الذي جعل أمر تنظيم الدولة غير واضح المعالم مما أدى إلى الانحراف السياسي المبكر في تاريخنا وإلى كثير من الحروب والصراعات السياسية الداخلية التي وصلت إلى حد تمزيق وحدة الأمة عدة مرات في تاريخنا وتعرضها للغزو الخارجي (حملات التتار والحملات الصليبية وانقسام الأمة حالياً).
ففي وجهة نظري أن شياطين الأنس من المنافقين نجحوا عبر تأويلهم بخطة مرتبة في حصر فهم المسلمين الصادقين للقرآن في فقه المحكمة وصرفوا عنهم فقه الدولة والحضارة ليحققوا أطماعهم السياسية عبر الدولة.
وصريح القرآن يؤكد هذه المؤامرة بأن أهل الزيغ يصرفون الناس من أم الكتاب أي كلياته إلى جزئياته ( فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) آل عمران:7.
فالتآمر التأويلي الإسرائيلي المجوسي لم يهتم بالتفسير الباطني لآيات القرآن قدر اهتمامه بتسريب المنهجية الجزئية لفهم القرآن وقد تلقى علماء التفسير هذه المنهجية بحسن نية مما جعل كتب التفسير التراثية أقرب إلى الترجمة اللغوية لمفردات القرآن منها إلى التفسير الموضوعي الكلي ثم التفصيلي.
وهذا الموضوع الذي أسهبت فيه (أسلوب أهل الزيغ في تأويل الكتب) له علاقة بموضوعنا (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة). بقوله تعالى:
{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ{36} وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ{37} حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ{38} وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ{39} أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ{40} فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ{41} أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ{42} فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{43} الزخرف
فقوله تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ{36} وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ{37} أي من يغفل عن مكانة وحدة الأمة في القرآن نقيض له شيطاناً من شياطين الأنس وهذا ما حصل والسبب أن عقلية العلماء التقليديون مشبعة بفقه المحكمة وغير مستوعبة لأم الكتاب ولمقاصد الدولة فيسهل على الشيطان إغوائهم بسبب غفلتهم عن ذكر الرحمن حتى أنهم لا ينظرون لمقاصد فقد الدولة إلا كما ينظر المصاب بالعشي الليلي (ومن يعش عن ذكر الرحمن).
والمقصود بقوله تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين).
فذكر الرحمن هنا بصورة خاصة هو مقام وحدة الأمة ووحدة الدولة في القرآن بدليل قوله تعالى في بداية هذه الآيات: ( وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ) .
فالكافر بالرحمن هو شيطان الإنس وهو الكافر بوحدة الأمة والذي يعش عن ذكر الرحمن هو العالم الذي قرينه شيطان الأنس.
ووصف القرآن للخارج عن وحدة الأمة بالكافر (لجعلنا لمن يكفر بالرحمن) يدل على مقام وحدة الأمة والشعب ووحدة الدولة في القرآن ولهذا لم أجد مقصدا ًفي القرآن يشدد عليه كالوحدة بحيث يعتبر الخروج عليه كفر وشرك في عدة مواضع قرآنية مثل هذا المقصد.
وقد وصف القرآن الكافر بالوحدة كافر بالرحمن لأن وحدة الأمة هي رحمة الله بخلقه لأنها أساس قيام المجتمعات والدول والحضارات كما أن الفرقة عامل الهدم الرئيسي للحضارات عبر التاريخ. { وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ{8} أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{9} وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ{10} الشورى: 8-10
- مسئول التخطيط السياسي سابقاً في التجمع اليمني للإصلاح
الحلقة الأولى:
الموقف الشرعي من مشاريع التجزئة والإنفصال (1-3)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.