مايزال الطب الشعبي حاضراً بقوة في الحياة اليمنية مرتكزاً في حضوره على التدني الفاضح لمستوى الخدمات الطبية الحديثة في مؤسساتنا الصحية التي يتراجع أداؤها يوم عن يوم، وكلما زادت وتائر التراجع زاد اقتراب الناس من الطب الشعبي. ممارسات هذا النوع من التطبيب تعيش حالة من البدائية، بينما تتقاذفها حالات الخلط بين الطب الشعبي كموروث علمي وتجارب متوارثة، مع الشعوذة والدخلاء على المهنة الذين يدعون المعرفة فيسيئون إليها. حقائق الواقع تكشف أن مايزخر به الموروث اليمني في هذا المجال كنز ضخم لكنه يحتاج إلا التقنين والتنظيم وإدخال بعض المعطيات الحديثة. وعلى الرغم من أن اليمن لا تزال إحدى أبرز الدول النامية التي يسود الاعتقاد بانتشار الطب الشعبي فيها على نطاق واسع نظراً للعديد من المعطيات والمؤشرات إلا أنه لا تتوافر معلومات دقيقة أو أرقام معتمدة نظراً لغياب الدراسات والأبحاث العلمية كغيرها من بلدان العالم المختلف. اهتمام عالمي منظمة الصحة العالمية حثت في إستراتيجيتها للطب الشعبي البديل والتكميلي 2002م- 2005م الدول الأعضاء على جمع وتوثيق معارف وتجارب الطب الشعبي فيها بغية دراستها والعمل على رفع مستوى أداء الطب الشعبي من حيث النجاعة والجودة والأمان وتأهيله لأن يندمج في أنظمة الرعاية الصحية الرسمية والاستفادة منه على نحو ايجابي في الخدمات الصحية التي تقدمها الحكومات لمواطنيها وقد استندت المنظمة الدولية في إستراتيجيتها هذه إلى نتائج عدد كبير من الدراسات البحثية والإحصائية التي أكدت أن إقبال الناس في مختلف دول العالم على أساليب الطب الشعبي والأشكال المختلفة للدواء النباتي والطبيعي قد عادت لتحتل حيزاً واسعاً من مساحة الاستعمال وأنها في حالة ازدياد مستمر بما في ذلك الدول المتقدمة مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية التي أفادت الإحصائيات بأن 42% من إجمالي عدد سكانها يستخدمون وسائل الطب الشعبي والأدوية النباتية في العلاج فيما تبلغ هذه النسبة في استراليا 48% وفي كندا 70% وفي بلجيكا 38% وفي فرنسا 75% وتظل الدول النامية يقينا الأكثر والأشد انتشاراً مع حقيقة أن لا دليل إحصائي علمي للحجم الدقيق لانتشار الظاهرة... وتظل اليمن واحدة من أبرز هذه البلدان.. ويقول الدكتور كمال عبد الفتاح الشميري بأنه وحتى العام 1994م لم تكن تتوفر أيه معلومات أو بيانات عن الطب الشعبي وفي العام 1994م تم إنشاء برنامج الطب الشعبي البديل والتكميلي بوزارة الصحة العامة وتفاعلاً مع دعوة منظمة الصحة العالمية إلى توثيق وجمع المعارف والتجارب حول الطب الشعبي فقد شكل الهدف الرئيسي لنشاطات البرنامج خلال العامين 2004- 2005م في البدء بتوفير قاعدة معلومات عن الطب الشعبي في اليمن يبنى عليها وضع سياسة وطنية للطب الشعبي البديل والتكميلي ونفذ في سبيل ذلك 3 دراسات ميدانية. الدراسات الميدانية وتمثلت الدراسة الأولى للبرنامج في محاولة المعرفة الميدانية لمدى انتشار وشيوع استخدام وسائل الطب الشعبي في العلاج وهدفت الدراسة إلى تقييم حجم الإقبال على وسائل الطب الشعبي في العلاج من قبل المواطنين ومدى العلاقة بين الإقبال على وسائل الطب الشعبي وتوفر الخدمات الصحية الرسمية ونفذت الدراسة من خلال النزول إلى ست محافظات هي عدن وتعز والحديدة وذمار ومأرب وحجة" وجمع بيانات وفق استمارات الاستبيان المعدة ضمن خطة العمل للبرنامج وجمع الاستمارات وتوفيرها وإدخال البيانات حاسوبياً وتحليلها بواسطة برنامج التحليل "spss". وبلغ العدد الإجمالي للعينة المستهدفة 2291 منهم 375 امرأة بنسبة 16.4% وقد تراوحت المؤهلات