توتر وتحشيد بين وحدات عسكرية غرب لحج على شحنة أسلحة    عالم أزهري يحذر: الطلاق ب"الفرانكو" غير معترف به شرعا    تسعة جرحى في حادث مروع بطريق عرقوب شقرة.. فواجع متكررة على الطريق القاتل    الخدمة المدنية توقف مرتبات الموظفين غير المطابقين أو مزدوجي الوظيفة بدءا من نوفمبر    انتقادات حادة على اداء محمد صلاح أمام مانشستر سيتي    سؤال المعنى ...سؤال الحياة    برباعية في سيلتا فيجو.. برشلونة يقبل هدية ريال مدريد    بوادر معركة إيرادات بين حكومة بن بريك والسلطة المحلية بالمهرة    هل يجرؤ مجلس القيادة على مواجهة محافظي مأرب والمهرة؟    جحش الإخوان ينهب الدعم السعودي ويؤدلج الشارع اليمني    الأربعاء القادم.. انطلاق بطولة الشركات في ألعاب كرة الطاولة والبلياردو والبولينغ والبادل    العسكرية الثانية تفضح أكاذيب إعلام حلف بن حبريش الفاسد    غارتان أمريكيتان تدمران مخزن أسلحة ومصنع متفجرات ومقتل 7 إرهابيين في شبوة    إحباط عملية تهريب أسلحة للحوثيين بمدينة نصاب    الدوري الايطالي: الانتر يضرب لاتسيو في ميلانو ويتصدر الترتيب برفقة روما    الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية تُنظم فعالية خطابية وتكريمية بذكرى سنوية الشهيد    العدو الصهيوني يواصل خروقاته لإتفاق غزة: استمرار الحصار ومنع إدخال الوقود والمستلزمات الطبية    عدن.. هيئة النقل البري تغيّر مسار رحلات باصات النقل الجماعي    فوز (ممداني) صفعة ل(ترامب) ول(الكيان الصهيوني)    الأستاذ علي الكردي رئيس منتدى عدن ل"26سبتمبر": نطالب فخامة الرئيس بإنصاف المظلومين    الشيخ علي محسن عاصم ل "26 سبتمبر": لن نفرط في دماء الشهداء وسنلاحق المجرمين    مرض الفشل الكلوي (27)    فتح منفذ حرض .. قرار إنساني لا يحتمل التأجيل    الأمين العام لجمعية الهلال الأحمر اليمني ل 26 سبتمبر : الأزمة الإنسانية في اليمن تتطلب تدخلات عاجلة وفاعلة    انها ليست قيادة سرية شابة وانما "حزب الله" جديد    ثقافة الاستعلاء .. مهوى السقوط..!!    تيجان المجد    الشهادة .. بين التقديس الإنساني والمفهوم القرآني    الزعوري: العلاقات اليمنية السعودية تتجاوز حدود الجغرافيا والدين واللغة لتصل إلى درجة النسيج الاجتماعي الواحد    الدولة المخطوفة: 17 يومًا من الغياب القسري لعارف قطران ونجله وصمتي الحاضر ينتظر رشدهم    سقوط ريال مدريد امام فاليكانو في الليغا    قراءة تحليلية لنص "مفارقات" ل"أحمد سيف حاشد"    الرئيس الزُبيدي يُعزي قائد العمليات المشتركة الإماراتي بوفاة والدته    محافظ العاصمة عدن يكرم الشاعرة والفنانة التشكيلية نادية المفلحي    الأرصاد يحذر من احتمالية تشكل الصقيع على المرتفعات.. ودرجات الحرارة الصغرى تنخفض إلى الصفر المئوي    في بطولة البرنامج السعودي : طائرة الاتفاق بالحوطة تتغلب على البرق بتريم في تصفيات حضرموت الوادي والصحراء    جناح سقطرى.. لؤلؤة التراث تتألق في سماء مهرجان الشيخ زايد بأبوظبي    وزير الصناعة يشيد بجهود صندوق تنمية المهارات في مجال بناء القدرات وتنمية الموارد البشرية    اليمن تشارك في اجتماع الجمعية العمومية الرابع عشر للاتحاد الرياضي للتضامن الإسلامي بالرياض 2025م.    