في هذه السلسلة من حكاية غنوة أحببت أن أتحدث في هذه الحلقة عن شعراء الأغنية من أهل الحكم والسلطان ولا أدري ما الذي ذكرني بذلك! لكنني اعتقد بيني وبين نفسي أن كلمات القصيدة ولحنها وأداءها السبب في ذلك حيث وجدت أن هذه الأغنية جمعت بين كل المحاسن ولم أستطع أن أمنع نفسي من التحدث عنها عبر هذه الصحيفة التي وجدت نفسي من خلالها من أكبر المحظوظين لقبولهم ما أكتب ونشر وما يختلج في صدري لذا فأنني أستأذن القارئ أن يتسع صدره مثلما أتسع صدر هذه الصحيفة الغراء ولكي لا أطيل عليكم فأن المحاسن التي تتحدث عنها تتمثل في أن قائلها مثلما أسلفت رجل حكم وسلطان هو (يزيد بن معاوية بن أبي سفيان) ذلك الشاب الأموي الذي أصبح خليفة للمسلمين بعد والده حيث جمع بين رقة الإحساس وعذوبة الكلمة من جهة وقوة الحكم والسلطان من جهة أخرى وحكم الشعوب بسلطانه وقوته مثلماً أسر القلوب بشعره ورقته، في هذه الحلقة من سلسلة «حكاية غنوة» سوف نتحدث عن قصيدته الرائعة «أراك طروباً» التي يتحدث فيها عما حل به عندما شاهد (صدفة) امرأة من أهل البادية سلبت قلبه وعقله فأنشد يقول: على شاطئ الوادي نظرت حمامة فطالت علي يا حسرتي وتندمي أشير إليها بالبنان كأنما أشير إلى البيت العتيق المعظم خذوا بدمي منها فإني قتيلها ولا مقصدي إلا تجود وتنعم ولا تقتلوها إن ظفرتم بقتلها ولكن سلوها كيف حل لها دمي وقولوا لها يا منية النفس إنني قتيل الهوى والعشق لو كنت تعلم ولا تحسبوا أني قتلت بصارم ولكن رمتني من رباها بأسهم وعندما يفتضح عشقه وهواه لتلك البدوية يسر بذلك الهيام للمقربين من حاشيته وجلسائه واصفاً إياها بصورة رائعة تجعل من سامع ذلك الوصف يهيم عشقاً هو الآخر بتلك البدوية العربية. مهذبة الألفاظ مكية الحشا حجازية العينين طائية الفم لها حكم لقمان وصورة يوسف ونغمة داؤود وعفة مريم أغار عليها من أبيها وأمها ومن خطوة المسواك إن دار في الفم أغار على أعطافها من ثيابها إذا البستها فوق جسم منعم وأحسد أقداحاً تقبل ثغرها إذا أوضعتها موضع اللثم في الفم ولعل الفنان اليمني الخضرم محمد مرشد ناجي «المرشدي» الوحيد الذي قدم هذه القصيدة قبل أكثر من ثلاثين عاماً ملحنة ولا زالت تلقى صدى واسعاً حتى الآن. والحكاية الذي أتذكرها عن هذه العنوة القصيدة أن أمير قطر السابق الشيخ خليفة بن حمد طلب (بالواسطة) قبل أكثر من خمسة وعشرين عاماً في ظل انقطاع العلاقات القطرية اليمنية الجنوبية آنذاك بواسطة دولة أخرى من الحكومة الإشتراكية اليمنية السماح للفنان المرشدي بالسفر إلى قطر كي يسمع من المرشدي تلك الغنوة القصيدة على الطبيعة فقد كان الشيخ خليفة عربياً صميماً كأجداده ممن يقدرون ويتذوقون الشعر والأدب والفن الرفيع، فقد أشتهرت هذه القصيدة كواحدة من أجمل قصائد الغزل الوصفي ووصف لوعة شوق المحب وجمال وفتنة الحبيب، وأثيرت حولها الشائعات عن حقيقة قائلها، حيث استغرب البعض وأنكروا على يزيد بن معاوية أن يستطيع قول ذلك الكلام البديع المليء بالمشاعر الإنسانية الصادقة التي لا يقوى ولا يستطيع من كان مثله منشغلاً بأمور الحكم ومولعاً بالهوى والعشق أن يقول مثل ذلك الشعر العاطفي ورأوا في ذلك تناقضاً واضحاً حيث يقولون إنها للشاعر الفصيح زياد إبن أبيه الذي أشتهر بفصاحته وبلاغته الخطابية في عهد الإمام علي بن ابي طالب «كرم الله وجهه» وقربه معاوية ابن سفيان «رضي الله عنه» إليه بعد مقتل سيدنا علي «كرم الله وجهه» إتقاءً للسانه وأطلق عليه اسم زياد بن معاوية وكان من ندماء زياد أيضاً كما قرأت في كتاب المستطرف بيتين من الشعر قالها الشاعر أبن أبي الرفاع للخليفة عبد الملك بن مروان رداً على سؤال الخليفة له عن النساء حيث قال: قضاعية الكعبين كندية الحشا خزاعية الأطراف طائية الفم لها حكم لقمان وصورة يوسف ومنطق داؤود وعفة مريم والله أعلم. وإذا كان الفنان محمد مرشد ناجي قد قدم القصيدة ملحنة قبل أكثر من ثلاثين عاماً فإنه على حد علمي لم يلحنها أو يغنيها غيره هذا لأن المرشدي قد أشبع كلمات القصيدة لحناً جيداً استوحاه من التراث اليمني العريق وسيظل لحنه يذكرني بالقصيدة، ويقول بعض الملحنين الموهوبين أنه مهما حاول البعض تأليف لحن جميل آخر فإن المرشدي سيظل هو صاحب السبق في ذلك مسجلاً اسمه كواحد من أكبر الفنانين المثقفين العرب في الذاكرة التي تذكر له الكثير من الأعمال الغنائية الراقية. وكل غنوة وأنتم بخير