العلمية للمستهدفين بين الأمية والشهادات الجامعية وما فوقها.. وبحسب الدكتور كمال الشميري في ورقته المقدمة لورشة العمل الأولى للطب الشعبي البديل والتكميلي المنعقد في صنعاء منتصف ديسمبر الجاري فقد خلصت نتائج الدراسة إلى أن 50.2% يستخدمون وسائل الطب الشعبي في العلاج منزلياً و 76.3 يترددون على مقدمي الطب الشعبي 6.9% بشكل دائم و 69.4% لعلاج حالات معينة و 32.1% أكدوا بأن العلاج الذي تلقوه كان فعالاً ومأموناً فيما 6.6% أفادوا بظهور أعراض جانبية رافقت العلاج فيما أكد 27.6% بأن العلاج أدى إلى تحسن نسبي في الحالة لكنه لم يقض على المرض تماماً و 3.4% كان العلاج غير فعال ولم يتسبب في أضرار صحية وأكد 1.9% من العينة المبحوثة تضررهم صحياً من العلاج فيما رأى 15.8% بأن جميع مقدمي الطب الشعبي الذين تعالجوا لديهم كانوا ذوي كفاءات عالية وأفاد 62.2% بكفاءة البعض منهم وعدم كفاءة البعض وصرح 22% بعدم كفاءة مقدمي الطب الشعبي. وعلى صعيد العلاقة بين استخدام وسائل الطب الشعبي في العلاج والخدمات الصحية الرسمية خلصت الدراسة إلى أن 43.5% يعود استخدامهم لوسائل الطب الشعبي بتوفر أو عدم توفر خدمات صحية وانما لقناعتهم وثقتهم بهذه الوسائل ورأي 19.4% من المبحوثين اضطرارهم إلى الطب الشعبي لعدم توفر خدمات صحية رسمية في مناطقهم 37.2% عللوا ذلك لضعف مستوى أداء الخدمات الصحية الرسمية في مناطقهم و 13.8% لارتفاع كلفة الخدمات الصحية الرسمية بالنسبة لحالتهم المادية. ممارسو الطب الشعبي وركزت الدراسة الميدانية الثانية لبرنامج الطب الشعبي البديل بوزارة الصحة العامة والسكان على ممارسي الطب الشعبي بهدف جمع المعلومات منهم من حيث المؤهلات العلمية وسنوات الخبرة ومصدر الخبرة والأمراض التي يتخصصون في معالجتها والأساليب التي يستخدمونها في العلاج ومدى استفادتهم من أشكال الخدمات الصحية الرسمية ونفذت عبر النزول الميداني في مختلف المحافظات وتم تسجيل 668 ممارس وممارسة للطب الشعبي منهم 61 امرأة أي بنسبة 9.1% وقد خلصت الدراسة فيما يتعلق بالمؤهل العلمي إلى أن 49.4% أميون و 24.4% يجيدون القراءة والكتابة و 6.4% تعليم أساسي و 5.8% تعليم ثانوي و 3.3% دبلوم متوسط و 7.2% تعليم جامعي بكالوريوس وليسانس وماجستير ما نسبته 0.3% فيما تراوحت سنوات الخبرة للعينة المستهدفة ما بين 5 سنوات فأقل 8.8% و 60 سنة فأكثر و 0.7% وكانت أعلى نسبة لمن تتراوح سنوات الخبرة لديهم بين 10- 14 سنة وهي 18.9% وفيما يتعلق بمصدر الخبرة أوضح 44.8% أنهم توارثوها عن أبائهم وأجدادهم و 44.5% اكتسبوها شخصياً و 11.1% توارثوها وأضافوا إليها ما اكتسبوه شخصياً من المعارف فيما قال 1.6% أنهم اكتسبوها من خلال التأهيل العلمي ومن حيث الأمراض التي يتخصصون في معالجتها وجد أن أعلى نسبة من الممارسين يتخصصون في الأمراض التناسلية والمسالك البولية بنسبة 0.7% وأن من يقومون بعلاج حالات مختلفة دون تخصص 44.6% وخلصت الدراسة إلى أن هناك 7 أساليب علاجية يستخدمها ممارسو الطب الشعبي وهي النباتات الطبية بنسبة 31% من المبحوثين وتجير الكسور بنسبة 9.9% والحجامة بنسبة 4.6% والكي 7.8% والعلاج الطبيعي كالتدليك والمفاصل والعمود الفقري بنسبة 3% والمعالجة بالقرآن الشعبي بنسبة 11.7% وأساليب نفسانية وروحانية بنسبة 3% و 21.7% يستخدمون أساليب متعددة في العلاج... ومن حيث استفادة مقدمي الطب الشعبي من اشتمال الخدمات الصحية الرسمية أفادت النتائج بأن 43.9% يطلبون من مرضاهم إجراء فحوصات مخبرية أو صور إشعاعية و 17.4% منهم بشكل دائم و 26.5% في حالات معينة فيما يحيل 48.5% منهم