عندما صعدت برج (شل تاور) في جوهانسبرج حيث مقر حزب المؤتمر الوطني الأفريقي ومكتب الزعيم الأيقونة نيلسون مانديلا كان ذلك في شتاء عام 1992، الجزء الجنوبي من القارة الأفريقية جنوب خط الاستواء كان الوقت صيفا، وكانت عملية الانتقال السلمي للسلطة بين نيلسون مانديلا الذي أطلق سراحه من السجن في العام 1990 بعد 27 عاما قضاها خلف القضبان والرئيس فريدريك دوكليرك لم تكتمل بعد.. كانت الطوابق التي يشغلها شباب المؤتمر الوطني في ذلك الوقت مشحونة بالحماس والوطنية، وكانت الفرحة بالانتصار على نظام التفرقة العنصرية البغيض لا تحدها حدود. لم أكن سعيد الحظ لألتقي بالزعيم مانديلا في مكتبه حيث كان في رحلة إلى الهند وباكستان في ذلك الزمان، وجلست إلى شباب المؤتمر الوطني نقلت لهم من تلقاء نفسي مدى اعتزاز شباب القارة الأفريقية بتضحياتهم الجسورة التي قادت إلى هذا النصر العظيم، وفي الوقت ذاته كنت قد عقدت العزم على زيارة منزل الزعيم مانديلا في ضاحيه سويتو. وبالفعل ذهبت وفي ذهني كل الصور التي اختزنها عن أسرة مانديلا ورفيقة دربة ويني. كانت سويتو متربة وبائسة وأغلب منازلها من الصفيح ومن رحم تلك المعاناة ولد الأمل في أن تنهض الأمة الأفريقية من رمادها لتعيد كتابة التاريخ الحديث على وقع خطى النضال السلمي. عند عودتي في المساء إلى فندق ( أر. اس. هوتيل) حيث كنت أقيم استوقفني أحد ضباط الشرطة البيض عند مدخل الفندق وطلب أن نجلس لنحتسي كوبا من الشاي معا، وبدأ حديثه معي إن كنت قد قرأت الشروط التي منحت بموجبها تأشيرة الدخول إلى جنوب أفريقيا، وكنت قد حصلت على تلك التأشيرة من سفارة بريتوريا في العاصمة البريطانية لندن، ولم تطبع التأشيرة في الجواز لأن جنوب أفريقيا كانت مقاطعة من كل الدول العربية والأفريقية، أشرت بالإيجاب، وقلت أظنك تقصد البند الخامس الذي ينص على أن تستخدم التأشيرة للغرض الذي منحت من أجله.. ولم أكن قد التزمت بذلك. سألته ضاحكا: أنا أفريقي ومعجب بالزعيم نيلسون مانديلا ومعجب بنضالات هذا الشعب الأفريقي ضد التفرقة العنصرية، حدِّثني أنت: لماذا تهتم بأنني زرت مكتب مانديلا في (شل تاور) أو ذهبت إلى منزله في (ضاحية سويتو) .. أعاد لي البسمة ذاتها وسألني إن كنت مسلما وقد أومأت بالإيجاب، وأضاف: أنت تعرف المسبحة، قلت نعم.. قال: مانديلا بالنسبة لنا سواء كان سودا أو بيضا يمثل لنا الخيط الذي يمسك بحبات المسبحة، وأن هذا الخيط اذا ما انقطع فسيكون من الصعب إن لم يكن من المستحيل تجميع حبات المسبحة المبعثرة.. أعجبني التشبيه وأعجبني في الوقت ذاته تقدير هذا الضابط الأبيض للزعيم مانديلا.. وأنتم تعرفون بقية الحكاية. تذكرت هذه الواقعة وأنا أقرأ في صحف الأمس اأن جنوب أفريقيا قررت تحويل الأماكن جميعها التي تحمل دلالات رمزية في حياة البطل نيلسون مانديلا الى متاحف تروي ظمأ السياح العطشى إلى شهادات من حقبة الفصل العنصري حتى لو أوقعتها خطوتها هذه في حبال عبادة الفرد الذي يبلغ من العمر الآن 93 عاماً.