شبوة تحتضن إجتماعات الاتحاد اليمني العام للكرة الطائرة لأول مرة    صنعاء.. البنك المركزي يوجّه بإعادة التعامل مع منشأة صرافة    رئيس الحكومة يشكو محافظ المهرة لمجلس القيادة.. تجاوزات جمركية تهدد وحدة النظام المالي للدولة "وثيقة"    خفر السواحل تعلن ضبط سفينتين قادمتين من جيبوتي وتصادر معدات اتصالات حديثه    ارتفاع أسعار المستهلكين في الصين يخالف التوقعات في أكتوبر    كم خطوة تحتاج يوميا لتؤخر شيخوخة دماغك؟    أوقفوا الاستنزاف للمال العام على حساب شعب يجوع    عين الوطن الساهرة (1)    سرقة أكثر من 25 مليون دولار من صندوق الترويج السياحي منذ 2017    هل أنت إخواني؟.. اختبر نفسك    مأرب.. فعالية توعوية بمناسبة الأسبوع العالمي للسلامة الدوائية    في ذكرى رحيل هاشم علي .. من "زهرة الحنُّون" إلى مقام الألفة    مأرب.. تسجيل 61 حالة وفاة وإصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام    على رأسها الشمندر.. 6 مشروبات لتقوية الدماغ والذاكرة    كما تدين تدان .. في الخير قبل الشر    الزكاة تدشن تحصيل وصرف زكاة الحبوب في جبل المحويت    صحة مأرب تعلن تسجيل 4 وفيات و57 إصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام الجاري    الشهادة في سبيل الله نجاح وفلاح    "جنوب يتناحر.. بعد أن كان جسداً واحداً"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تفاعل القصيدة مع الفنون السمعبصرية والتشكيلية في مجموعة (عصفور الصمت) للشاعر عبد الستار جبر2-1
نشر في 14 أكتوبر يوم 01 - 04 - 2011

من تحديات التجريب الشكلاني التي تواجهها القصيدة الحداثية هو قدرتها على الإفادة الممكنة من شعريات الفنون السمعبصرية والتشكيلية، فبعد أن اجتازت هذه القصيدة خلال مراحل تطورها المتلاحقة (الستينيات وما بعدها) مرحلة تطويع الفنون اللسانية المجاورة للشعر (شعرية السرد، شعرية الدراما) انتقل مجال التنافذ والانفتاح إلى مرحلة الكتابة بالخطوط والألوان وبالصورة المتحركة التي تعرف بمرحلة الكتابة البصرية حيث يجري التعبير بالكلمة والرمز متوازيا مع التعبير بالصورة الثابتة (الرسم) أو التعبير بالشريط المتحرك (الفيلم) في استثمار جمالي وأدائي لتناغم التعبير بين الكلمة والتخيل من جهة وبين التجسيد وتوظيف الحسية السمعبصرية لإيجاد التأثير من جهة أخرى، ولا شك في أن آليات تشكيل الصورة الشعرية أو التصوير الشعري هي فضاء الانبثاق والتنوير لهذا التوازي. وبالرغم من أن التجريب في هذا الاتجاه قد بدأ مبكراً إلا أنه مازال في طور التشكل والتصاعد كما أن السير فيه صعب المسلك وذلك بسبب الفوارق الثابتة في الجنس والماهية بين الفنون اللسانية والتطبيقية).
فدائما ما يوصف الفن الشعري بأنه متفوق على الفنون الأخرى وان الأخيرة هي التي تسعى للحاق به فالفن التشكيلي يروم الوصول لشعرية القصيدة (لأنه الأقرب إلى عالم الروح بتجاوزه للمكانية المحددة وحسيتها في فن الرسم واختراق مقولة الزمان، حيث يتحول الصوت إلى كلمة ورمز ومادته هي الخيال والفكر وعندما يبلغ هذان العنصران أقصى درجات تطورهما يتم الاستغناء عن أي واقعة حسية) وبالمثل من ذلك فان الفيلم يسعى للوصول إلى تخوم الشعرية والاستعانة بها في التحول في الأزمنة والتنقل في الأماكن (ولذا كانت الإشكالية هي كيفية الموازنة بين تدفق الأحداث واندفاعها المتصل وبين الارتقاء بالبناء السردي نحو تمثل الرمز والدلالة في الشعر، والأداة لهذا التخليق السردي لشاعرية الزمان والمكان هي المونتاج الذي يتيح تلك التلاقيات والافتراقات بين بنى السرد.