مرضاهم إلى المستشفيات وإلى أطباء متخصصين. الخبرة ضرورية بعض الأطباء الشعبين الذين التقيناهم أكدوا بأنهم يمارسون المهنة من أرضية المعرفة والدراية والخبرة الطويلة ويقول السيد محمد الأهدل وهو طبيب شعبي يتخذ من زاوية بجانب قسم شرطة جميل جمال بمنطقة التحرير في العاصمة صنعاء مكاناً لعرض نماذج من الخلطات الدوائية التي يؤكد بأنها جمعت بطرق خاصة لمجموعة من الأعشاب الكبيرة الفائدة.. ويشير الأهدل إلى أن ممارسة الطب الشعبي بحاجة إلى معرفة دقيقة لمواعيد قطفها وطرق تجفيفها حيث يجب أن تجفف بعيداً عن الشمس في الصباح أو آخر النهار ويوضح بأنه يمارس المهنة منذ 25 عاماً وأنه يعكف حالياً على إعداد كتاب بعنوان "نور الأبصار والبصائر والدليل في الطب لكل حائر" ويؤكد بأنه من الأشجار ما هو سام وضار وأن ليس في مقدور أي شخص أن يمارس هذه المهنة.. ويشير إلى أنه يعالج الكثير من الأمراض المستعصية. من جانبه يرى إسماعيل أحمد صالح وهو طبيب أعشاب بعيادة سقطرى للتداوي بالأعشاب في صنعاء بأنه يعتمد على مراجع علمية قديمة في جمعه للأعشاب مثل كتاب القانون في الطب لأبن سيناء وغيرها لمعالجة كثير من الأمراض مثل إخراج الحصى من الكلى والروماتيزم وأمراض الجهاز التناسلي وغير ذلك من الأمراض. استخدام الأطباء الرسمين للوسائل الشعبية وتركزت الدراسة الميدانية الثالثة حول مدى استخدام الكادر الطبي الرسمي لوسائل الطب الشعبية في المعالجة وهدفت الدراسة إلى معرفة مدى الاستخدام إما بشكل رئيسي في المعالجة أو بشكل مكمل للعلاج وقد تم إجراؤها في العاصمة صنعاء لتوفر أكبر عدد من الأطباء ومن مختلف التخصصات وتكونت العينة المستهدفة من 258 طبيب وطبيبة من مختلف التخصصات الطبية منهم 54 طبيبة وتراوحت مؤهلاتهم بين الدبلوم المتوسط والدكتوراه وخلصت هذه الدراسة إلى نتائج تفيد بأن 12.8% يستخدمون وسائل الطب الشعبية بشكل رئيسي في المعالجة فيما 38.8 يستخدمونها كوسائل مساعدة في العلاج و 62% يفضلون وصف الأدوية النباتية عن مثيلاتها الكيميائية لمرضاهم.. وقيم الأطباء نجاعة الطب الشعبي في العلاج حيث رأى 11.6% بأنها فعالة ومجدية ورأى 55.4% بعضها فعال ومجد و33% يرون أنها غير فعالة. الاستنتاجات وتستنج الدراسات الميدانية الثلاث بأن الطب الشعبي يستخدم بصورة واسعة في اليمن بالتوازي مع الخدمات الصحية الرسمية ويكمل نقاط العجز فيها في المناطق التي تعاني من ذلك ويقوم مقامها بالكامل في المناطق التي تنعدم فيها كما تدل النتائج أيضاً على أن نسبة عالية نوعاً ما من ممارسي الطب الشعبي يتمتعون بكفاءة وثقة مرضاهم كما توجد في نفس الوقت نسبة من الممارسين على درجة منخفضة من الكفاءة بالإضافة إلى أن هناك نسبة عالية من الأطباء المؤهلين يستخدمون بعض أشكال الطب الشعبي بشكل رئيسي أو مساعد في العلاج التوصيات وتوصي الدراسات الثلاث بضرورة العمل على تنظيم مهنة الطب الشعبي ورفع مستوى أدائه والاستفادة من الأساليب الناجحة في الخدمات الصحية الرسمية والعمل على رفع كفاءة الممارسين من خلال البرامج التعليمية والتأهيلية والإمداد بالمعلومات والتسجيل للناجحين منهم وتشجيع العمالة البحثية المتعلقة بالطب الشعبي بمختلف أشكاله وتقييم طرق المعالجة وتصحيح أوجه القصور فيها والعمل على إيجاد نوع من التنسيق والتعاون وتبادل المعلومات بين ممارسي الطب الشعبي والكوادر الطبية العاملة في الخدمات الصحية الرسمية.. كما أوصت بالبدء الفوري لعمل حصر شامل للنباتات الطبية في اليمن وتصنيفها وتوثيقها وحفظ عينات مصبرة "محنطة" منها والعمل على إصدار قائمة وطنية أساسية للنباتات الطبية.