الى أيّ مدى يستطيع النظام في إيران الذهاب في المواجهة مع المجتمع الدولي بشأن كلّ ما يتعلّق بالبرنامج النووي ل"الجمهورية الأسلامية"؟ هل يذهب الى النهاية أم يقبل العرض الأميريكي الأخيرالذي استهدف قبل أيّ شيء آخر تأكيد أنها القوة العظمى الوحيدة في العالم، ومعها المجتمع الدولي المتقدّم صناعياً أو حضارياً، لا يمكن ان تقبل بأنضمام إيران الى نادي الدول التي تمتلك السلاح النووي؟ يبدو جليّاً أن الولاياتالمتحدة تسعى، في تعاطيها مع النظام الإيراني، الى تفادي الأخطاء التي ارتكبتها قبل حرب العراق وخلال الحرب وبعدها. الدليل على ذلك، انها تسعى الى وجود اجماع دولي على الأقتراح الذي قدّمته الى طهران. والحقيقة أنها تستهدف من خلال الاقتراح تقريب الصين وروسيا من الموقفين الأميركي والأوروبي. والحقيقة أيضاً، أن الادارة الأميركية أقدمت على خطوة تكتيكية جديدة من أجل ضمان تأييد الصين وروسيا لمواقفها من إيران في مجلس الأمن. إنها تريد القول بكلّ بساطة أنه لو كانت إيران صادقة في تعاملها مع العالم وأذا كانت تسعى فعلاً الى إمتلاك الطاقة النووية لأستخدامها في المجال السلمي، لماذا ترفض أذاً العرض الأميركي الذي ترافقه حوافز محدّدة والذي يوحي أن واشنطن قدّمت تنازلات كثيرة وكبيرة لطهران؟ في مقدّمة التنازلات التي قدّمها الأميريكيون استعدادهم للدخول في مفاوضات مباشرة مع طهران تتناول الملف النووي الإيراني. ويستطيع من لديه بعض الذاكرة العودة الى الماضي القريب والاعتراف بأن مثل هذه المفاوضات هي في الأصل مطلب إيراني. والدليل على ذلك، أنه عندما عرضت الأدارة الأميريكية على النظام الإيراني اجراء مفاوضات للبحث في مستقبل العراق، كان الرد الذي صدر عن طهران أن المطلوب أجراء محادثات ومفاوضات تتناول كلّ الملفات العالقة بين البلدين. أن الأدارة الأميريكية تبدو حالياً على استعداد للرضوخ لما تطلبه طهران. لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، هل ايران على استعداد لاظهار أنها لا تمتلك طموحات في مجال امتلاك السلاح النووي؟ ما تريد الادارة الأميريكية أبلاغه للعالم والحريصين على إيران أنها على استعداد للذهاب بعيداً في استرضاء نظام ينتمي من وجهة نظرها الى "محور الشرّ"، بل أنها على استعداد لتجاوز عقد الماضي القريب، بما في ذلك الاذلال الذي تعرّضت له الولاياتالمتحدة لدى اقتحام "طلاب" إيرانيين سفارتها في طهران في نوفمبر من العام 1979 وأحتجازهم الديبلوماسيين في السفارة 440 يوماً في عملية أدّت في الواقع الى سقوط الرئيس جيمي كارتر أمام منافسه الجمهوري رونالد ريغان. وكان السبب الأوّل لعدم تمكن كارتر من تجديد ولايته ظهوره في مظهر الرئيس الضعيف أمام التحدي الذي واجهته ادارته لدى تعاطيها مع أزمة الرهائن... وجاءت النتيجة أنتصاراً كبيراً لريغان أمّنته له إيران عندما رفضت أطلاق الرهائن قبل موعد أجراء الأنتخابات. وأنتظر من كان يتحكّم بالرهائن الأميركيين تسلم ريغان مهماته رسمياً في يناير من العام 1980 ، كي تقول طهران أنّها تمسّكت بالرهائن حتى اليوم الأخير من ولاية كارتر وأنّها أصرّت على أنزال عقاب شديد به وتأديبه بسبب تصرفاته المعادية ل"الثورة الأسلامية".. في حال نظرنا الى عمق الخلافات بين أميريكا وإيران، نجد أن ادارة بوش الأبن لعبت لعبة ذكية تدخل في مجال العلاقات العامة وذلك باعلانها أنها مستعدّة بالفعل لفتح صفحة جديدة مع طهران شرط تخلّيها عن تخصيب اليورانيوم، أي شرط التزامها شروط الوكالة الدولية للطاقة النووية التي سبق لها أن أبدت شكوكاً كبيرة في النيّات الإيرانية. ومن هذا المنطلق، يفترض في النظام الإيراني التعاطي بجدّية كبيرة مع العرض الأميريكي الذي يوحي بأن الأدارة الحالية في واشنطن تعمل على أيجاد نوع من الأجماع الدولي في شأن كلّ ما له علاقة بالملف النووي الإيراني على العكس مما فعلته خلال الحملة التي سبقت شنّ الحرب على العراق. ما يبدو ملفتاً، أن الادارة الأميريكية تفادت حتى الآن أيّ نوع من الاجراءات الاحادية الجانب مع إيران، وقد سايرت في البداية الأوروبيين وتركت لهم المجال الكافي للتعاطي مع إيران في محاولة لايجاد مخرج يؤدي الى الحصول على الضمانات