تعلمنا من حديث "جون ستيوارت ميل"، التنويري الأشهر، عن الحرية أن ثمة فرقاً جسيماً بين أن يكتب المرء "الاحتكار جريمة"، وبين أن يلقي الجملة ذاتها على حشد غاضب أمام متجر. في الأولى يمارس المرء حقه في التعبير. في الثانية يكون داعية فوضى.
تصفحت ملازم سام الغباري المعنونة باسم "اليمن بلدي أنا"، وليس "اليمن بلدي". وجدتها عنيفة، خالية من المعنى العلمي، ارتجالية، عشوائية، تحرض على السلالة الهاشمية بكل لغة ممكنة، تدعو لقتل الهاشميين بطرق عديدة "فالهاشميون قتلة ولصوص ومتآمرون وأجنبيون ودخلاء وفجار وفرس ومخادعون .. " إلى آخر تلك اللغة المدمرة.
في ملازمه يستخدم كلمة "الكائنات" ليعني بها الهاشميين. فهم مجرد كائنات دخيلة تستحق الإبعاد والطرد، لأن اليمن "بلده هو". عندما يتخلى عن وصفهم بالمجرمين يفضل منحهم درجة "كانئات"، أو مخلوقات.
سام الغباري شاب يمني مثابر، ليس متخصصاً في شيء بعينه، ولم تهبه الطبيعة حجماً كافياً من الدماغ، ذلك ما يجعله يعبث بالمواضيع الخطرة بدم بارد. وأغلب الظن أنه لا يعرف هذه الحقيقة.
عثرت عليه لأول مرة في واحدة من صحف الدرجة الرابعة في اليمن، قبل أكثر من عشر سنوات. في ذلك الوقت كان متخصصاً في لون شديد الانحطاط من الكتابة: يهاجم مسؤولاً حكومياً في ذمار دفاعاً عن آخر. أتذكر أسماء مثل "سيارة العمري"، وأسماء أخرى كانت تمثل المدى الأبعد الذي اكتشفته كتابة الغباري. وفي مرة كتب عن سيارة مسؤول حكومي في ذمار وفي الأسبوع التالي قال إن تلك السيارة تعرضت للاعتداء من قبل مسلحين يتبعون مسؤولاً آخر يعادي الجمهورية. لماذا يهاجم "مسلحون" سيارة واقفة؟ متعرفش.
أنا أحاول أن أتذكر وحسب، كانت أيام فكاهية ولم يكن للفتى منا آنذاك الكثير من الوقت للضحك. وحده سام الغباري، آنذاك، لم يكن منصرفاً للأشياء المهمة التي سيحتاج إليها فيما بعد.
يعود بعد وقت قصير ويكتب عن ذلك الآخر، الذي سبق أن هاجمه، معتذراً ومبجلاً وغاضباً من المسؤول الأول، الذي كان عبقرياً وعظيماً. ولا ينسى أن يلمز السيارة التي دافع عنها. حقيقي.
يعيش الرجل على أرجوحة، وسيكمل حياته بالطريقة ذاتها. ومن وقت لآخر سيضع قدميه على الأرض ويغير الأرجوحة.