على البسيطة من هذا الكون هناك مخلوقة ملائكية تغلب عليها العاطفة الحانية والرقة الهانئة .. إنها ملكة الإحساس والاستعطاف .. تملك أسمى عاطفة في الوجود .. الأم .. ذلك الحب الذي لا يحد .. لكنه يظل ممتداً متغلغلاً في ثنايا الروح والقلب متجذراً إلى مالا نهاية .. متأصلاً في الأوردة والشرايين .. معطاءً دون انتظار المقابل .. لقد جاعت لتشبع ، وعطشت لتروي وبردت لتدفئ .. سهرت لينام الأبناء واحترقت لتضيء أناملها شموعاً يهتدون بها في دروب الأيام . . ومثلما يقول شكسبير أنه ليس في العالم وسادة أنعم من حضن الأم ، وقول أندريه غريتري أن من روائع خلق الله قلب الأم ، فقد عبر الشعراء عن ذلك القلب بروائع قصائدهم التي كانت الأم لحناً شجياً لها .. . يقول الشاعر / حافظ إبراهيم : الأم مدرسة إذا أعددتها *** أعددت شعباً طيب الأعراق الأم روض إن تعهده الحيا *** بالري أورق أيما أيراق الأم أستاذ الأساتذة الألى *** شغلت مآثرهم مدى الأفاق ويقول معروف الرصافي ولم أر للخلائق من محل *** فحضن الأم مدرسة تسامت حقاً إنها مدرسة عظيمة سامية ليس لها مثيل ، تسامى دورها فوق مستوى تعليم القراءة والكتابة أو أي علوم أخرى ، إنها مدرسة لكل المعارف والعادات والطباع التي ينشأ عليها كل منا ، هي أول مدرسة في الحياة .. وأعظم الأساتذة ذوو المآثر..وأجمل رياض الدنيا . وفي قصيدة شعرية رائعة يقول / إلياس فرحات : أنفقت عمرك ترقبين رجوعنا *** وتجوس كل سفينة عيناك وتحملين الريح كل رسالة *** خرساء لقتها فؤادك فاك مامرت النسمات بي عند الضحى *** إلا عرفت بطيبها رياك والبدر لم يظهر لعيني مرة *** إلا قرأت بوجهه نجواك أشقى النساء على الثرى أم قضت *** أيامها في وحدة النساك أبناؤها ملئوا البيوت وبيتها *** خال من الحداث والضحاك ترنو إلى الأفق البعيد بمقلة *** تبغي اختراق دوامس الأحلاك وقضت ملوعة الفؤاد وعينها *** تجتال بين الباب والشباك حسب المهاجر لوعة أن الأسى *** يقضي عليه ولا يرى مثواك فكم هي مؤلمة تلك اللحظات التي تقضيها أم رحل عنها الأبناء وتركوها وحيدة تقاسي آلام الفراق ووحشة الدار الخالية من الأحاديث والضحاك، وكم هي مؤلمة وقاسية تلك اللحظات التي تودع فيها الأم الحياة دون أن يرى الأبناء مثواها. وفي سياق متصل نطالع بعضاً مما دونه ( السياب ) وهو على فراش المرض في بلاد الغربة، إنه يذكر أمه وحنانها ولهفتها على رؤيته معافى تسعده أيامه : الباب ما قرعته غير الريح آه لعل روحاً في الرياح هامت تمر على المرافئ أو محطات القطار لتسائل الغرباء عني عن غريب أمس راح يمشي على قدمين وهو اليوم يزحف في إنكسار هي روح أمي هزها الحب العميق حب الأمومة .. فهي تبكي آه يا ولدي البعيد عن الدار لقد عبر الشاعر في هذا المقطع عن غربته والوحشة التي أرسلتها في نفسه تلك الريح التي تحرك الأبواب بل تهزها هزاً ، ويفزع إلى الأم البعيدة، فهو أحوج ما يكون إلى كلمة طيبة منها ، وهنا يرى صورتها في خياله ، وتصل إلى أسماعه عباراتها المفعمة بالحب لابنها تحاول أن تواسيه وأن تشد من عزيمته . وهذا دأب الأم .. إنها لاتسأم من عطاءات تقدمها بنكران ذات على مدى الأيام والسنين ، على الرغم من أن الكثيرين يختزلون حقوقها في يوم واحد من السنة وهذا يعد أكبر انتهاك لقدسيتها المؤيدة من الله سبحانه وتعالى .. فالخضوع لها دوماً وكسب رضاها أمنية تجمع كل البشر ، ويستثنى من ذلك كل من هو عاص وعاق . يقول الإمام الشافعي : وأخضع لأمك وأرضها *** فعقوقها إحدى الكبر ويقول أبو العلاء المعري : العيش ماض فأكرم والديك به *** الأم أولى بإكرام وإحسان وحسبها الحمل والإرضاع تدمنه*** أمران بالعضل نالا كل إنسان ونتأمل قول البردوني في رثاء والدته التي كانت وفاتها من المؤثرات الإنسانية العميقة في حياته، فقد رثاها بقصيدة هي نهر من الحزن الأليم : آه يا أمي وأشواك الأسى *** تلهب الأوجاع في قلبي المذاب كم تذكرت يديك وهما *** في يدي أو في طعامي وشرابي كم بكت عيناك لما رأتا *** بصري يطغى ويطوى في الحجاب أشواك من الأسى مزقت قلب شاعرنا الذي سكنته الأوجاع والأحزان بوفاة أمه التي تركت ذكرى لقلبها المعطاء في كل ملامح الحياة اليومية، وهذا ما عبر عنه الشاعر نزار قباني: بموت أمي .. يسقط آخر قميص صوف أغطي به جسدي آخر قميص حنان آخر مظلة مطر أرضعتني من ثديها وملأت جيوبي عنباً وتيناً وبرقوقاً وهزت لي نخلها فأكلت وفتحت سماواتها لي .. كراسة زرقاء فكتبت .. إنها ضوء الصباح فكيف أن دلف المساء ، لون الفجر فكيف لو غاب ، وروعة الإشراق ، فكيف إن احتجبت الشمس ! إنها حضن الكون الدافئ ونبع الحنان الذي لا ينضب .. . يقول المتنبي في حنينه إلى أمه : أحنُ إلى الكأس التي شربت بها وأهوى لمثواها التراب وما ضما ولعل من أروع ما قيل في وصف قلب الأم، قصيدة للشاعر إبراهيم المنذر، هي جامعة شافية وافية، يقول فيها: أغرى امرؤ يوماً غلاماً جاهلاً *** بنقوده كي ما ينال به ضرر قال أئتنى بفؤاد أمك يا فتى *** ولك الجواهر والدراهم والدرر فمضى وأغمد خنجراً في صدرها *** والقلب أخرجه وعاد على الأثر لكنه من فرط سرعته هوى *** فتدحرج القلب المقطع إذ عثر ناداه قلب الأم وهو معفر : *** ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر ؟ فكأن هذا الصوت رغم حنوه *** غضب السماء على الغلام قد أنهمر فأرتد نحو القلب يغسله بما *** لم يأتها أحد سواه من البشر واستل خنجره ليطعن نفسه *** طعناً فيبقى عبرة لمن أعتبر ويقول يا قلب أنتقم مني ولا *** تغفر فإن جريمتي لا تغتفر ناداه قلب الأم كف يداً ولا *** تذبح فؤادي مرتين على الأثر