القصيدة الحديثة بدورها لم تكتف بمجالها التعبيري (اللغوي) وارتأت الدخول إلى عوالم الفن التشكيلي تحت وطأة إغراء (اللون، السطح، الكتلة، الفراغ، الخط، الهندسة، التنسيق) واستثمار اللذة الحسية لهذه المفردات، أما الدخول إلى عالم الفيلم (الشريط المتحرك) فهو اتجاه أكثر إثارة وصعوبة من سابقه وذلك إن جميع الفنون تطمح إلى الحركة والسينما أكثر الفنون شمولاً لأنها يمكن أن تجمع الصراع البصري البحت للرسم والصراع الحركي للرقص والصراع الصوتي للموسيقى وصراع الرمز للغة وصراع الشخصية في الدراما.
في مجموعة (عصفور الصمت) للشاعر عبد الستار جبر الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة 2009 ، نجد أن مقولة التفاعل النصي متجسدة فيها بشكل بارز، فالقراءة المتأنية لقصائد المجموعة تكشف عن بنية مجسمة وليست أحادية فالبناء الكلي للفضاء الشعري يكشف عن دأب متواصل لاستبدال في المواقع والبروز والتأثير بين بنية (المجاورة) التي هي مركز إشعاع الشعرية النثرية المتواشجة مع فنون السرد والدراما والسيناريو من جهة وبين بنية (الاستعارة) التي تجعل من النص أكثر التصاقا بكينونة القصيدة بوصفها معمارا لغويا بالدرجة الأولى وان حاولت الامتداد والتجاوز، بين هاتين البنيتين مع بنية التشكيل في الإحالة إلى فضاء اللوحة وهندسة التنسيق العروضي شيد (عصفور الصمت) بوصفه معماراً هرمياً مجسم الأبعاد لا تفتح مغاليقه إلا بتتبع اثر تلك الابعاد.
الصورة السمعبصرية (السيناريو):
الصورة السمعبصرية ليست مجرد حالة مرئية فحسب بل هي مركب من الشيفرات الداخلية المتكونة من اللون والعمق والإضاءة والتكوين، وعند البحث عن التنافذ بين لغة الشعر ولغة الشريط المتحرك فلاشك أن هذا التنافذ لا يتحقق إلا من خلال الوسيط النوعي بين فن الكتابة وبين الصورة المعروضة وهو فن السيناريو الذي هو سلسلة من آليات الإحالة من نسيج النص الأدبي وشكله الثنائي (المقروء/المتخيل) إلى شكله الثلاثي (المرئي/المسموع/المتحرك) من خلال حركة آلة التصوير وحركة الشخصيات وحركة الأشياء داخل إطار الصورة (عملية كتابة بالصورة).
الوحدة الصغرى لبث المعلومات في السيناريو هي المشهد وكل مشهد يجب أن يقع في زمان ومكان واحد ويتم تحميله بالتفصيلات والدلالات أما وسائل هذا التحميل فتتنوع ومنها (الإطار) أي انتقاء التفاصيل الأكثر أهمية كاختيار جزء من المكان أو جانب من جوانب الشخصية، والإضاءة حيث تتناوب الموجودات بين الظل والإضاءة و(العمق) أي ترتيب الأشياء والأجسام وفق أبعاد متعددة و(المونتاج) وحركة (آلة التصوير) والتلاعب بعنصر ( الزمن)، في قصيدة (بوصلة الرحيل) هنالك مشهد وثائقي لحياة الناس في جنوب العراق إبان الحرب، يبدأ المشهد بالشكل التالي:
(على ورق لم تفتض بكارته الحاسبات بعد
سأمنحك بوصلة الرحيل
فجدف بقاربنا إلى الجنوب
لأملأ كفيك بأكداس السمك الميت
وبعيون الأطفال الجائعين
وعلى حصيرة من البردي الناشف والنائم فوق الأرض
تفضل بالجلوس
ثمان سنين والمطر يهاجر
والصباح أصبح له طعم الملح)
تنبئ البداية عن قصدية في خلخلة ثبوتية النص الشعري وفتح نوافذ على فنون مغايرة من خلال تلك المقابلة بين الورق (القصيدة) وبين بوصلة الرحيل (حركية المشهد) فكان هاجس الرغبة في تجاوز لحظة التدوين بما فيها من سكونية وركون إلى لحظة تصوير المشهد بما فيها منودينامية وتشويق.