اللازمة في شأن برنامجها النووي. ولمّا فشل الأوروبيون، تركت روسيا تقدم مبادرة خاصة بها تقضي بتخصيب اليورانيوم المعادل للمفاعل الإيراني في أراضيها. ولم يكن حظ الروس مع الإيرانيين أفضل من حظّ الأوروبيين الذين لديهم أصلاً شكوكهم العميقة في ما تفعله إيران. في ظلّ الفشلين الأوروبي والروسي، تقدّمت الولاياتالمتحدة بمبادرتها التي نجحت، على الأقل حتى الآن في ايجاد نوع من الاجماع الدولي عليها، وربما من الأصح القول أن هناك أجماعاً على حدّ أدنى من الشروط التي لا بدّ لإيران من ألتزامها في مقدمها الأمتناع عن تطوير برنامجها النووي بهدف الحصول على القنبلة الذرية . وسيسهّل هذا الاجماع نقل قضية الملف النووي الإيراني الى مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة في مرحلة لاحقة. ومعنى ذلك أن واشنطن، التي أعتمدت سياسة الخطوة خطوة، سجّلت نقطة على طهران. وسط التجاذبات القائمة، لا يمكن ألاّ الاعتراف بأن العالم يتعاطى مع الملف النووي الإيراني بجدّية بالغة وحذر شديد. وهذا ما يبدو أن على إيران أدراكه اليوم قبل الغد. وربما كان أهم ما على طهران التنبّه له, أن العالم لا يستطيع السماح لدولة تسعى الى أن تكون القوة المهيمنة على الخليج وعلى ما هو أبعد من الخليج في الحصول على السلاح النووي. وبكلام أوضح، ليس مسموحاً لإيران التي صارت لاعباً أساسياً في العراق بأن تضع يدها على جزء من البلد، خصوصاً على جنوبه الغني بالنفط. وليس مسموحاً لإيران بأن تستمر في وضع القادر على تفجير الأوضاع في جنوب لبنان أو حتى في مناطق لبنانية أخرى، بما في ذلك بيروت بواسطة "حزب الله". وليس مسموحاً لإيران أن تستمر في متابعة سياسة ملء الفراغ الذي خلّفه الأنسحاب العسكري السوري من لبنان والذي حوّل سوريا من حليف للنظام الإيراني الى مجرد تابع له. وهذا ماأكتشفه بعض العرب، على رأسهم المملكة العربية السعودية، متأخّرين. وليس مسموحاً لإيران بأن تكون القوة المهيمنة على الخليج وثرواته النفطية. وهذا يعني أن يكون العالم الصناعي تحت رحمتها. وفي هذا السياق، يفترض على النظام في طهران أن يتذكر أن نظام صدّام حسين دفع في النهاية ثمن محاولته السيطرة على الكويت وجعل نسبة عشرين في المئة من الاحتياط النفطي العالمي تحت تصرّفه. وأذا شئنا الذهاب الى أبعد من ذلك، نجد أيضاً ألا مصلحة عربية لأن تكون القوّتان الأقليميتان اللتان تتحكمان بالشرق الأوسط، أي بمنطقة غنية بالنفط ذات أكثرية عربية، إيران من جهة واسرائيل من جهة أخرى. لا يمكن تجاهل أن ثمة مصلحة عربية في تفادي أية مواجهة ذات طابع عسكري بين إيران من جهة والولاياتالمتحدة ومعها أوروبا من جهة أخرى لدى العرب الصادقين والواقعيين، خصوصاً في الخليج، مصلحة حقيقية في اقناع النظام في إيران بأن أميركا في غاية الجدية عندما تقول: إنها لن تسمح لها في الحصول على السلاح النووي. ان إيران التي تتحكّم بلبنان والعراق والخليج وفلسطين، إيران ذات الطموحات الكبيرة التي تُختصر بالرغبة في أن تكون شرطي الخليج المعترف به دولياً وصاحبة اليد الطويلة جداً والتي تصل الى ما هو أبعد من الخليج، لا يمكن أن تكون مقبولة من العالم ومن الولاياتالمتحدة تحديداً وذلك على الرغم من كل الصعوبات التي تواجه السياسة الأميركية خصوصاً في العراق. هل من يريد أستيعاب ذلك في طهران، أم أن الشعور بأن الهزائم التي تلحق بالأميركيين في كلّ مكان من المنطقة، بدءاً بالعراق وأنتهاء بفلسطين حيث تعتبر "حماس" جزءاً لا يتجزّا من الحركات المنتمية الى ما يمكن تسميته المنظومة الإيرانية، تحول دون رؤية موازين القوى اقليمياً ودولياً واجراء تقويم حقيقي لها مرتبط بالواقع أوّلاً؟ في حال كانت إيران ترى، من منطلق ديني أوّلاً، تباشير النصر في كل مكان، وأن ذلك سيتوّج بأنتصار كبير على الولاياتالمتحدة، يمكن القول من الآن أن العرض الأميركي خطوة على طريق مواجهة بينها وبين العالم. ولذلك من ألأفضل لطهران درس العرض جدّياً قبل الاقدام على أي خطوة ترتدي طابعاً تصعيدياً... مثل هذه الخطوة ستؤدي في المدى المتوسط ، أيه مع أقتراب السنة من نهايتها، الى نتائج كارثية على كلّ أهل المنطقة وليس على إيران وحدها...