بعد تبيان هذا الهاجس تتجه عين الكاميرا صوب المجداف (فجدف بقاربنا إلى الجنوب) بما تحمله هذه اللفظة من حمولة دلالية فمن ناحية يمثل المجداف والقارب أهم ملمح من ملامح حياة السكان في الاهوار حيث هو وسيلتهم الوحيدة في التنقل والتعارف والاكتشاف (تأطير الصورة بالتفصيل الأكثر أهمية) من ناحية أخرى بما تمثله حركة المجداف من ارتدادات حسية لفضاء الصورة البصرية في تزامن حركة المجداف مع سير القارب وإنسان الريف الذي يمسك المجداف، والصورة السمعية (صوت المجداف وهو يمخر عباب الماء) ،ثم يأتي الشاعر (كاتب السيناريو) إلى ذكر مفردة الجنوب ليرسخ البعد المكاني التواصلي مع المتلقي وكأنه صاحب قضية ويدعو الجميع لتبنيها فهو لا يترك مساحة للإيحاء والمواربة، المباشرة وحدها من توصله إلى أهدافه ولاشك في أن المباشرة سمة مهمة من سمات تقديم الوثيقة .
ينتقل المشهد الوثائقي من البعد التمهيدي التعريفي بأجواء الاهوار إلى الأبعاد الدرامية المحتدمة في الكشف عن معاناة الناس هنالك (لأملأ كفيك بأكداس السمك الميت وبعيون الأطفال الجائعين) هنا تتعاضد الصورة المشهدية المتمثلة بتركيز الإضاءة على أكداس السمك الميت وعيون الأطفال التي تشع بالبؤس والحرمان مع المجاز اللغوي (أملأ كفيك بأكداس السمك وعيون الأطفال) و (حصيرة البردي الناشف والنائم فوق الأرض) لاستحضار أحاسيس مفعمة بالاستنكار والشفقة والرفض والاحتجاج على ما يتعرض له الناس هناك.
إن حرب الثماني سنوات وما نتج عنها من تجفيف لمياه الاهوار وقمع للإنسان كانت بمثابة حرب إبادة شاملة للحياة في هذه البقعة من العالم والتي تعد مهدا لأقدم الحضارات في التاريخ، هذا ما أفصح عنه المشهد الوثائقي بتصوير مكثف ومركز ومباشر ساهمت فيه عين الكاميرا الصادقة غير القابلة للتحريف وإطار اللقطة المعبرة، أما الوسائط اللغوية التي استخدمت بالعبور بالشعر إلى ضفاف السيناريو فمن أهمها إعطاء الأفعال سمة الآنية بالفعل المضارع والأمر والفعل كان حركيا، وقد استخدم حرف الجر (الباء) للانتقال من لقطة إلى أخرى، فضاء التنسيق الهندسي للسطر الشعري ساهم بدوره في إيجاد التأثير المنشود فنلاحظ أن التنسيق السطري للبيت الشعري):
فجدف بقاربنا إلى الجنوب
لأملا كفيك بأكداس السمك الميت
اقرب إلى شكل القارب والمجداف في حركتهما على سطح الماء أما السطر الشعري:
(وعلى حصيرة من البردي الناشف والنائم فوق الأرض) فهو ممتد من اليمين إلى اليسار وكأنه الحصير المفروش على الأرض حيث التنسيق الهندسي للسطر الشعري على سطح الورقة قد ركز من فاعلية التذوق الحسي للمشهد الوثائقي . بعد ذلك نلاحظ أن الشاعر (السينارست) لم يكمل المشهد إلى مدياته الدرامية القصوى في أن يرتفع به إلى ذروة معينة ثم يعود بالانخفاض به إلى نهاية مناسبة، فسرعان ما تعود القصيدة أدراجها إلى التحصن بسور الغنائية الرومانسية كقوله:
(وعدنا على أكتافنا توابيت الخيبة
يسرقنا بكاء الندم
فنغرق في دموع التشرد)
فالشاعر الذي رفض ارتهان اللغة والورق وأبحر في عوالم الصورة المشهدية المفعمة بالحركة والفعل والألوان سرعان ماعاد إلى رحم القصيدة (الأم).
وفي نص (عقارب متآكلة ) هنالك مشهد فيلمي لشتاء حزين متشح بالرحيل والانتظار، يبدأ المشهد بالتالي:
(إذا
لنا ميتة أخرى
ونبدأ من جديد الحكاية
اقذف إلى الموقد جمرتين من قلبك
كي ترى احتراق الكلمات
التي بكت من اجل رحيل الجدة)
محاولة أخرى للانزياح بالشعر إلى تخوم جديدة ،هذه المرة نحو سردية (الحكاية) تروى القصة التي يريد الشاعر اطلاعنا عليها بأسلوبية السرد المشهدي ( السيناريو) موضوع الحكاية هو الموت بمعناه المادي (الفقد والرحيل) ومعناه المعنوي(جدب الحياة وخواء الروح) ولاشك أن ثيمة الموت وارتداداتها الفكرية والشعورية ثيمة بؤرية في قصائد المجموعة بأكملها فالموت يقف شاخصاً بصوره المختلفة مهيمنا على فضاء النص ،هذا ما أكده الشاعر في المقدمة (فليس هنالك أكثر موتا من الحياة)،هكذا إذن الموت والحياة وجهان لعملة واحدة هي الوجود وليس بينهما تنافر بل تكامل وتناغم ففي طيات كل منهما يختبئ الآخر، المدرسة الرومانسية في الفن بمنهجيتها وثوابتها أكدت على جملة مواضيع منها الموت، التشاؤم، الطبيعة، التصوف وقصائد المجموعة بامتزاجها وتفاعلها مع هذه الموضوعات قد نسبت نفسها للشعرية الرومانسية. بالعودة إلى السرد المشهدي هيأ الشاعر (السينارست) لأجواء المشهد بذكر زمان ومكان الحدث، الزمان فصل الشتاء /المكان (البيت) الحدث (رحيل الجد) الانفعال (الحيرة والألم) بداية المشهد، تتصاعد نار الموقد معلنة احتراق القلب بالحزن لرحيل الجد واحتراق الأفكار (الكلمات) باليأس والخوف والانتظار، ينهض فعل الرؤية مع معطيات الحس شاهدا على اختزال الأفكار والمشاعر إلى صورة متحركة (كي ترى احتراق الكلمات التي بكت من اجل رحيل الجدة) بعد البداية تتصاعد الأحداث:
(وتدثر بصمت الجدران المرتجفة من الخارج
هكذا يولد الشتاء من رحم الدموع
ويموت المطر في العيون
فتظل الرياح تبحث عن مأوى
تطرق الأبواب والصمت الذي تكسر في رعشاتنا
تتشرد في الشوارع
وعلى الأرصفة تسند رأسها الجريح
لا وقت للانتظار.
يتحرك المشهد على مستويين دراميين: الداخل/الخارج، البيت/الشارع، الحركة/السكون، الإنسان/الطبيعة، الخوف/التمرد وعن طريق المونتاج اللغوي المتمثل بالاستعارة التشخيصية وتراسل المدركات تم الدمج بين الداخل والخارج في صورة واحدة (مشهد واحد) كالآتي:
صمت الجدران (داخل)، المرتجفة من الخارج (خارج) ، يولد الشتاء (خارج)، رحم الدموع (داخل)، يموت المطر (خارج) العيون (داخل) تتشرد في الشوارع (خارج) الصمت الذي تكسر في رعشاتنا (داخل) ، الحزن والغضب على رحيل الجد (رمز الجذور والأصالة) قد استحال إلى حالة مرئية من خلال غضب الطبيعة وحزنها في الشتاء فكانت المقابلة بين عنف حزن الطبيعة وسكون حزن الإنسان بين الرغبة في التمرد وبين الخوف والاستسلام مشهدا دراميا غاية في التكثيف والشاعرية ،وقد زاد من عمق تأثيرها أفعال الحركة وما ترسمه من خلفيات حسية ورمزية للصورة (تبحث عن مأوى، تطرق الأبواب، تتشرد في الشوارع، تسند رأسها).
في نص (المطر والرصاص) هنالك سيناريو متكامل بكافة تفصيلاته وجزئياته وامتداداته السردية والدرامية وليس مشهدا مجتزءاً كالذي ذكر آنفاً، في المطر والرصاص حدث درامي مفصل محكوم بحالة شعورية واحدة وموضوع محدد ومحكوم أيضاً بشبكة من المشاهد الفيلمية المتتابعة المتميزة بوجود الأحداث والشخصيات والحوارات. النص(السيناريو) يحكي قصة مدينة عراقية حدودية تعيش ويلات الحرب والقتال ،يبدأ السيناريو
(يبكي المطر والرصاص
فتبتل الأرض بالألم
الأشجار تلبس الحداد
والطيور المهاجرة تطأطئ الرؤوس في موكب التشييع
ولون العيون الحزينة كالقهوة في فنجان عتيق
ولوحة البيوت المهدمة تتناثر كزجاج مكسور)
الشريط المتحرك والقصيدة كلاهما يسعيان للتوحد بالحالة الشعرية وهنا تتحد القصيدة بالسيناريو لخلق الحالة الشعرية، يمتزج رمز الحياة (المطر) مع رمز الموت (الرصاص) في خلق مشهد فزع ورعب وخوف من أهوال الحرب، فالرجع المحسوس لصوت ورؤية المطر مع صوت ورؤية الرصاص يحدث إحساس بالهلع غير مسبوق، ثم تنتقل الكاميرا للتجوال وتصوير آثار الحرب على الأشجار، الإنسان، البيوت، أما صورة الطيور وهي تطأطئ الرؤوس في موكب التشييع فتلك لقطة نادرة بالغة التأثير فالهدف من الصورة المتحركة هو الوصول إلى كينونة اللقطة بوصفها بنية نسقية تمتلك تنوعيات في التعبير والدلالة والتأثير في اللقطة الماثلة يتحد حزن الأرض والبشر بتوديع القتلى بحزن السماء من خلال صورة الطيور الحزينة في موكب التشييع.
ولابد من أن نشير إلى قدرة الشاعر(السينارست) على شحذ طاقات الرؤيا (السمعبصرية) بهذا القدر من الأسماء والأفعال والتراكيب المختزلة في طياتها لحركة متواصلة ومدركات حسية وشعورية غير متناهية .
المشهد الثاني :
(البندقية في تابوت رمادي
ومن فوهتها يتسلل جندي أبله
يحدق هنا وهناك
ثم يسقط في المدن القاحلة
يحلم بالسجائر والأجساد العارية
والشاي الساخن أمام الموقد
التي ينبعث منها خيط من دخان الشتاء
ثم يبكي كالمطر والرصاص)
يبتدئ المشهد بصورة فيلمية إيحائية بندقية ملقاة في تابوت ، إعلان موت البندقية إشارة لموت فكرة الحرب (أوهام البطولة ،زيف الانتصار)، الشخصية الرئيسية في السيناريو هو (الجندي الأبله) لاشك في أن الجندي يحمل هذه السمة لأنه يزج بحرب لايعرف أسبابها ولايدرك معناها فهو وغيره من الجنود بلهاء بالضرورة، ترسم سمات وانفعالات الجندي بالتفصيل، شاب بسيط ، أحلامه متواضعة ،يحن إلى بيت العائلة حيث حنو الأم والأب وجلسات الشاي قرب الموقد (مشهد استرجاعي)، يحلم بامرأة يتزوجها، لكن الحرب بقسوتها وهمجيتها قد حالت بينه وبين أحلامه البسيطة وأعطته خيارا واحدا لامفر منه هو الموت فماذا يفعل (ثم يبكي كالمطر والرصاص).
بعد مشهد المدينة المحتضرة ومشهد الجندي الأبله يصور المشهد التالي حياة الجنود على جبهة القتال :
(هنالك البقية ينحشرون في الخنادق كالجرذان
ولون الأرض يطلي أجسادهم المنكمشة
يحلمون بالشوارع، الحانات، السيارات
- الليلة هناك مدينة ترقص حتى الفجر
صرخ الجنود، همس احدهم
- والغجر
- ستتعرى إحدى المومسات على ضوء القمر
- والخمر
-براميل يمكنك السباحة فيها
هتفوا للنصر
-هواواوا)
الجنود الآخرون لايختلفون في الموقف والشعور عن الجندي الأبله فجميعهم ضحية الحرب الطائشة ، كان للكاميرا هنا دور كبير في تصوير معاناة الجنود وهي تصور ضيق الخنادق وهي تكاد تطبق على أجسادهم وتحبس أنفاسهم فيتكورون فيها كالجرذان في المصيدة فكانت عين الكاميرا وإطار اللقطة بتركيزها على حجم الخندق وانحشار الأجساد وغبرتها فيه، الجنود المنكوبون يتناسون مأساتهم بالسخرية والضحك، يطيرون بخيالاتهم إلى مدن أخرى لاتعرف الحرب، مدن النساء والخمر والرقص والغناء فيضحكون ويرقصون في محاولة للنسيان، وهتاف الجنود للنساء والخمر بدلاً عن النصر هو تجريد الحرب من محتواها الإيديولوجي، المشهد مكتمل بأحداثه وشخوصه وحواره وخلفياته الزمانية والمكانية وهو معد للانتقال إلى شاشة العرض السينمائي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.